قبره بين الشارع والجامع.. علي الوردي يثير الجدل في العراق

time reading iconدقائق القراءة - 9
قبر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قبيل أعمال البناء التي دفعته نحو الشارع الرئيس. - الشرق
قبر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قبيل أعمال البناء التي دفعته نحو الشارع الرئيس. - الشرق
بغداد-علي صلاح بلداوي

في سبتمبر عام 1995، رحل عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي وهو في منزله، بعد رحلة مريرة مع مرض أنهكه، بفعل نقص الأدوية، وعجز المستشفيات الحكومية عن علاجه، نتيجة الحصار الذي كانت تفرضه أميركا على العراق.

علي الوردي هو أوّل من دعا إلى إنشاء "علم اجتماع عربي"، يدرس المجتمع العربي وفقاً لخصوصياته الجغرافية والثقافية، مستنداً إلى أفكار ابن خلدون، وهو أحد القلائل الذين كرّسوا حياتهم لدراسة المجتمع العراقي والكتابة عنه. 

ذكرت عائلته في مناسبات مختلفة، أن الوردي في وصيّته، عيّن ثلاثة أمكنة كي يُدفن فيها وهي: الصحن الكاظمي، وجامع براثا، والمقبرة الواقعة في محيط مدينته الكاظمية. 

بعد رفض السلطات دفن الوردي في الصحن  الكاظمي، دُفن أخيراً في زاوية من جامع براثا، بأمر من العلامة حسين علي محفوظ، الذي يعدّ أحد أبرز علماء الدين في العراق، فضلاً عن قرابته بالوردي.

بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، تحوّل العراق إلى خرسانة عملاقة على وجه الأرض، ذلك أن أغلب المساجد والمراكز التعليمية والتجارية، وحتى المؤسسات الحكومية، حصّنت نفسها بالحواجز الخرسانية الطولية، التي تحوّل كل ما يحيط بها إلى سجن.

 هذا الإجراء افتعله الاحتلال والحكومات المتعاقبة، للحماية من الهجمات الإرهابية، التي كانت تستهدف كل ما هو حيوي ومكتظ بالناس طيلة الأسبوع.

"جامع براثا" الذي يقع في منطقة العطيفية، ضمن مدينة الكاظمية، في قلب بغداد، هو الآخر لم يكن بمنأى عن العوازل الخرسانية التي أحيط بها من جوانبه كافة، ومن ضمنها قبر العلامة الدكتور علي الوردي، الذي يشغل إلى جانب قبر الدكتور علي جواد الطاهر، مساحة لا تتجاوز بضعة أمتار، في زاوية مهجورة من زوايا الجامع.

 المدخل المؤدي إلى القبر، هو عبارة عن ممرٍ طويل يبدأ بعد اجتياز الباب الرئيس، ويفضي إلى فسحة مكشوفة بمساحة صغيرة جرداء ومهجورة، لا أثر لعنايةٍ للمكان، وتدفع الرياح بالأكياس والأوساخ والأتربة، فتغطي القبر ومحيطه.

مناشدات ووعود

على مدى السنوات الماضية، ظهرت بين فترة وأخرى، صورٌ وفيديوهات ومناشدات من قِبل الذين يزورون القبر، مطالبين بضرورة العناية بهِ، وترميمه وتنظيف المكان.

ومعلوم أن للوردي مكانته الكبيرة في الثقافة العراقية والعربية، ولا يمكن أن يطاوله الإهمال بهذه الطريقة، إذ تقع على عاتق وزارة الثقافة، واتحاد الأدباء، وغيرها من المؤسسات الحكومية المعنية بالشأن الثقافي، مسؤولية جعل الموقع أكثر تحضراً.

في ظلّ المناشدات التي ظهرت عبر الإعلام، وأثارت الرأي العام، كانت تبرز بالمقابل تصريحات مختلفة لبعض الجهات الحكومية، وعلى رأسها "أمانة بغداد"، بحجة إطلاق مشروعات تنظيمية، لإعادة بناء القبر وترميم المكان الذي يشبه الخربة، وجعله يتلاءم مع مكانة الوردي وأهميته.

 في الواقع لم تكن تلك المشروعات سوى حملات تنظيفٍ بسيطة لمكان القبر وغسله، ومن ثم تركه على حالته الأولى، في حين أن إدارة الجامع لم تكن تُعنى بالقبر أو تهتمّ به، على الرغم من مناشدات المثقفين قبل سنين طويلة، وحتى فترةٍ قريبة، إذ لطالما كان القبر خارج اهتمام القيّمين على الجامع، وهذا ما يعرفه الجميع.

بين الشارع والجامع

في إطار حملة إعمار تشهدها العاصمة العراقية، من ضمنها رفع الحواجز الخرسانية، شهد جامع براثا إزالة كافة الحواجز المحطية به، ليظهر أخيراً، وأمام المارّة، قبر عالِم الاجتماع علي الوردي، إذ لم يعد يفصل بينه وبين الشارع سوى ثلاثة أمتار، وبينه وبين جدار الجامع الذي بُني بطريقةٍ تجعل من القبر خارجه وبمعزلٍ عنه، المسافة نفسها.

هذا الأمر جعل المارة الذين يجهلون هذه الشخصية يسألون: من هو الوردي؟

 في حين أن هذا المشهد جعل بعض المثقفين والمتابعين في حيرة من أمرهم، إذ ليس من المعقول أن يُترك القبر بهذه الطريقة، بجوار شارع رئيسي تعبره آلاف السيارات يومياً، بعيداً عن أي خصوصية، وبشكل لا يتناسب لا مع المكان، ولا مع مكانة هذا العالِم الكبير.

إعمار متوقف

عقب حملة إعلامية أثارت الرأي الثقافي بهذا الخصوص، أعلنت إدارة الجامع في بيان، "أن وضع القبر على ما هو عليه، هو نتيجة عمليات الإعمار المتعلقة بالجامع، وهي بالأساس متوقّفة، ومن المفترض وبحسب التصميم الجديد، أن يكون قبر الوردي ضمن الباب الرئيسي للجامع"، فيما رميت الكرة بملعب الحكومة، التي وجّه إليها البعض تهمة التأخير في عمليات البناء".

في مارس الماضي، قامت مديرية الأشغال العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، بتأهيل المكان المحيط بالقبر وترميمه، ووضع لافتة تعريفية بصاحبه، وتثبيت صورته داخل صندوقٍ زجاجي للحماية، لإظهاره بأفضل طريقة، إلى جانب زراعة الفسحة المحيطة به.

خلل عام

في حديثها لـ "الشرق"، اعتبرت أستاذة علم الاجتماع الأكاديمية لاهاي عبد الحسين، التي ترجمت أطروحة الدكتوراه لعلي الوردي إلى العربية، "أن البيئة العراقية تفتقد إلى تقاليد العناية بإرث الراحلين، وحتى أماكن دفنهم".

أضافت: "هناك خلل عام يؤدي إلى إهمال القامات الثقافية في مجال العلم والفن والأدب. يعوزنا احترام إرث من اجتهدوا وأبدعوا لخدمة مجتمعهم. ليس لدينا تقاليد على هذا الصعيد كما يحدث في مصر ولبنان وحتى الأردن، فضلاً عن دول الخليج التي تحاول الاهتمام بجوانب كهذه، لكن العراق المعروف بعمقه الثقافي والحضاري، لا يزال يبطىء الخطى".

إهمال البيوت والمقتنيات

تشير عبد الحسين إلى جانب آخر من إهمال يطال العلماء والمبدعين، "وهو عدم استثمار بيوتهم ومقتنياتهم، وتوظيفها بالطريقة التي تجعلها متاحة لمن يرغب بالاطلاع عليها".

 تقول: "هناك مساعٍ لعقد الندوات وإقامة المحاضرات واللقاءات للحديث عن الشخصيات المهمة، تبذلها جهات إعلامية وثقافية، لكن هذه الجهود لم تمتد إلى توطين هؤلاء الكبار في بيوتهم والأحياء التي عاشوا فيها، التي كان لها كبير الأثر على منتجهم". 

وتؤكد أن الزائر العراقي أو العربي والأجنبي، "سيكون سعيداً عند زيارة بيوت الكبار، إذا ما تمّ تطويرها بطريقة تجعل من الممكن زيارتها والإطلاع على أجوائها، وعلى أثر تلك الشخصيات التي طبعت التاريخ العربي المعاصر بإنجازاتها الفكرية".

وتختم:"يستحق أستاذنا الوردي كل الاهتمام والمحبة، لما يثيره من زوبعات، حتى بعد ثلاثين عاماً على رحيله".

مسؤولية العائلة

واعتبر الباحث في التراث العراقي صباح السعدي في حديثه لـ "الشرق"، "أن الجهة المسؤولة عن هذا الإهمال هي عائلة الوردي، لأن تنظيم القبر وإحاطته بما هو مناسب، يتطلب التنسيق مع الجهات الرسمية والمتابعة المستمرة، وبالتالي لا يمكن التعويل على هذه الجهات في العناية بقبر الوردي، وهذا الجانب ليس ذي أهمية إلا عند من يعرف قيمة هؤلاء".

وأشار السعدي إلى أنه كان أوّل من زار بيت الوردي في مدينته الكاظمية قبل أشهر، وأثار موضوع استحواذ أحد المستأجرين على البيت وعدم تسليمه لذويه، "إذ إن منزل الوردي مستأجر، علماً أنه كان من المفترض أن تحوّله عائلته إلى متحف يضم مقتنياته وهذا لم يحصل".

فئة حاربها الوردي

صاحب مكتبة "لوبوڤ" محمد علاء الحداد، الذي زار القبر أكثر من مرّة، منذ أن كانت الخرسانات تحيط به، وحتى بعد إزالتها، لم يستغرب ما حدث، ولم يبدِ أي استنكار، قائلاً في حديثه لـ"الشرق": "إن الفئة التي حاربها الوردي طوال حياته، هي من يمسك بزمام الأمور الآن، فلا ننتظر منهم أن يهتموا  بقبره، بل نحمد الله أنه لم يتعرّض للإزالة والهدم".

علي الوردي 

علي الوردي هو رائد علم الاجتماع في العراق، تمتاز مؤلفاته وأبحاثه بالصبغة الأنثروبولوجية، ركّز على دراسة عادات وتقاليد المجتمع العراقي وخصوصاً بغداد، وتأثير المناسبات الدينية في حياة الفرد العراقي. 

درس الوردي في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم في جامعة تكساس في أميركا، وحصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع عام 1947، وعلى الدكتوراه  عام 1950بتفوّق. بعد تخرّجه، عاد إلى العراق ليعمل في قسم علم الاجتماع بجامعة بغداد.

انتقد بعض رجال الدين في كتبه مثل "وعاظ السلاطين"، و"مهزلة العقل البشري"، متهماً إياهم بتجاهل مصالح الأمّة لحساب مصالحهم الشخصية، وتخاذلهم عن أداء واجبهم الديني.

من أهم الأعمال التي صدرت له ولازالت محطّ اهتمام القرّاء ونقاشاتهم، "وعاظ السلاطين"، "مهزلة العقل البشري"، "أسطورة الأدب الرفيع"، "الأحلام بين العقيدة والعل"، "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" (ستة اجزاء في 12 كتاباً).

تصنيفات

قصص قد تهمك