حتى وقت قريب، كانت الرسوم المتحركة التي يشاهدها أهل الجزائر، أجنبية المنشأ والمضمون، باستثناء أعمال قليلة حاول منتجوها إضفاء الروح الجزائرية عليها.
من بين تلك الأعمال ما قدّمته شركة "البراق" للإنتاج السينمائي، مثل مسلسلات وأفلام "المفتّش الطاهر"، و"ماهر"، و"أدرار 13"، و"كليلة ودمنة"، الذي فاز أخيراً بجائزة مهرجان قرطاج للإعلام الآلي.
لكن عام 2008، كان مفصلياً في مسار "جزأرة" الرسوم المتحركة، بإنتاج ضخم تمثّل في إنجاز 52 حلقة بعنوان "الجزائر تاريخ وحضارة"، انطلاقاً من العصر الحجري، وصولاً إلى الاستقلال الوطني عام 1962.
كما شهدت نهاية عام 2016، تنظيم أول مهرجان للرسوم المتحرّكة في الجزائر العاصمة، بمناسبة بلوغ عدد ساعات التحريك في الجزائر 100 ساعة.
تحوّلات الأجيال
ولأن الرسوم المتحركة فنّ عميق، فإنه يتدخّل في صناعة مخيال الجيل الذي يشاهده، ذوقاً وسلوكاً وتفكيراً.
من هنا يمكننا أن نؤرّخ لتحوّلات أجيال الجزائر المستقلة من خلال الرسوم المتحرّكة، فنقول جيل "سنان" و"غرندايزر" و"سندباد" (1980 و"1985)"، بداية تعريب الرسوم المتحرّكة. وجيل "ساسوكي" و"جزيرة الكنز" (1985 و1990).
رسائل اللقلق
في دار الثقافة والفنون في ولاية ميلة، التي تبعد 500 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة، يشرف الفنان عنتر دعدوش على ورشة دائمة للرسوم المتحركة، استقطبت جيل الشباب، يتخصّص كل واحد منهم في عنصر من العناصر، مثل الرسم، والتحريك، والسيناريو، وأداء الأصوات.
بدأت التجربة تتمخّض عن أفلام حاز بعضها جوائز وازنة، داخل وخارج الجزائر، مثل فيلم "تجارة" المتوّج بجائزة أفضل فيلم تحريك، في المهرجان الدولي لحقوق الأطفال في تونس.
وجسّد عنتر دعدوش، ملامح الهوية الجزائرية في الرسوم المتحركة، من خلال فيلمه "رسائل اللقلق"، الذي اختار الشطر القديم من مدينة ميلة التي تزخر بآثار عدّة، منها السور البيزنطي، وجامع الفاتح أبي مهاجر الدينار، فضاءً مكانياً له.
يقول دعدوش: "صحيح أن الرسوم المتحركة موجّهة أساساً لشريحة الأطفال، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن الرسائل السياسية والأيديولوجية، لكنها في النهاية فن حامل لهوية حضارية ما؛ ومن واجبي بصفتي صانع تحريك، أن أوظّف ملامح هوّيتي من لباس ومعمار وتاريخ وقيم وعادات وتقاليد".
ويختم: "تأخّرنا في "جزأرة" الرسوم المتحركة بسبب قلّة وعينا بهوّيتنا، وهو ما بدأ يتشكّل في السنوات القليلة الماضية".
بدايات الرسوم المتحركة
كان قد مرّ 45 عاماً على احتلال الجزائر من قِبل الفرنسيين، حين سجّل الفنان والمهندس إيميل رينو اختراع جهاز "البراكسينو سكوب"، كأوّل جهاز لعرض الرسوم المتحركة، التي يبدو أنها انبثقت قبل انبثاق السينما.
لكن الانطلاقة الفعلية لهذا الفن الطفولي الساحر، الذي حمل اسماً ابتدائياً هو "المسرح البصري"، كانت عام 1892 قي متحف "غريفين" الباريسي، بعروض قصيرة اعتمدت أكثر على الغناء والموسيقى.
غير أن الفصل العنصري الذي كانت تعتمده إدارة الاحتلال الفرنسي، بين السكان الفرنسيين والجزائريين، جعل فن الرسوم المتحركة حكراً على الشريحة الأولى، فيما بقي الطفل الجزائري، في مناطق معينة، مرتبطاً بمسرح الظل الموروث من العثمانيين في الجزائر المسمّى "قراقوز"، إذ ذكر الرحّالة الألماني والسمان، أنه شاهده في قسنطينة عام 1862.
تحرير الشغف
كان استرجاع السيادة الوطنية على الإذاعة والتلفزيون في الجزائر في 28 أكتوبر 1962، بداية لبث سلاسل عالمية من الرسوم المتحرّكة، فكأن حكومة الاستقلال أرادت القول إن هذا الفن الذي كان حكراً على أطفال المستوطنين، سيصبح متاحاً لأطفال الجزائر.
ولأن إمكانيات الدبلجة إلى اللغة العربية كانت منعدمة، كانت الرسوم المتحركة التي يبثّها التلفزيون الجزائري باللغة الفرنسية، فكان شغف المشاهدة لذاتها أولى من شغف اللغة.
سعادة الأطفال
يقول الكاتب والصحفي رمضاني العربي: "كنت طفلاً في منطقة ريفية معزولة، تعتاش على النشاط الزراعي والرعوي، تلقّى معظم ساكنيها تعليماً محدوداً في المساجد، ولم يكن هناك غير المدرسة والمسجد والوادي، وأحياناً السوق الأسبوعي، لرؤية العالم واكتشاف الحياة خارج المنزل، فضلاً عن التلفاز والراديو وصحف الوالد".
يضيف: "كنا نخرج مساء من مدرسة قديمة تعود إلى الحقبة الاستعمارية، نحمل مشاعر سلبية تحت وطأة المزاج العام المكهرب بالسياسة والحرب الأهلية، لكن ذلك كان يتبدّد لحظة الجلوس قبالة تلفاز عتيق بالأبيض والأسود، ومشاهدة أفلام كرتون نعيش معها حلماً يتجاوز واقعنا".
لم تكن الرسوم المتحركة، يقول صاحب كتاب "أناشيد الملح"، فسحة هروب فقط، "وإنما محاولة للتماهي مع قصصها البريئة بمكر الطفولة وعوالمها الإنسانية، وهي تنشد الخير والفضيلة وتثري الكون بأحلام الصغار بالسعادة".
ويخلص : "ما تزال شارة كابتن ماجد أو سنان في مخيّلتي، أسمعها بصوت مرتفع من بيت الجيران، ويأتي ذلك الشعور الجميل ليؤكد بأن الحياة أكبر من أخبار الموت والحواجز الأمنية".
تأكّد هذا الارتباط الوجداني للجزائريين برسوم طفولاتهم، خلال حفلات الفنان السوري طارق العربي طرقان، صيف 2023، حيث اضطر المنظّمون إلى تأجيل بعضها بسبب الازدحام، إذ توافد الآلاف على تلك الحفلات، بالرغم من غلاء التذاكر.
وتناقلت مواقع التواصل مشاهد للحاضرين الذين كانوا يُردّدون، خلف الفنان طرقان وأولاده، أغاني شارات الرسوم المتحركة التي غنّاها، مثل "ماوكلي" و"فرسان الفضاء" و"موكا موكا" و"سلاحف النينجا".