"الدقّة المراكشية" هي شكل من أشكال التعبير الفني، يجمع بين الموسيقى والشعر والحركات ذات الإيحاء الروحي، وتتطلّب قوّة بدنية خاصّة، كما لدى "الفتوّة" في مصر، تؤدّى جماعياً في عدد مكوّن من 40 شخصاً، بشكل احتفالي كرنفالي ديني، مكرّساً لتمجيد الرسول (ص).
يعود أصل "الدقّة"إلى القرن السادس عشر، نشأت أوّل مرّة في مدينة "تارودانت"، ثم في منطقة مراكش، الشهيرة بأسلوب العيش المشترك؛ أي الحياة يتقاسمها الجميع، والأعراف والتقاليد في تداول ما بين فئات المجتمع.
اعتمدت كطريقة موسيقية للاحتفال بالمناسبات الدينية والاجتماعية، تتوخّى انسجاماً ما بين الواقع الحياتي والتجارب الروحية، في إعادة الإنسان إلى تقواه ومبادئه وروحانيته.
تحظّى "الدقّة المراكشية" بتقدير المجتمع المغربي بشرائحه كافة، إذ يستمتع المواطن بمشاهدة هذه الطقوس الفريدة، التي تجمع ما بين الإيقاعات المُميزة والترانيم الروحية.
يشتهر المغرب بالطرق الموسيقية الشهيرة، مثل "العيساوية"، "الكناوة"، "العيطة". تحوز الموسيقى الأمازيغية، والفنون الصحراوية، والموسيقى الشعبية مثلاً اهتماماً كبيراً، وهناك مهرجانات موسيقية متنوّعة في المغرب، تنال تقديراً ومشاركة دولية، مثل مهرجان "الموسيقى العريقة" في مدينة فاس، "الكناوة" في مدينة الصويرة وسواها.
مراكش ودقّتها
يكتب مؤسّس متحف الموسيقى في مراكش الفرنسي باتريك مانش: "تعتبر "الدقّة" على المستوى الثقافي والفني الشعبي، جزءاً أساسياً من هوية مدينة مراكش، وفناً خاصّاً بها، يعتمد على تناغم مذهل ما بين الترانيم والموسيقى الروحية".
يضيف: "العمل الموسيقي التقليدي يوفّر عالماً صوتياً خارج حدود الزمن. فن "الدقّة" يتبع هذه القاعدة، إذ يثير التدرّج البطيء للإيقاعات في بداية الحفل، شعوراً بالمفاجأة السعيدة لدى المستمع. الأداء، كما لو كان يتردّد في قلب الليل، جامعاً فن العزف والكلام معاً، مُحقّقاً التناغم ما بين الموسيقى والكلمات".
يُشير بعض الباحثين، إلى أصلها وأسباب انتشارها في مراكش، إذ نشأت في تارودانت (هناك إشارة إلى أصولها الأفريقية)، ولكن بعد أزمة اقتصادية هدّدت وضع الحرفيين هناك، فالدقّة يمارسها الحرفيون وأصحاب المهن، انتقل هؤلاء إلى مراكش، فأصبح هذا الفن يمارس يوم الجمعة في حدائق "المنارة" أو في رياض "عرصة مولاي عبد السلام".
طقوس الدقّة المراكشية
تُنظّم حفلات الدقّة سنوياً في ليلة التاسع من عاشوراء من محرم. تبدأ التمارين منذ الأسبوع الثاني بعد عيد الأضحى، وتشتدّ قبل عشرة أيام من عاشوراء.
تشتمل الإيقاعات والأغاني على التأثيرات العربية والأفريقية والأمازيغية، وتتألف عادةً من أربعة أنواع بأنماط مُتعدّدة، منها، الإيقاع الرباعي الزمن، الذي يُمثّل بصمة فنية مميزّة لها، تستخدم فيها الآلات الموسيقية التالية:
الطرز، وهو طبل دائري مصنوع من خشب البرتقال ومغطى بجلد الماعز. يتمُّ ثقبه لإدخال أقراص نحاسية صغيرة، الصنوج، التعريجة، التويزة، التوليتة، كما استعمل النحاس أخيراً في مهرجان مراكش للموسيقى الشعبية.
حلقة دائرية
يشكّل العرض حلقة دائرية، أسوة بطرق "الذكر" التقليدية، ينضم الجمهور إليه احتفالياً تلقائياً. أقيم الاحتفال الأوّل في حي "المواسين" التراثي التقليدي. تتجمّع الفرق المشاركة في الأمسية الكبرى في عاشوراء، فيرتدي المشاركون الملابس التقليدية مثل البرنس، الطربوش، القفطان وحزام جلدي.
تبدأ عروض الدقّة بعد صلاة العشاء، وتنتهي عند أول صلاة فجر، حيث يتوجب على لاعبي الدقّة حفظ الآيات القرآنية عن ظهر قلب، ومعرفة أداء الغناء الروحي الذي يصاحب الموسيقى، كذلك ينبغي الحفاظ على إيقاع موحّد، حيث يمكن لأدنى خطأ أن يُصحّح من قِبل عازف الكورال.
تقول المغنية والمسؤولة عن متحف "الموسيقى" في مراكش سهام الملاس لـ"الشرق": تسمّى الدقّة بـ آيت الربعين"، إشارة إلى عدد المشاركين فيها 40 شخصاً، يشكلّون دائرة تسمّى "الكُور"، مع آلات التعريجة" في وسطها (المُعلّم- المايسترو)، وهو يحرص أن يسير العرض وفقاً للشروط وعلى 3 مراحل، تبدأ من العيط (إيقاع بطيء)، بقراءة ابتهالات ومدائح باسم الرحمن والنبي، ثم يبدأ بالتسارع (أفوس) تحت سيطرة "المُعلّم"، وصولاً إلى مرحلة "الكناوي"، بما يسمّى بالميزان الرباعي".
وعن مكانة الدقّة المراكشية اجتماعياً تشرح أن "الفرق الشعبية تتنافس في المدينة القديمة في ما بينها (أوّل حي لعبت فيه الدقة، هو حي القصور بالمدينة القديمة، حيث شعراء الملحون والطرب الأندلسي)، بعد التحضير لمدة عام للاحتفال الكبير، يبذلون جهداً متميزاً واعتبارياً حينذاك، سيعطي نتائجه حال انتهاء الطقوس، إذ يشاد شعبياً بالفرقة التي قدّمت احتفالاً ناجحاً، فتكون محط اهتمام ورعاية شعبية وصحفية، بخلاف الفرق ذات العروض غير الناجحة".
تحضيرات سنة كاملة من أجل مشهد سحري فني واحد، تستيقظ فيه أجساد "الدقايقية" روحياً، بعد ما كانت شبه ساكنة، فتصبح جسداً واحداً واسماً واحداً، هو الدقّة، في شغف وذوبان روحي، كجماعة في طقس موسيقي ديني.
مشاهير وأعلام الدقّة
يذكر الفنان الدقاقي محمد بن المقدم في كتابه عن الدقّة المراكشية، في بحث تاريخي وشعبي في كتابه "وقفة اعتراف"، "أن روّاد وشيوخ الدقّة المراكشية، وخاصة محمد بن حميدوش الملقب بـ "بابا" (ذو العمامة الجامحة)، أسهموا بجعل هذا الفن بوصفه سيمفونية مراكشية عالمية، ترقص لها أفئدة المغاربة والأجانب، إذ كلفه السلطان محمد الخامس بعد عودته من المنفى بإدارة شؤون الدقّة.
وكان تمّ استقبال الملك محمد الخامس في مراكش، بعد عودته من المنفى، والاحتفاء به من خلال تجمّع فني ضخم، ضمّ أكثر من 400 عازف طبل ينتمون إلى فرق الدقّة، بقيادة الشيخ الحاج محمد البري. هذا الحدث كان واحداً من اللحظات الاستثنائية في التاريخ المغربي.
شارك "بابا" في المهرجانات الوطنية والدولية، كما مثّل المغرب في المحافل الدولية، وكان أميناً على مجموعة من الفرق الشعبية المراكشية.
أضاف "بابا" لمسته الخاصة على ترتيب المجموعة أثناء عروض "العيل كور"، حيث اتخذ الشكل نصف الدائري في مركز المسرح. كان المايسترو "بابا" يحتفظ لنفسه بلحظة الذروة النهائية للعرض، فيجعل الفن متألقاً، وهو كان المسؤول عن نجاح أو فشل الأمسية.
الشباب المراكشي
تنتقل الفنون والصناعات التقليدية في المغرب، من الخلف إلى السلف، مصحوبة بدعم شعبي. يقول الشاب المُقدّم أمين إوي، رئيس جمعية "الأصالة" للحفاض على التراث المراكشي الأصيل: "تضمّ جمعيتنا 30 شاباً ما بين منشدين وعازفين، وشاركنا العام المنصرم 2023 في المهرجان السنوي، الذي ضمّ 100 مشارك".
تُعدّ "الدقّة المراكشية"رمزاً للتآخي المجتمعي، يجمع الفئات المتنوّعة إلى جو من الألفة والتعاون والتسامح تقرّباً إلى الباري، فضلاً عن كونها تجذب السيّاح والمغاربة إلى طقوسها في المناسبات والمهرجانات، فتسهم في إنعاش اقتصاد مراكش السياحي.
يقول المُمثّل محمد بن المقدم، المدير الفني لمشروع الحلقة بساحة جامع الفنا: "قدّمناً أرشيفاً تاريخياً وفنياً، اعتمدته منظمة الإسيسكو في 2024، باعتبار الدقّة تراثاً لا مادياً، وفناً مغربياً مراكشياً أصيلاً".
أصبح للدقّة راهناً في مدينة مراكش، جمعيات تضمّ الشباب، مثل جمعية "أصالة"، التي يمثّل فريقها مراكش في المناسبات الرسمية، ومهرجانات الفنون الشعبية، فضلاً عن ظهورهم المتكرّر على القنوات التلفزيونية المغربية، وأمسيات الدقّة التي يتم تنظيمها في منطقة المنارة. فنانون، ذوو حرف ومهن شعبية، اكتسبوا الإحساس بالإيقاع والموسيقى من ممارسة طويلة وجهد كبير، ولم يتلقوا أي تدريب موسيقي أكاديمي.