في لغة لم يسبق أن استخدمها من قبل، تحدث رجل تركيا القوي رجب طيب أردوغان للمرة الأولى عن ترك منصبه. لم يقصد الرحيل قريباً، بل كان يُشير إلى ما بعد ولايته الثانية التي تنتهي عام 2028، قائلاً إن الانتخابات المحلية المقبلة خلال هذا العام ستكون الأخيرة له.
التصريح الأخير، عده البعض تغيراً في خطاب زعيم حزب "العدالة والتنمية" المحافظ، الذي لطالما شحن أنصاره بخطب نارية مليئة بالوعود، فضلاً عن إذاقة خصومه مرارة الخسارات خلال عقدين من وجوده في سدّة السلطة.
تصريحات أردوغان غير المسبوقة فتحت الباب أمام تساؤلات بشأن حقيقة رغبته في اعتزال الحياة السياسية، أو ما إذا كانت مجرد مناورة من شخصية اعتادت التلاعب بخصومها، أما في حال كان الرحيل رغبته فعلاً، فمن هي الشخصيات الأوفر حظاً في خلافة أردوغان بزعامة "العدالة والتنمية"؟ وكيف سيكون وضع الحزب أساساً إذا ما رحل فعلاً؟
الأطول بقاءً في السلطة
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن أن الجولة المقبلة من الانتخابات المحلية ستكون الأخيرة له، مؤكداً خلال اجتماع مع ممثلين وأنصار من مؤسسة الشباب التركية "TÜGVA" في مدينة إسطنبول، الجمعة الماضي، أنه "بموجب القانون، هذه الانتخابات هي الأخيرة لي"، مشيراً إلى أن نتائج الانتخابات المحلية سيكون لها تأثير كبير على خططه للخلافة السياسية.
وأعرب الزعيم البالغ من العمر 70 عاماً عن ثقته في أن حزب "العدالة والتنمية" الذي يتزعمه سيظل في السلطة حتى بعد تركه منصبه، معتبراً أن الانتخابات ستكون "نعمة للإخوة الذين سيأتون من بعدي. وسيكون هناك نقل للثقة".
ويُعد أردوغان السياسي الأطول بقاءً في السلطة خلال تاريخ الجمهورية التركية، وبعد انتخابات مثيرة في مايو 2023، أعيد تنصيبه لولاية ثانية مدتها 5 سنوات تنتهي في 2028، بعد تعديله للدستور، لتستمر فترة حكمه إلى عقد ثالث، بعد أن فاز خلالها بأكثر من 12 اقتراع منذ عام 2002.
وعلى عكس المراحل الأولى من صعود "العدالة والتنمية" إلى صدارة المشهد السياسي التركي، وما شهدته من إصلاحات اقتصادية وخدمية، لا سيما عندما كان أردوغان يتولى رئاسة بلدية إسطنبول، والتي تعاقب عليها ممثلو الحزب قبل إزاحتهم عام 2019، شهد الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة تراجعاً كبيراً، إذ فقدت الليرة أكثر من 80% من قيمتها مقابل الدولار.
إعلان رحيل أم حشد تعاطف؟
وعما إذا كان حديث الرئيس التركي هو تمهيد لاعتزال العمل السياسي فعلاً أو أنه مجرد مناورة سياسية لمحاولة استدرار عطف الناخبين قبل الانتخابات المحلية المقبلة، رأى يوسف كاتب أوغلو وهو سياسي ورجل أعمال تركي وعضو في حزب "العدالة والتنمية"، أن أردوغان "لا يحتاج إلى أن يستدر تعاطف أحد، ولم يستخدم هذا الأسلوب في أي فترة سابقة منذ دخوله المعترك السياسي مطلع ثمانينات القرن الماضي عندما كان رئيساً لفرع الشباب التابع لحزب الرفاه (آنذاك) في منطقة إسطنبول".
وفي حديثه لـ"الشرق"، قال كاتب أوغلو: "فاز أردوغان في كافة الاستحقاقات الانتخابية السابقة بفضل شعبيته المتنامية، وليس بسبب استخدام ورقة الابتزاز العاطفي. وإعلانه أن هذه الانتخابات هي الأخيرة له يُمثّل رسالة وداع حقيقية لأنصاره، وتضع النقاط على الحروف بالنسبة لمعارضيه، بأنه ليس كما يتم تصويره، السلطان المستبد الذي يتمسك بالحكم حتى الوفاة".
وتابع كاتب أوغلو "يحق للرئيس الذي أكمل السبعين عاماً وأمضى 40 منها في العمل السياسي، أن يترجل عن القافلة، ليستمر سباق التتابع، القائم على خير خلف لخير سلف"، وفق قوله.
على العكس من ذلك، لا يتفق الباحث التركي إسلام أوزكان مع هذا الرأي، إذ يعتقد أن "معارضي أردوغان ومؤيديه على السواء لم يجدوه مُقنعاً في تصريحاته التي أعرب فيها عن رغبته باعتزال العمل السياسي".
وذكر أوزكان لـ"الشرق"، أن استطلاعات الرأي المحدودة التي أجريت حديثاً تُشير إلى أن الشعب التركي "غير مقتنع بأن أردوغان سيترك السياسة بسهولة".
وأضاف "يمكن الاعتقاد أن ما يُفهم من كلام الرئيس التركي أنه مجرد بيان يهدف إلى حشد التعاطف".
إضعاف للحزب أم استمرار للمسيرة؟
في العام 1998 خرج حزب "العدالة والتنمية" من رحم حزب "الرفاه" بقيادة نجم الدين أربكان، ما مهّد لحقبة جديدة من التحولات السياسية في تركيا، أدت إلى تلاشي "الرفاه" في السنوات اللاحقة، وتصاعد أسهم "العدالة والتنمية" بشكل سريع، قبل أن يُتوّج ذلك بالوصول إلى سدة الحكم إثر النجاح الكبير في انتخابات عام 2004.
وبعد أن أصبح أحد أبرز التيارات السياسية في البلاد، بدأت التصدعات تضرب الحزب الوليد من الداخل، وشهد انشقاقات على مستوى قيادات الصف الأول، وفي العام 2019 أعلن أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي الأسبق، بعد عزلة امتدت لسنوات، تأسيس حزب "المستقبل"، الذي ضم قياداتٍ منشقة عن حزب العدالة والتنمية.
ثم سرعان ما أعلن وزير الاقتصاد الأسبق والقيادي المنشق عن "العدالة والتنمية" علي باباجان تأسيس حزب "الديمقراطية والتقدم" في 2020 بدعم من الرئيس الأسبق عبدالله غول، في ما اعتبر حينها تحدياً لأردوغان، الذي لطالما أنكر في مناسبات عدة الخشية من تأثيرات محتملة على شعبية حزبه بفعل استقالات قيادييه.
ونظراً إلى ارتباط نجاحات الحزب بشخصية زعيمه القوي، يتبادر إلى الأذهان تساؤل بشأن مصير "العدالة والتنمية" في مرحلة ما بعد أردوغان. هل سيكون أضعف أم أكثر قابلية لتجديد دمائه؟
عضو "العدالة والتنمية" يوسف كاتب أوغلو رأى أن ما سيحدث بعد انتهاء ولاية أردوغان عام 2028 هو "ترجل عن القافلة لدعمها وتقويتها بدماء جديدة متمرسة ومدربة ومخلصة لمسيرة الحزب"، لافتاً إلى أن "حزب العدالة والتنمية ليس مملوكاً لأحد، بل هو حزب مؤسسات ومنضبط كما أسسه الرئيس أردوغان، ولديه قوانين وهيئات تُسيّر أعماله جميعها".
واعتبر كاتب أوغلو أن من رحلوا عن الحزب تعود أسبابهم إلى "حب الأنا والرغبة في منافسة أردوغان، لكن الشعب التركي يعي هذه الحقائق جيداً، ولا تنطلي عليه حيل كهذه. والقضية ليست أن الرئيس أزاحهم، بل الحزب ومؤيدوه من أزاحوهم".
وأضاف "يُريد هؤلاء الخروج عن خط العدالة والتنمية القائم على العمل الجماعي والمؤسساتي، مثل أحمد داود أوغلو الذي كان مستشاراً لأردوغان ثم وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء ورئيساً للحزب، وهو شخصية إشكالية خسر الحزب في عهده انتخابات عام 2015 البرلمانية، وفقد الأغلبية قبل أن تُعطى رئاسة الحزب لخلفه بن علي يلدرم".
لكن في المقابل، يرى إسلام أوزكان أن "العدالة والتنمية" ليس حزباً سياسياً وفقاً لتعريفات العلوم السياسية، إنما هو "حزب يتمحور حول الأفراد إلى حد كبير".
وتابع "من الصعب جداً على حزب العدالة والتنمية أن يستمر بدون أردوغان. علاوة على ذلك، من المحتمل أن تدخل مراكز القوى المختلفة داخل الحزب في عملية صراع خلال فترة ما بعد الرئيس الحالي وتؤدي إلى تفكك الحزب. ولهذه الأسباب، يبدو من الصعب عليه أن يستمر في البقاء بعد أردوغان".
مع ذلك، يعتقد أوزكان أنه "إذا جاء زعيم سياسي يتمتع بشخصية كاريزمية مثل أردوغان، فقد يتغير الوضع".
من هو خليفة الزعيم؟
استطاع أردوغان إزاحة شخصيات عديدة في "العدالة والتنمية"، سواءً غادرت الحزب وشقّت طريقاً مختلفاً أو انكفأت في صفوفه الخلفية، ولذلك كثيراً ما تُطرح تساؤلات بشأن الشخصيات المرشحة لحمل إرث الزعيم القوي.
أشار كاتب أوغلو إلى وجود أسماء قوية مرشحة داخل حزب "العدالة والتنمية" لخلافة أردوغان، وأبرزهم، بحسب قوله، وزير الخارجية الحالي هاكان فيدان الذي يعتبر "رجل دولة بامتياز، وشغل مناصب حساسة في الدولة التركية، على غرار رئاسته من عام 2010 حتى 2022 للمخابرات التركية، وقبل ذلك رئيساً للهيئة التركية الدولية للمساعدات الإنسانية.
وأردف "فيدان يُعد أقوى المرشحين لخلافة أردوغان ورئاسة حزب العدالة والتنمية، لاسيما أنه يجمع بين الخبرة والعمل المؤسساتي وإدارة الشؤون الداخلية والملفات الخارجية".
من جانبه، ينظر إسلام أوزكان إلى خلافة أردوغان على أنها مسألة صراع داخل الحزب، موضحاً أنه "بينما يريد أردوغان أن يكون هو نفسه أو أحد أفراد عائلته "سرحات البيرق (شقيق صهره) أو بلال أردوغان (نجله)" خليفة له، هناك بعض المجموعات داخل الحزب لا تُفضل حدوث هذا".
وقال أوزكان: "تجدر الإشارة إلى أن أردوغان أو حزب العدالة والتنمية ليس هو صانع القرار الوحيد بشأن من سيكون خليفة الرئيس الحالي، كما أن نقاط الاتصال المختلفة داخل الدولة العميقة تؤثر أيضاً على هذا القرار. ومن ناحية أخرى، من المرجح أن يتلقى وزير الخارجية الحالي هاكان فيدان الدعم من دوائر مختلفة في البلاد في فترة ما بعد أردوغان".
ومع بدء ولايته الثالثة رئيساً للبلاد في يونيو الماضي، عيَّن أردوغان رئيس وكالة الاستخبارات التركية هاكان فيدان المعروف بـ"كاتم أسرار أردوغان" وزيراً للخارجية، ضمن التشكيلة الحكومية الجديدة.
واللافت أن صعود نجم هاكان وتسلمه ملف الاستخبارات، تزامن مع بدء انخراط أنقرة في أزمات الشرق الأوسط بعد عقود من التوجه غرباً.
تغيير الدستور.. وصلاحيات كبيرة
استطاع رجب طيب أردوغان تغيير الدستور التركي خلال استفتاء عام 2017، لإتاحة بقائه في السلطة أطول فترة ممكنة، إذ أتاح له الحصول على ولاية جديدة، بعد أن كان من المفترض أن تنتهي فترة ولايته في 2023، إلا أن تغير الدستور أتاح له بدء احتساب عدد مرات الولاية من انتخابات 2018، بدلاً من فترته الأولى في 2014، والتي تولى فيها الرئاسة بعد أن نجح في تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ما منحه صلاحيات كبيرة في إدارة البلاد، ولا سيما على مستوى السياسة الخارجية، إذ انخرطت تركيا خلال عهده في عدد من الصراعات الإقليمية.
وفيما يتعلق بالدور الذي لعبته أنقرة تجاه الصراعات والحروب في الشرق الأوسط، اختارت حكومة أردوغان الانحياز إلى أطراف دون غيرها، قبل أن تقوم في فترات لاحقة باستدارة سياسية وإعادة ضبط البوصلة تحت ضغط تضرر المصالح التركية، فأعادت مثلاً العلاقات مع مصر والسعودية والإمارات بعد سنوات من التوتر.
ورغم الأضرار التي طالت تركيا وخاصة على الصعيد الاقتصادي، نتيجة المواقف السياسية التي اتخذها أردوغان، إلا أنه يبقى برأي رجل الأعمال وعضو حزب العدالة والتنمية يوسف كاتب أوغلو "رقماً صعباً في البلاد، يُريد أن يختم حياته السياسية بتعزيز النصر في الانتخابات المقبلة".
لكن على الجانب المقابل، لدى الباحث إسلام أوزكان وجهة نظر أخرى، معتبراً أن "محاولة الانقلاب التي وقعت في 15 يوليو 2016، منحت أردوغان فرصة عظيمة لتطهير معارضيه وإضعافهم، إذ استغل هذه الفرصة بطريقة خبيثة للغاية حتى تحولت تركيا، المعروفة بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلى بلد تتآكل فيه الحريات".