"متاهة الضالين".. جدارية للغرب من خلال أربع دول كبرى

time reading iconدقائق القراءة - 10
الكاتب اللبناني أمين معلوف. 1 أكتوبر 2021 - AFP
الكاتب اللبناني أمين معلوف. 1 أكتوبر 2021 - AFP
الدار البيضاء-مبارك حسني

يذكّر أمين معلوف في بداية كتابه بقول الروائي الأميركي المشهور وليام فولكنر: "إن الماضي لا يموت أبداً. لا ينبغي عليك حتى أن تعتقد أنه قد فات وانقضى".

نعم، كان من الضروري والملحّ، أن يُكتب هذا الكتاب "متاهة الضالين"، وبقلم كاتب مُطّلع وعارف بأحوال العالم المعاصر، وما يدور فيه من أحداث دامية، تؤثر في كامل ساكني الكرة الأرضية. هو السكرتير الدائم لـ "مجمع الخالدين"، كما تسمّى الأكاديمية الفرنسية ذات التاريخ العريق، والروائي الحائز على أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية، غونكور سنة 1993، عن روايته "صخرة طانيوس"، وهو رئيس تحرير مجلة "جون أفريك" الشهرية لسنوات، التي غطّت أحداث العالم كله منذ الستينيات، إنه اللبناني أمين معلوف

هكذا، كلما تلقّفته أحداث سياسية كبرى وفارقة، وجد نفسه يخلع جبّة الروائي وعوالم الخيال الخصب، ليغوص في بحث عن أسباب ما يجري، ولماذا جرى، فيقوم بمراجعة تاريخية، تُظهر الأسباب والمسبّبات، التي من دونها لا يمكن فهم سيرورة عالمنا الحالي، حيث أصاب التاريخ عطبٌ حادّ، بعد أن عادت الحرب إلى عمق القارّة العجوز، أوروبا، وبعدما زنّد لهيبها الشرق الأوسط.

 أصدر معلوف كتابه ذي العنوان الدال "متاهة الضالين"، عن "دار غراسي" في خريف 2023، وعدد صفحاته 448. العنوان وأسلوب الكتابة الشائق، المتسلسل بطريقة تثير شهيّة القراءة، تُظهر أن الأديب ينقّب في كل كلمة يكتبها، وهو يوظّف الجغرافيا السياسية لإبداء رأيه في أحداث الساعة. 

الغرب والآخرون

يأتي إذن مُنطلق الكتاب من الحرب المدمّرة الدائرة حالياً في عمق أوروبا، عقب غزو روسيا لأوكرانيا، وما تلاه من اجتماع الغرب برمته على مساعدة هذه الأخيرة، بكل ما تطلبه من سلاح ومال، ونبذ روسيا نبذاً على كل الجبهات، وفي الميادين كلها. كل هذا بعد عقود من الهدوء، حتى ساد الاعتقاد لدى الغربيين، وخصوصاً الأوروبيين، أن الحرب صارت احتمالاً بعيداً. 

لكن ها هي ذكريات الماضي الدموي بكل فظاعاته، تنبعث مُوقِظة المخاوف والهواجس المرعبة، خصوصاً مع تطوّر الأطراف المتصارعة عسكرياً، لتوفرها على أسلحة الدمار الشامل. فالصراع العالمي الجديد هذا، يضع الغرب في مواجهة الصين وروسيا، أي خصمَيه الجديدين، إن صحّ التعبير. فيبدو الذي حدث كما لو كان في غفلة من الجهات كلها.

يرى أمين معلوف بأن هذه الحرب ليست مفاجئة كثيراً، لأن أسبابها كامنة في وقائع الماضي، كما شرح في حوار مع صحيفة "لودوفوار" الكندية في 30 أكتوبر 2023، قائلاً: "نهجي في هذا الكتاب هو العودة إلى الأساسيات، دعونا نحاول أن نفهم كيف تطوّر الصراع بين الغرب والقوى التي تحدّت تفوّقه وريادته على مدى القرنين الماضيين".

رحلة أربع دول كبرى

وهكذا تتبّع معلوف رحلة أربع دول كبرى. اليابان وأباطرتها وحداثتها، وروسيا في عهد الاتحاد السوفياتي الشيوعي، والصين في عهد ماو تسي تونغ خاصة، والولايات المتحدة الأميركية. رحلة تشير بحسب هذا التسلسل، إلى تاريخِ وحاضر هذه الدول الأربع، مع اعتبار وجود تواشج قوي ومتداخل حدّ الاندماج، ما بين أميركا وأوروبا بصفتهما يجسّدان الغرب.

إنه تتبّع  موجز وواضح. فأصل الخصومة حدّ العداء المُطلق أحياناً، المؤدي إلى الحروب بينهما، يعود في الوقت نفسه إلى خاصية التقليد والمجاراة. إذ صارت كل دولة، في مرحلة ما من مراحل تاريخها، تودّ أن تصل إلى ما وصل إليه الغرب من تحديث وتقدّم وازدهار، ثقافياً وعلمياً وتقنياً واقتصادياً.

تحديث مكّنها من التفوّق والسيطرة على العالم، باستعماره واستغلال شعوبه في القارّات كلها، بمبرّر هذا التفوّق على جميع هذه الأصعدة. وهو ما جعل الانبهار الكبير يمتزج بنوع من الكُره، الذي لا يحول في الوقت ذاته، من اتخاذه نموذجاً ومثالاً يُحتذى.

هذه الازدواجية، هي عنوان تاريخ سياسي كامل، أثّر سابقاً في العمق، ولا يزال يؤثّر حتى الساعة في مُجريات الأمور على الأرض، باختلاق دول وإزالة بعضها، بافتعال الثورات وإخمادها، وخصوصاً أن التفوّق جعل الغرب يُصاب بالثقة الزائدة في النفس وفي القدرات، وبكون ما وصل إليه يَضَعُه في صفّ من لا يُقهر، ولا يُمكن هزيمته.

لقد تولّد لديه الإحساس بالعظمة التي تقترن بـ "الغطرسة"، كما وصفها أمين معلوف. وهو الإحساس ذاته الذي ما لبث أن طال أيضا خصومه، حالما تمكّنوا من اللحاق بركبه.

"خطر الأصفر"

حين وقف معلوف على التجربة اليابانية، كان محقّاً في الإشارة والتأكيد على المُجاراة الموسومة بالتحدي الواثق،  فقد تشَكّلت وعلى نحو يستحقّ الانتباه، أوّل دولة في القارة الآسيوية تتحدى التفوّق الأوروبي، الذي تتميّز وتختلف عنه عِرقاً وثقافة وأصلاً، لتصل إلى مرحلة كبيرة من التقدّم والتفوّق، أظهره انتصارها على روسيا القيصرية تحديداً، في بداية القرن العشرين (1905)، خلال الحرب التي خاضتها.

 بالنسبة للكاتب، تشكّل هذه السنة بداية القرن العشرين، وليس عام  1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى. كما أن انتصار اليابان لم يُنْهِ حُكم القياصرة الروس، في بلدٍ كان مندمجاً بشكل من الأشكال في الجوار الغربي. وهو انتصار أعلن عن ولادة الحسّ الوطني الياباني حدّ التطرف كما هو معروف، وكان له دوي عالمي قوي، ابتهج له أهل الشرقَين الأقصى والأوسط، وحذّر منه الغرب آنذاك مخترعاً ما سمّي بـ "الخطر الأصفر" القادم.

ظهور الخصوم تباعاً

هذا الانتصار دفع باليابان، أول الخصوم في مرحلة أولى، إلى احتقار جارته الكبيرة الصين مثلاً، التي منحته كل مقوّمات هويته، فهي "سلف حضارتهم، ومنها جاءتهم الأبجدية والبوذية والكونفوشيوسية؛ فضلاً عن زراعة الأرز، وتربية دودة القز،  وكذلك الرسم أو الخط أو الفن الشعري". وهو ما سيؤدي لاحقاً إلى تحالف مع قوميتي ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، سيُحارب الغرب إبان الحرب العالمية الثانية.  

ما سيحدث لاحقاً، أن أميركا ستتمكّن من إحداث تغيير في العمق للنظام السياسي لدى الألمان واليابانيين والإيطاليين، سنة 1945، بعد نهاية الحرب، ويصبح نظاماً ديمقراطياً على الطريقة الغربية. مكّنهم من اللحاق بالتقدّم الغربي. 

قيام الاتحاد السوفييتي

كان انتصار اليابان أحد الأسباب التي ستؤدي إلى قلاقل كثيرة ستنتهي إلى قيام الاتحاد السوفييتي سنة 1917، تحت المركزية السلطوية الروسية للبلاشفة الشيوعيين، الخصم العنيد والندّ المُهدّد للغرب على مدى ثلاثة أرباع قرن من الزمن، فيما عُرف بالحرب الباردة، عندما جرى تقسيم العالم إلى غرب رأسمالي ليبرالي، وشرق شيوعي يفصلهما جدار برلين، ما غذى الحروب هنا وهناك. 

الجدار الذي سيزول سنة 1989، معلناً انهيار القطبية الثنائية المبنية على الأيديولوجية، هو الذي قوّى الأطلسي الغربي. لكنه في الوقت نفسه، لم ينتبه إلى أن روسيا، وإن لم تعُد قطباً فاعلاً في الثنائية، لن تفقد كل مقوّمات القوّة، وخصوصاً على المستوى العسكري.

يتَحسّر الكاتب معتبراً أنه كان بالإمكان مساعدة روسيا اقتصادياً على تحقيق الديمقراطية، وعدم تركها لمصير سياسي ذي صبغة انتقامية صدامية، يرى في الغرب ليس خصماً بل عدوّاً، ذي قيم مختلفة وغير موافقة له.

الأمر نفسه أيضاً، شجّع الصين على تقليدها في البداية سنة 1912، مع "صن يات صن"، قبل أن تأخذ طريقاً خاصاً سنة 1949، مع ماو تسي تونغ، ثم عام 1978، مع دنغ شياو بينغ.

 فبعد قرون طويلة من التخلف والغياب التاريخي، صارت إمبراطورية الوسط، كما كانت تُدعى، الدولة التي تشكّل التحدي الأساس للغرب حالياً، بتنميتها الاقتصادية المتسارعة، وثقلها الديموغرافي الكبير، واعتمادها على ما تسميه بـ "اشتراكية السوق"، التي تُغلّف رأسمالية متوحشة وغازية للقارات جميعها، من دون أن تتخلى عن كونها الدولة الشيوعية الأكبر.

 الصين هي القادرة وحدها على أن تقف ندّاً للغرب، مع إعلان اختلافها علناً عن ثقافة وسلوك وسياسة الغرب، من دون الشعور بنقص، أو إحساس بالدونية، أو تراجع عن مستوى التنمية والتطوّر. 

الولايات المتحدة والغد 

في الخط الأوّل للمواجهة، وُجدت أميركا القادرة بالطول والعرض، على الوقوف أمام أي دولة كبرى تتحدّى الغرب. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد اختفاء تأثير الأيديولوجيات. تزعّمت الغرب بلا منازع، "هذه الدولة الشابة التي ولدت من رحم الهجرة الأوروبية، وحقّقت صعوداً سريعاً، إلى حد أنها أصبحت حاملة لواء الغرب، القوّة العالمية العظمى". 

هذا الغرب الذي يطمح الجميع إلى الهجرة إليه والعيش فيه، وفي الوقت نفسه لا يتورّع عن نعته بأصل الشرور والآلام التي تسبّبها الحروب التي اندلعت أو تندلع ضد الغرب، حين يكون وراءها، ويُسهم فيها، أو حين يوقِفُها ويمنعها، واضعاً في كل حالة نصب عينيه، تقدير الحسابات والآثار السياسية وخصوصاً الاقتصادية.

يكتب معلوف: "نحن نُشكّل على هذه الأرض كلّاً مرتبطاً بعضه ببعض، يبدو فيه التاريخ صيرورة تتجه نحو تحقيق أهداف معيّنة بفعل تأثيرات محدّدة. وهو مقتنع بأن كراهية الغرب عقيمة وبلا جدوى، وما سيحدث غداً سيكون بمساهمة الغرب ومساهمة آسيا وكل مكوّن آخر". 

يرى الكاتب أنه يمكن الخروج من المتاهة التي يشرحها في حواره مع صحيفة "ليكو" البلجيكية الاقتصادية (10 نوفمبر 2023) قائلاً: "تشير فكرة المتاهة بشكل أساسي، إلى تعقيد العالم، وليس من السهل فك رموز عالمنا الراهن، نحن جميعنا ضالون اليوم.  لدينا شعور بأننا في عالم يصعب فهمه، وفيه صراعات لا نعرف نتائجها".

ومع الرغبة العارمة في التشبّه بالغرب، ضلّ الجميع الطريق، لأن هذا الكُلّ تناسى أن واقع الحال مُعقّد جداً، إلى حد أنه متاهة حقيقية، يتطلّب الخروج منها، التظافر بدل التنافر. أي نسيان وهم القوّة والسيطرة على الخصم، وبناء قواعد تعامل جديدة، قبل أن تحلّ الكارثة التي لن تبقي ولن تذر.

تصنيفات

قصص قد تهمك