إيمان مرسال تعيد اكتشاف الشعراء وتحصد الجوائز بعد الخمسين

time reading iconدقائق القراءة - 11
الكاتبة المصرية إيمان مرسال. 7 فبراير 2023 - griffinpoetryprize.com
الكاتبة المصرية إيمان مرسال. 7 فبراير 2023 - griffinpoetryprize.com
القاهرة-شريف صالح

يصعب تعريف الشعر وتأطير الشاعر عادة، وإيمان مرسال شاعرة مصرية ولدت شمال الدلتا بالقرب من نيل المنصورة، وقررت أن تختبر الحياة على طريقتها.

 انتقلت من الدلتا إلى الاغتراب الأوّل في القاهرة، ومنها إلى الاغتراب الثاني بين كندا وأميركا. ربما تهرب مرسال من الشعر نفسه إلى الترجمة أيضاً، ومن الترجمة إلى التدريس الجامعي، ثم تواصل هروبها بين الكتابة والأمومة.

لا يهمّ لو أسميناه هروباً أو اغتراباً، أو محاولة لاكتشاف الحياة من نوافذ صغيرة لا يلتفت إليها أحد. ألم تذهب مرسال في "أثر عنايات الزيات" الكاتبة شبه المجهولة، كأنها تعيد اكتشاف "قاهرة" الأربعينيات والستينيات التي لم تعش فيها.

 ألم تترك أسماء رنانة عربياً في عالم الترجمة، كي تترجم لنا رواية وجيه غالي "بيرة في نادي البلياردو"؟ وهل هي مصادفة شعرية أن يجمع الانتحار بين وجيه غالي وعنايات الزيات، وكأن إيمان على ثراء وتنوّع تجاربها، تبحث عن تلك الحساسية الفائقة في عدم فهم الحياة، وعن عدالة شعرية.

من انشغالها المتجدّد بالشاعرة الحائزة على جائزة نوبل فيسوافا شيمبورسكا، بدأنا الحوار معها:

أنت قريبة من عالم فيسوافا شيمبورسكا وتستعدّين لنشر مقالاتها من ترجمتك، متى سيُنشر الكتاب ولماذا شيمبورسكا؟

سيصدر كتاب "قراءة غير مُلزِمة" عن "دار الكتب خان" في نهاية هذا العام. "قراءة غير مُلزِمة" هو عنوان عمود صحفي، واظبت شيمبورسكا على كتابته أسبوعياً لأربعة عقود تقريباً، وطبعت مقالاته في أجزاء عدّة بالبولندية، ثم قامت مترجمتها الأثيرة كلير كافاناج، بترجمة مختارات منها إلى الإنجليزية في كتاب يحمل العنوان نفسه، صدر عن دار "هاركوت" (نيويرك – لندن) عام 2002.

 لا يجب أن يتوقّع القارئ مراجعات تقليدية للكتب، بل طبقاً لما قالته شيمبورسكا في مقدمتها للطبعة الإنجليزية، اسكتشات أو رسوم تخطيطية؛ وتضيف أن ما ألهمها فكرة هذا العمود في أول الأمر، وجود باب في الصحافة الأدبية عنوانه "كتب جرى استلامها"، حيث تجري الإشارة العابرة لهذه الكتب، بينما لا يحظى بالمراجعات النقدية إلا أقل القليل منها. 

كما أن الكتب التي تحظى بالمراجعة عادة، هي الكتب الأدبية والسياسية، بينما لا تلفت القواميس والكتب العلمية، وتلك التي تتناول التجميل والطبخ والطيور والحيوانات واليوجا، انتباه الصحافة الثقافية، مع أنها في الواقع الكتب الأكثر مبيعاً وقراءة وحضوراً في حياة الناس.

أحببت هذا الكتاب بسبب جماليات نثر الشاعرة المتفرّدة وسردها، وبالطبع هناك متعة في تأمل آراء شيمبورسكا وسخريتها المرحة من كل شيء تقريباً. لكن أكثر ما دفعني لترجمته هو صعوبته بالنسبة لي؛  المقالات التي تتناول مثلاً أصوات الطيور أو تاريخ الحفريات أو الأوبرا، احتاجت بحثاً اصطلاحياً في حقول عدّة..

شعرت أحياناً أني أفهم ولكني لا أعرف كيف أقول هذا أو ذاك بالعربية، أحياناً لم يكن هناك مقابل في العربية، وهذا حمّسني جداً لأن أقرأ في حقول معرفية لا أقرأ فيها عادة، كل كتاب متاح بالإنجليزية تناولته شيمبورسكا قرأته، وإذا لم يكن متاحاً قرأت شيئاً يختص بالحقل الذي يتناوله. 

 

شمبورسكا البولندية الحائزة على نوبل في الأدب كانت مثلك شاعرة ومترجمة، هل تبحث إيمان مرسال عن أشباهها حول العالم؟

 لا، أنا أتورّط في حوار حتى لو كان من قِبل واحد مع شخص أو نصّ، بسبب إلحاح تقاطع بيننا في نقطة ما، سواء كانت سؤالاً أو تشابهاً أو اختلافاً أو إلهاماً. 

شمبورسكا شاعرة عظيمة من دون شك، وقراءة أول ترجمة لقصائدها عندما حصلت على نوبل، شكّلت عتبة في علاقتي بالشعر، حتى لو لم تكن تلك الترجمة ممتازة، فقد علمتنا أن الشعر يوجد  في أماكن أخرى لا نألفها، وأنه متعدّد لا واحد.

يبدو لي أنك تشبهين "أليس في بلاد العجائب" القصة الخيالية المؤسسة على التلاعب بالمنطق وحجم الأشياء، تهتمين بتجارب مبدعين كبار مثل ترجمتك "ذبابة في الحساء" سيرة تشارلز سيميك، وفجأة تتجهين إلى تجارب منسية مثل ترجمتك رواية "بيرة في نادي البلياردو"، فهل تحكمك حساسية معينة في تصوّرك للأدب والترجمة؟

هناك مترجمون مخلصون للترجمة يسهمون في إنتاج المعرفة عبر اختياراتهم. أكنّ تقديراً كبيراً لهم، لكني لا أعدّ نفسي واحدة منهم، فأنا غير متفرّغة للترجمة، وإذا سمح لي الوقت بذلك، أترجم ما أظن - من وجهة نظري - أننا نحتاج أن نقرأه ونتحاور حوله. 

وجيه غالي وروايته الرائعة مثلاً، كانا بالنسبة لي أشبه بإعادة نص فريد من المنفى إلى وطنه، بل وضعه في المتن الثقافي العربي، الذي مثّل كل المتون الأدبية، قد يستبعد أصواتاً لأسباب سياسية أو جمالية.

 ولم أكن لأترجم سيرة تشارلز سيميك رغم إعجابي الشديد بها، لو لم تكن لحظة النزوح السوري بدءاً من 2012 مؤثّرة للغاية. أردت أن نتأمل ليس فقط فظائع الحرب والنزوح والمنفى، بل روح سيميك العظيمة أيضاً، التي تستطيع أن تكتب الكارثة عبر شخصيات عائلته الغريبة، واللكنة والطعام وحسّ الضحك. 

أظن من الصعب تصنيف تجربتك أو وضعك في خانة فكرية بعينها. كأنك تجرّبين صيغ كتابة متعددة لاختبار أرضيات فكرية متصارعة إلى حدٍ ما؟

ربما ليس مهماً تصنيف كاتب/ ة ما من الأساس، لأن التصنيفات تنتمي إلى من يطلقها أكثر مما تدل على من تدّعي تصنيفه. قد تكون الكتابة كائناً حيّاً يحلم بخلق معنى لهذا العالم، وهو حلم مستحيل السير في اتجاهه عبر إعادة إنتاج الأفكار والأيديولوجيات، أو عبر استثمار المعرفة المسبقة حتى بالنوع الأدبي ذاته. 

ربما كتابك المدهش "في أثر عنايات الزيات" كان أكثر أعمالك انتشاراً وترجمة إلى اللغات الأخرى، ونال جائزة الشيخ زايد وجائزة "جيمس تايت" العريقة، هل نعتبره تميمة الحظ في مشوارك؟

"في أثر عنايات" كتاب محظوظ ولا شك، ولكن "العتبة"، المختارات التي أصدرتها "فرار شتراوس أند جيرو" عام 2022 بترجمة روبين كرسويل، حصلت على جائزة أفضل كتاب شعري مترجم في أميركا عام 2023، كما كانت في القائمة القصيرة لأهم جائزة شعرية في العالم "جريفين"، ضمن قوائم جوائز أخرى خلال العام نفسه، فضلاً عن المراجعات الرائعة التي لم أتوقعها يوماً.

كيف تتعاملين مع كل الظلال المحيطة بالجوائز في الشرق والغرب؟

بما أني لم أحصل على جائزة حتى تجاوزت الخمسين، تستطيع القول إن الكتابة هي جائزتي التي لم يمنحها لي أحد؛ لم أشعر أبداً بأي مظلومية، فكثير من كُتّابي المفضّلين أبدعوا وعاشوا وماتوا من دون جوائز.

 الجائزة الأدبية هي قرار لجنة تحكيم مؤلفة من عدّة أفراد في سياق ثقافي وسياسي محدّد، ولا تعني أنك كنت أقلّ إبداعاً قبلها، أو ستصبح أكثر أهمية بعدها. ربما أن كتاباً مثل "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، أكثر قراءة وتأثيراً من كتبي التي حصلت على جوائز. 

الخلاصة، عندما تحصل على جائزة، ستفرح لساعات أو أيام، وقد تترك وظيفتك وتتفرّغ للكتابة إذا كانت قيمة الجائزة جيدة. بعد ذلك، ستعود لتحدق في الشاشة، وتشعر بنفس الإحباط أو السعادة أو الحيرة لحظة الكتابة مثلما كنت تفعل دائماً. 

لا يمكن تجاهل فصل التدريس في حياتك عن فصول تجربتك المتعددة، ماذا أعطاك وهل ثمّة رسالة تحبين إيصالها إلى طلابك؟

التدريس هو استمرار للتعلّم ببساطة، لأنك تختبر ما تعتقد أنه "معرفة" مع آخرين من أعمار وخلفيات مختلفة، طلاب وزملاء. وبالتالي لا توجد رسالة تستحق الإيصال، فالتدريس كما أراه هو خلق مساحة حرّة وآمنة للتفكير والتساؤل وتبادل الأفكار.

 تعلمت من طلابي الكثير منذ 7 أكتوبر الماضي؛ وبقدر ما علّمتهم عن الإبادة في غزة، بقدر ما تعلمت منهم عن  إبادات أخرى، أو عن مداخل فلسفية حول كيفية تناول الكوارث التاريخية. هناك شيء آسر في الأكاديمية الغربية رغم كل نقائصها، وهو أن الأستاذ لا يحظى بسلطة الأساتذة الذين علّمونا في مصر. 

بعد ثلاثين عاماً على صدور ديوانك "ممرّ معتم يصلح لتعلم الرقص" هل مازلت مولعة بالخوض في المساحات المعتمة؟

  أظن نعم، ولكن ربما يتغيّر تصوّرنا في كل مرحلة من حياتنا عن كنه العتمة. لم تكن الأمومة مثلاً سؤالاً ملحّاً في قصائدي الأولى، كما لم يعد غضب شاعرة في عشرينياتها يحرّك تصوّري للعالم كما كان في تسعينيات القاهرة.

في أحد نصوصك الأولى تقولين: "لتكن طفلاً صغيراً يخمش الروح ويكبر"، ثمّة في بداياتك الشعرية موسيقى تقارب السجع، وربما نزعة تمّرد، كيف تحوّل وعيك بالشعر وهل على الشاعر أن يُخفي سذاجة البدايات؟

ليس على الشاعر التنصّل أو الدفاع عن بداياته. بدأنا الحوار عن شِيمبورسكا وهي "بجلالة قدرها" لها ثلاث مجموعات شعرية غير مترجمة، كانت تتبنّى فيها الحسّ الإيديولوجي الرسمي في بولندا.

 أظن أن صوتي الخاص موجود في ديواني الأوّل "اتصافات" 1990، على الرغم من أن قصائده كُتبت قبل أن أبلغ الثانية والعشرين من عمري، بحساسية موسيقية مختلفة. تحوّل الوعي بالشعر يجب أن يحدث أكثر من مرّة في حياتنا؛ عبر القراءة، والتجارب، والأصدقاء، والجغرافيا، وأيضاً السياق التاريخي الذي نعيشه. 

إن رحلة تطوّرنا تحتاج إلى شروط كثيرة، ليست كلها مرتبطة بالعبقرية مثلاً؛ فهناك الجهد، والحظ، والاختيارات الفردية، كما أعتقد أن كل كتابة تحتاج بعض المخاطرة – حتى بإنجازك السابق - وأن تكون جاهزاً للفشل أو الرفض ما دمت تكتب.

تصنيفات

قصص قد تهمك