نظّم المتحف القومي للحضارة المصرية، احتفالية بعنوان "كوكب الشرق .. 100 سنة من تراثنا الفني"، في الذكرى المئوية للحفل الأوّل.
تضمّنت الاحتفالية عرض مقتنيات شخصية للسيدة أم كلثوم، وميداليات وطوابع بريدية ولوحات، وأقيمت ورش تفاعلية، وتصميم بطاقات تحاكي تجربتها، وتقديم أغانيها للجمهور.
وكانت الحكومة المصرية افتتحت متحف أم كلثوم في جزء من قصر "المانسترلي"، في ذكرى ميلادها عام 2001.
يضم المتحف مجموعة من مقتنياتها الشخصية، والأوسمة التي حصلت عليها، وأثوابها الشهيرة ومناديلها، فضلاً عن عرض وثائقي لسيرتها، وصوراً نادرة، وجهاز جراموفون، وأسطوانات ونوتات موسيقية، وأوراقها الشخصية مثل جواز السفر ودفتر يومياتها والقلم الخاص بها ونظّارتها.
كما يضمّ سجلاً بما كتبته الصحافة عنها، ومكتبة سمعية بصرية.
من الإنشاد الديني إلى الحفلات
بدأت أم كلثوم بالإنشاد الديني وهي صغيرة برفقة والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وكانت حينها ترتدي زيّاً بدوياً للرجال، وأوّل أجر تقاضته عبارة عن طبق "مهلبية".
هذا يعني أن لقاء السيدة الأوّل مع جمهور القرى كان عام 1910. وفي محطة القطار، التقت أستاذها الأوّل الشيخ أبو العلا محمد عام 1916، الذي نصح والدها بالانتقال بها إلى القاهرة.
وبمناسبة الإسراء والمعراج، دُعيت الشابّة لإحياء حفل في قصر عز الدين باشا يكن في حلوان، في مايو 1917، لكن الباشا انزعج من هيئتها الريفية، فأمر بحبسها في "بدروم" القصر، واستدعى الشيخ إسماعيل سكر لإحياء الليلة.
لكن أم كلثوم الصغيرة استعطفت زوجة الباشا، التي أقنعته بالاستماع إليها، فانبهر بها وعوّضها بأجر ثلاثة جنيهات، ثم قدّمها في الحفل، وخلع "طربوشه" كناية عن الإعجاب الشديد بصوتها.
لكنها لم تستقرّ في القاهرة إلا عام 1921، وغنّت أغاني غيرها على مدى 3 سنوات، ثم قدّمت وصلات من دون موسيقى في ملهى "البوسفور". هكذا فإن اختيار عام 1924 باعتباره بدايتها الفنية ليس دقيقاً، لكنه يعبّر عن الولادة الحقيقية لها كفنانة صاعدة.
في هذا العام، غنّت من لحن أستاذها أبو العلا محمد "وحقك أنت المنى والطلب"، وكانت أول أسطوانة لها، وتعاونت مع أحمد صبري النجريدي الذي قدّم ألحاناً خاصة بها.
في العام نفسه، التقت محمد القصبجي الذي تبنّى صوتها، وأسس فرقتها الموسيقية وبقي رئيسها حتى وفاته، وغنّت من ألحانه "قال إيه حلف ما يكلمنيش"، كما التقت مستشارها الفني والثقافي الشاعر أحمد رامي، وغنّت من كلماته "الصب تفضحه عيونه".
أي أن العام 1924 كانت بداية ظاهرة أم كلثوم وشراكتها التاريخية مع رامي والقصبجي لنصف قرن تقريباً.
ساكنة الردايو
كيف يراها شعراء العامية الآن؟ طرحنا السؤال على الشاعر أمين حداد فأجاب: كمستمع أحب أم كلثوم جداً وكتبت عنها قصيدة منها:
"وأم كلثوم اللي ساكنة الراديوهات
قاعدة ويالجدة في الدور الفوقاني
كل حواديتهم.. آهات
تنهيدات
صوتهم الهادي يشقّر ع البنات
يا حبيباً زرت يوماً بيته في الملك المظفر
ذكريات".
يؤكد حداد على حبّه لأم كلثوم، التي أصبحت جزءاً من ذاكرة ومشاعر شعب، فماذا عن علاقة والده الشاعر الكبير فؤاد حداد، ولماذا لم يتعاون معها؟
يجيب: "والدي كان يحب أم كلثوم كصوت عظيم، لكنه لا يميل كثيراً إلى "الكليشهات" العاطفية في أغانيها، وكان يرى أن بعض كلمات أغانيها لا ترقى إلى مستواها. لكن ذلك لا يمنع أنه كان مغرماً بثلاثي أم كلثوم وبيرم والشيخ زكريا، في أغاني مثل "الأم" و"الآهات" و"حلم".
يضيف: "أعتقد أن معظم شعراء العامية وليس كُتّاب الأغاني المعروفين، بل أقصد فؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي، لم يميلوا للتعبير عن الحب بالطريقة السطحية في الأغاني، وكانت فكرتهم عن الفن مختلفة، لذلك لم يحدث تعاون بينها وبينهم إلا نادراً".
هذا التحفّظ على تجربتها، لا ينفي أن فؤاد حداد كان يقدّرها كقامة فنية عظيمة، وعندما قدّم في الإذاعة برنامج "كلمة مصر" خلال حرب الاستنزاف عام 1972، وقبيل وفاتها، كتب قصيدة كاملة عنها ضمن شخصيات مصرية أخرى، وكانت الفنانة سميحة أيوب هي التي تؤدي القصائد، وجاء فيها:
"صوتك يا ستّ الكل غنّى لنا
فرحة شقانا وصبرنا ونيلنا
غنّي القمر واسقيني من لياليه
ومن السحر للفجر لما يليه
غنّي السواقي ردي أشواقي
أحيي الشراقي رقرقي الأنغام"
ملهمة الروائيين
عن علاقة الروائيين بإرثها، يقول الكاتب إبراهيم عبد المجيد: "استحضرتها في أكثر من رواية مثل "إسكندرية في غيمة"، وكتبت عنها مقالات استعدت فيها ذكرياتي معها، عبر مراحل حياتي بين الإسكندرية والقاهرة، وكيف كانت الشوارع تخلو في سهرة الخميس الأوّل من كل شهر للاستماع إليها، ومواعيد أغانيها الراسخة في الرابعة عصراً في محطة "أم كلثوم".
تابع: "لا أنسى عندما كنت أعود من سهرة السينما، وأجد المقاهي مفتوحة وينبعث صوتها من محطة صوت العرب،كانوا يعيدون الأغنية ذاتها "سهران لوحدي"، كأنه مشهد أبدي يتكرّر إلى ما لا نهاية".
ويؤكد أن "صوت أم كلثوم يتمدّد في الفضاء، ولا أوافق على ما يردّده البعض بأنها كانت "أفيوناً للشعوب"، بل كنت ومازلت على ثقة بأنها تجعل العواطف أكثر رقّة، وتُدخل جمهورها في عالم الذكرى الجميل، وتجعلهم أكثر قدرة على الحياة.. لذلك نحن أكثر حاجة إليها اليوم لنواجه البؤس الذي نعيشه".
خبز الروح اليومي
تردّد صوت "الست" عبر الأثير من المحيط إلى الخليج، حفلات وذكريات في مصر ودمشق وبيروت والكويت والإمارات وفلسطين.
كما ذهبت إلى أوروبا في حفلتها الشهيرة في باريس. لذلك سألنا البروفسور وائل فاروق، أستاذ الأدب العربي في ميلانو، هل تسرّب سحر أم كلثوم إلى الأدب الإيطالي، فأجاب:
"على حد علمي لم يصادفني كلام عنها في الأدب الإيطالي، لكنها معروفة في إيطاليا كأيقونة، ومشهورة عند الإيطاليين بألقاب مثل: كوكب الشرق، وملكة النيل.. كما كتب عنها صحافيون إيطاليون مقالات كثيرة تمتدح أصالتها، وأنتج عنها فيلم تسجيلي إيطالي".
في السنوات العشر الماضية، ارتفعت وتيرة الهجرة وأصبح هناك نحو نصف مليون مصري في الشمال الإيطالي، "لذلك ليس مستغرباً أن تجلس في عربة المترو أو المقهى وتسمع صوتها، معظم الناس في إيطاليا يعرفون من هي أم كلثوم، وعندما نلتقي كمثقفين عرب يكون صوتها في خلفية النقاش".
يقول: "لا أنسى عام 2014 حين أقمنا الدورة الأولى لمهرجان الثقافة العربية بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية، ودعينا فرقة أم كلثوم بقيادة المايسترو عاطف إمام، وألهمنا ذلك تأسيس كورال عربي لإحياء موسيقانا العربية".
"وبحكم تدريسي في الجامعة تعرّفت على طلاب من أصول عربية، كانوا يشتكون أن أمهاتهم لا يتفاعلن مع الثقافة الإيطالية.. وهنا قررنا أن نشجّع هؤلاء الأمهات على الخروج وحضور حفل لأغاني أم كلثوم.. ثم واجهتنا مشكلة أطفالهن الصغار؟ فاستأجرنا ساحة كبيرة في كنيسة وتطوّع معنا طلاب إيطاليين، لتقديم برنامج ترفيهي للأطفال، حتى تستمتع الأمهات بحفل أم كلثوم".
تابع: "وبمجرد أن بدأت موسيقى أم كلثوم تتردّد في القاعة التاريخية للجامعة الكاثوليكية، التي يزيد عمرها عن سبعة قرون، انفجرت السيدات في البكاء وتأثّر الإيطاليون جداً بالمشهد. بعدها التفّ حولي الإيطاليون يسألونني عن كيفية الحصول على أغانيها. لذلك أقول باختصار: أم كلثوم هي خبز الروح اليومي الذي نعيش عليه في ميلانو".
يتقاطع ما قاله وائل فاروق مع أغلبية المصريين والعرب في المهاجر، وحول العالم. كأن الإنسان العربي المهاجر يحتمي بصوتها بمواجهة الضياع.. مثلما يحتمي بها من يعيش في الواقع العربي بمواجهة صور البؤس كلها.