"فلسفة الرغبة".. أبعد من الحاجة وبحث عن الغائب

time reading iconدقائق القراءة - 7
كتاب الفيلسوف الفرنسي فريدريك لونوار مترجماً إلى العربية - @DarAlSaqi
كتاب الفيلسوف الفرنسي فريدريك لونوار مترجماً إلى العربية - @DarAlSaqi
الدار البيضاء-مبارك حسني

يجوب الفيلسوف والمؤرّخ الفرنسي، فريدريك لونوار، الذي تباع كتبه بلغات عدّة، آفاق الرغبة تاريخياً وفلسفياً، وماهية رغبات البشر وأساليب توجيهها، وذلك في كتابه "Cultiver Le Desir" (دار فلاماريون، باريس 2022)، أو "فلسفة الرغبة" بحسب الترجمة العربية للكتاب (دار الساقي 2024).

يقول لونوار المولود في مدغشقر، مستنداً على ما كتبه الفيلسوف باروخ سبينوزا، "إن الرغبة هي جوهر الإنسان، وهي ذات طابع لانهائي، يميّزنا كبشر بشكل خاص، كما أنها المحرّك لوجودنا. فما قيمة حياة بلا رغبات؟"

 ويؤكد "أن تنوّع رغباتنا وشدّتها، هو ما يدفعنا نحو الحياة والعمل، ويمنحنا الشعور بأننا أحياء فعلاً. وإذا كانت الرغبة مرتبطة بالإنسان منذ الولادة، فهي مثل الأحاسيس والمشاعر والطباع البشرية، تخضع في تجسّدها، لشروط المكان والزمان الذي تتشكّل في رحابهما". 

تتجلى أهمية هذا الكتاب في كونه يضع الرغبة في صلب متطلبات العصر، بكل مستجداته التي تتعاظم يومياً، فالمجتمع الحالي استهلاكي بامتياز، مليء إلى حدّ التخمة بالكثير من الخيارات الجديدة المطروحة، وبالتكنولوجيا، وبالسطوة القاهرة لوسائل التواصل، وبوفرة العروض في كل شيء وأي شيء. 

الرغبة سعادتنا، الرغبة تعاستنا  

هذا الدور الحيوي الذي تلعبه الرغبة، هو ما يجعلها صعبة ومعقّدة، هكذا يطالبنا الكاتب بالتفريق بين الرغبة والحاجة، وبين الرغبات الجيدة والرغبات السيئة، ملاحظاً الاختلاف الكبير بين تحقيق الرغبات الشخصية، وتحقيق رغبات الآخرين عبر التقليد. 

يطرح الكاتب السؤال التالي: "كيف نتخلص من عدم رضانا الدائم، ونعبّر عن رغباتنا بطريقة صحيحة، ونشعر بفرح عميق؟"

للوصول إلى إجابات مقنعة وعملية، ركز على مفهوم الرغبة من وجهة نظر فلسفية، وكيفية ترويضها لدى كل من الفلاسفة أفلاطون وسبينوزا وبرغسون وأبيقور ونيتشه، فضلاً عن بوذا وعالِم النفس كارل يونغ، وعالِم الأنثروبولوجيا روني جيرار. 

أما الهدف الرئيس، فهو التأكيد على  أنه إذا كان إشباع الرغبات هو الذي يجلب السعادة، فهي تجلب بالطريقة ذاتها التعاسة أيضاً.

تعريف الرغبة

الجديد هو تصديره الكتاب بالإشارة إلى أن ما نظّر له الفلاسفة وعلماء الدين في هذا المجال، وأكدته وأظهرته الاكتشافات العلمية الجديدة، ويقول في هذا السياق:

"إن دماغنا البدائي، هو الذي يمنح الدفعة لرغباتنا الأساسية في الطعام، والجنس، وفي البحث عن التقدير الاجتماعي، أو الحصول على المعلومات، وبذلك يكون الإنسان مدفوعاً بعطش لا حدود له لهذه الرغبات الأساسية، والمتعة التي توفّرها له". 

ما يرغب الإنسان في الحصول عليه، لم يتغيّر أبداً. ما حدث هو تغيّر البيئة المجتمعية الحاضنة له رأساً على عقب، إذا جاز القول.

هذا الأمر يستوجب إعادة تنظيم الرغبة بالشكل الذي يتماشى مع تحقيق الاكتفاء، وتحقيق الأهداف المرجوة على المستوى النفسي والعاطفي، وصولاً إلى حالة من الارتياح والفرح. 

يعتقد الكاتب الفرنسي، أن المشكلة الأكبر هي أن الإنسان لا يستطيع تلبية كل رغباته، الأمر الذي يعقّد حياته ويربك أولوياته. لذا الأهم أن يتمكّن الكائن البشري من ترتيب رغباته والموازنة بينها، وهذا برأيه أساسه التربية والحضارة.  

نظريتان للرغبة

يؤكد الكاتب على وجود نظريتين: الأولى تدلّ على الرغبة باعتبارها "نقصاً"، بمعنى السعي للحصول على ما لا نمتلكه، أي السعي لتعويض النقص باستمرار، الذي لا يتوقف إلا مع انتهاء دورة الحياة. 

والثانية هي الرغبة باعتبارها "قوّة"، وتعني تعبئة كل الطاقات التي يتوفّر عليها الإنسان، عندما يتمّ توجيهها بشكل صحيح، إذ يمكنها وحدها أن تقودنا إلى السعادة القصوى.

 تتوفّر النظريتان على قدرٍ من الصحة. فالإنسان دائم التأرجح بين محاولة سدّ النقص كحد أدنى، ومحاولة تنمية مواهبه والإبداع والتقدّم والمعرفة كحد أعلى، وقد يحقّقهما معاً في حالات معينة.  

عبودية الرغبات

يطوّر لونوار مسار التفكير في هذا المجال، وما يفرضه العصر الحالي من تجديد وإعادة تحديد للتعريفات السابقة حول الرغبة. 

يتحدث في الفصل الأوّل عن استثارة الرغبات بلا حدود، مع وجود الإشهار الطاغي في جميع الفضاءات، وفي وسائل الإعلام والتطبيقات الافتراضية المختلفة، وعن النزوع المتزايد لمجاراة ما يرغب به الآخرون، ما يؤدي إلى سيادة الطمع والحسد مثلاً، كسبيلين يؤديان إلى التعاسة والعنف. 

في الفصل الثاني، يبيّن المؤلف كيف سعت الأديان والفلسفة والتيارات الفكرية في آسيا، وتيارات الزهد والنسك السلوكية، إلى اقتراح كيفية الإفلات من أسر هذه الرغبات، عبر اتباع التعاليم الدينية، أو تقوية الإرادة واستخدام العقل، أو الامتناع والزهد.

الدافع الحيوي

خصّص الكاتب الفصل الثالث للحديث عن نظرية الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، عبر مفهومه "للرغبة كقوّة، وكيف يمكننا إعادة توجيه رغباتنا انطلاقاً من مشاعر إيجابية، تُعبِّئ كياننا وتقودنا نحو فرح عميق ودائم".

ثم أردفها بالحديث عن وصايا نيتشه، ويونغ، وبيرغسون، "من أجل زيادة قدرتنا على الرغبة وتغذية دافعنا الحيوي، وخصوصاً من خلال الإبداع". ولم ينس دور الأديان في تعاليم الإخاء والسماحة والصبر والمحبة.  

وبما أنه يستحيل علينا عدم الخضوع للرغبات، فالسبيل الوحيد لضبطها وتنظيمها، هو توجيهها نحو ما هو أقوم، وعدم اعتبارها نقصاً أو مشكلة بل تنميتها، وبذلك ننتقل من عبودية العواطف إلى قوّة الحرية الداخلية". 

يقول: "أنا مقتنع بأننا لن نستعيد حريتنا وفرحنا الحقيقي إلا من خلال تنمية الدافع الحيوي، وإيقاظ رغباتنا الأكثر شخصية وتوجيهها نحو أشياء تجعلنا ننمو، وتضفي معنى على حياتنا، وتسمح لنا بتحقيق ذواتنا بالكامل وفق طبيعتنا الفريدة". 

برميل مثقوب 

يستعيد لونوار التشبيه الذي أورده أفلاطون عن الرغبة، بأنها عبارة عن برميل مثقوب، يستحيل أن يمتلئ بالكامل.

 وهنا نسأل عما يمكن فعله حيال ذلك، يجيب الكاتب: "يتلخّص الأمر بتجديد العواطف السعيدة مثل الحب، الذي يرتقي بالإنسان نحو مناطق الفرح والسرور، وتجنّب العواطف الحزينة، كالحقد والضغينة وما شابه".

يضيف: "لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بتطبيق مقولة سقراط الأزلية :"اعرف نفسك بنفسك"، أي سلوك طريق المعرفة ومحاربة الجهل والأمّية. وهو ما سيسهّل على الإنسان الحصول على وعي الرغبة بشكل حيوي خالص". 

تصنيفات

قصص قد تهمك