بارعة في التقاط الفرح ووجوه الناس ولحظاتهم الحلوة، تختار ألواناً مبهجة، وتستحضر الجمال من كل مكان. وعلى الرغم من مسيرة فنية تتجاوز نصف قرن، ما تزال إيفلين عشم الله تواجه الصعاب بقلب طفلة، ولا تتوقف عن الرسم والغناء والضحك.
"بنت بلد" مولودة في دسوق وسط الفلاحين، وغير بعيدة عن أمواج البحر المتوسط. وفي كل ما ترسم تصنع عوالم ومراحل مدهشة، أو تقول ما تفكّر فيه عبر كلمات على سطح اللوحة.
حديثاً أقامت عشم الله معرضاً استعادياً في القاهرة، ضمّ مراحلها الفنية المختلفة، فضلاً عن أحدث لوحاتها، فكانت فرصة للحوار معها:
في نظرة سريعة على معرضك نلاحظ التجريب واختلاف المراحل، لماذا لا تحبين تصنيف تجربتك؟
عندما نكون أطفالاً نرسم بعفوية، فهل يعرف الطفل وقتها أن هذا أسلوب بيكاسو مثلاً؟ بالتأكيد لدي جينات حضارة عرفت الرسم والنحت منذ آلاف السنين، وعندما التحقت بدراسة الفنون الجميلة في الإسكندرية، كنا في المكتبة وسألني زميلي: رأيت أعمال بيكاسو؟ فأجبته ببساطة: "أنا إيفلين عشم الله".
الناس تميل إلى وضع الناس في خانات محدّدة، أو أن تلصق الرسام في التعبيرية أو التكعيبية، وهذا لا يعبّر عن تجربتي. طبيعي أنني درست الفن وتأثّرت وتفاعلت، لكنني لا أحب تصنيف تجربتي، لأنها في الأساس استبطانية، وتعبّر عن مشاعري وموهبتي ووعي بالأشياء في لحظة معينة.. فلماذا أقيّد نفسي بمدرسة فنية بعينها، وأنا لا ألتزم بها بالضرورة.
دخلت كلية الفنون الجميلة لأني أحب الرسم.. ولا تنسى أن هناك رسّامين فطريين في كل دول العالم، يرسمون ويعبّرون عن أنفسهم، من خلال ما يرونه في الطبيعة وإحساسهم بها، من دون أن يتعرّفوا على أي مدارس.
لدينا أيضاً الفلاحين الذين كانوا يرسمون مناسك الحج على جدران بيوتهم، هل يعرف هؤلاء بيكاسو وسلفادور دالي؟ فلماذا يرهق النقّاد أنفسهم بالتصنيف، وظني أن التصنيفات الضيّقة انتهت سواء التجريدية أو التأثيرية أو التعبيرية.
هل تفضلين أن يكون الرسم نابعاً من ذات الفنان وليس وفق تقاليد مدرسة معينة؟
الرسم تجربة ذاتية مثل الكتابة، عشت طفولتي في مدينة دسوق وهي ذات طابع ريفي، ورأيت مسلمين ومسيحيين يحتفلون بعيد "شم النسيم" ويلوّنون البيض. كنا نعيش في بيت ريفي على ناصية "حارة الملاحين".
كنا أطفالاً مسلمين ومسيحين، نحضر مولد سيدي إبراهيم الدسوقي، ونشاهد زفّة المولد من فوق السطوح، وكذلك الاحتفال بمولد النبي، ورأيتهم يأتون بشاحنات نقل، ويحوّلونها إلى خشبة مسرح للمداحين. كما كنا نلعب ونشاهد السيرك، ونركب "المراجيح"، وكان والدي رغم صرامته، يشجعني على اللعب، من هذا العالم الساحر نشأت لدي الذاكرة البصرية وحب اللعب والتجريب.
تتعاملين مع اللوحة بوصفها "مغامرة" من دون تصوّرات مسبقة؟
إنها لعبة، ألعب مع الألوان ومع ذاخرة جوانية من الذكريات والأفكار. عندما يختمر العجين يخرج خبزاً أو لوحة، أمارس حريتي كاملة، وأرسم ما أشعر به بعفوية.
هل هي نزعة تمرّد في داخلك؟
لا بل نزعة حب كبير للدنيا وللعالم. لماذا أتمرّد؟ أحب الناس وأحب الحرية، لكن هذا لا يعني التمرّد. أمارس ما أحبه مثلما كانت أمي تحب خياطة الملابس، وتبتكر فيها كأنها فنانة صاحبة بيت أزياء.
من يتأمّل لوحاتك وغرائبية التكوين فيها يشعر أنها حلم؟
لا أفكر في الأحلام، ولا أستلهم من كتاب، لكني امرأة استبطانية، تخرج ما هو صادق في رؤياها. يكفي أن أؤمن بما لدي من مخزون وجينات وذاكرة. ثم أهدي للجمهور نفسي، وأكون سعيدة ومعجبة بما رسمته.
ثمّة مرحلة في أعمالك كان هناك اهتمام واضح بالحروفية العربية؟
لا ليست حروفية لأني لا أكتب خطوط الرقعة والثلث. ما حدث أني بعد ثورة يناير، أصبت بالإحباط وتوقّفت عن الرسم، وكانت هناك مراجعة للنفس، والتقيت بأصدقاء من أيام الجامعة وتناقشنا.
بعدها وجدتني أكتب عبارات خاصة بي أو فلسفتي كإنسانة، لأني كنت في حيرة بين الرغبة في الرسم والكتابة. قررت أن أحكي على سطح اللوحة بالكلام وليس بالأشكال، وأستعمل الحرف بوصفه كائناً حياً اخترعه الإنسان.
كانت مرحلة ثرية في حياتي منذ عام 2015. ومنها لوحة احتفيت فيها بأسماء زميلاتي في قسم التصوير دفعة 1973. وفي لوحة أخرى نقرأ "أما دفاتري وأقلامي فلا تبلى.. فهي تأخذ من موج البحر". هكذا ألعب بالكلام على سطح لوحة. وربما أكتب كلمات أغنية من أغاني طفولتي مثل أغنية "شد العمّة شد".
إلى جانب ولعك بالحكي على اللوحة ثمّة "موتيفات" أخرى تلحّ عليك؟
العيون. أنا أرسم العيون كثيراً، فالعين نافذة الإنسان، ومنها ينظر إلى الدنيا. اهتممت بأيقونات حارة الملاحين التي عشت فيها طفولتي، وجوه الأطفال والكبار مثل "شفيقة" جدتي لأمي، وبيتنا القديم في الحارة. وقد تظهر في التكوين سمكة أو رأس حصان.
تتوقفين لفترات طويلة أحياناً عن الرسم لماذا؟
لأنني أتأثر بشدّة بما يدور حولي. تأثرت بالفتنة الطائفية في عصر مبارك وتوقفت. وتأثرت بما يحدث في غزة من هدم للبيوت وقتل للأطفال، وما يحدث الآن في لبنان من قصف وتهجير للناس، وخصوصاً أن لدي صداقات كثيرة في فلسطين ولبنان والجزائر التي عشت فيها لسنوات.
ألا تكون الأحداث الجارية فرصة للتعبير بالريشة عن غضبك؟
ليس شرطاً، لا تستطيع أن تفرض على الفنان شيئاً معيّناً. بطبعي لا أرسم الأحداث العامة، بل أرسم تاريخي الشخصي بما فيه من جمال وحب.
لديك تجربة مهمة في التصميم والرسم للأطفال؟
اشتغلت لسنوات كرسامة أطفال في الجزائر، وكانت مرحلة رائعة في حياتي قبل سنوات العشرية السوداء. لم أكن أحب أن أرسم المناظر العامة إلا عندما عشت هناك بسبب جمال الطبيعة. أما رسوم الطفل فلا أحب ما أراه الآن من إصرار على ترجمة الكلام إلى رسمة، لأن الطفل أذكى من ذلك، والدليل أن الأطفال الذين زاروا معرضي أحبوا شغلي وتفاعلوا معه. من الضروري التفكير في طرق مختلفة تشحذ خيالهم، ولا تقيّدهم بشرح القصة بصرياً.
لو اخترت كلمة معيّنة تلحّ عليك وتحفّزك دائماً؟
الدنيا تتسع لكل المعاني، لكني طفلة أحب المرح والجمال، ولا أحب العنف والكراهية والزيف والخديعة والخيانة. كلنا نمر بتجارب ولحظات سيئة. لكني عموماً عشتُ حياة سعيدة وسط محبة عائلة كبيرة وجيران طيبين.
لا أنسى أن أمي كانت تضحكنا بأدائها المسرحي، وتدللني باسم "فيفي". كانت سيدة مبهجة لا تتوقف عن الغناء، وتعشق أغاني ليلى مراد، وتقلب محطات الراديو للعثور على "إذاعة لبنان"، لأنها كانت تعشق فيروز، وتسمع لور دكاش أيضاً.
وعلى الرغم من أنها مسيحية، لكنها كانت تحب أغنية "يا رايحين للنبي الغالي". وبسبب عشقها لصوت عبد الوهاب، وتعبيرها عن إعجابها به، كانت تخاطبه "يا جميل" فيغار أبي منه. أيضاً أبي كان يشجّعني على القراءة في كل شيء.
فعندما أعيش وسط كل هذا الجمال، كيف أخزّن في قلبي الكراهية والصور القاتمة. قناعتي أن الحياة جميلة، ومثلما تعلمت ذلك من أمي، حرصت أن أنقله إلى طفليّ. وممتنة لربنا أنني احتفظت في داخلي بروح الطفلة، رغم حزني على البشر وما يدور حولنا، وأعمالي كلها تحتفي بالإنسان والحب والجمال.