الكاتبة أم الزين بنشيخة: ينهزم الغرب كل يوم على أرض فلسطين

time reading iconدقائق القراءة - 10
الباحثة التونسية أمّ الزين بنشيخة المسكيني. 22 أبريل 2024 - الشرق
الباحثة التونسية أمّ الزين بنشيخة المسكيني. 22 أبريل 2024 - الشرق
تونس -حاتم التليلي محمودي

أن تتأمّل تجربة الباحثة في الفن والجماليات التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني، يعني أن تتخطّى كل المناطق الحدودية بين الأجناس الكتابية، فهي على الرغم من كونها متحصّلة على الدكتوراه في الفلسفة الحديثة، وأستاذة في الجامعة التونسية، إلا أن ذلك لم يمنعها من اختراق الفضاء العمومي فكراً وممارسة، وكتابة الشعر والرواية والمقالات النقدية، فضلاً عن كتبها الفلسفية ومواقفها السياسية.

هذه التجربة الثرية دفعت "الشرق" لإجراء حوار مع الكاتبة التونسية، ومعرفة آراء المثقفين والمفكرين أمام ما يجري الآن في عصرنا، الذي تقوده آلات الحرب والأوبئة والمخاوف المتعدّدة. 

في كتابك الأخير "الفن وسياسات الذاكرة" نقرأ أن المطلوب من "الديكولونياليين" كتابة تاريخ الغرب المظلم والكفّ عن اعتباره مقياساً للمعرفة وللتقدّم، هل يعني ذلك السقوط في معاداة الغرب؟

ليس المطلوب معاداة الغرب، بل إن مهمّة الفكر في ثقافتنا هي إعادة تنضيد سياسات الذاكرة الخاصة بطبيعة انتمائنا إلى أنفسنا من خارج النموذج الغربي. المقصود هو أن علاقتنا بالغرب التي تمّ  ترتيبها إلى حدّ الآن، قامت إمّا على التبعية الاستعمارية ومحاكاته كنموذج كوني للحقيقة وللحياة، وإمّا على معاداته ورفض قيمه ومعارفه. 

طريق ثالث

الموقف الأوّل يتكلم باسم التنوير، والموقف الثاني مضادّ للتنوير والحداثة، وهو موقف سلفي في مجمله. وهنا  تظهر الحاجة إلى "طريق ثالث" بين التنويريين والسلفيين، وبين الحداثوويين والأصوليين. في هذا الأفق يمكن للفكر الديكولونيالي أن يمثّل بديلاً مغايراً. 

 بمعنى أدق، التحرّر من الاستعمار المعرفي والأنطولوجي والجمالي والإيكولوجي، هو  مهمّة العلوم الإنسانية عموماً، والفلسفة خصوصاً في الفكر العربي  المعاصر. نحن لا نختزل هذا الفكر في جغرافيا لغة الضاد، بل هو فكر يمتدّ من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية والهند، وبقية العالم غير الغربي وغير الشمالي عموماً. إنه ما يسمّى في الدراسات الديكولونيالية "جنوب الحداثة".

لماذا تأتي هذه الدعوة الآن؟ 

 ما أردت بيانه ضمن كتابي الأخير ، هو محاولة رسم خريطة مغايرة لاختراع  الذاكرة  الإبداعية في ثقافتنا، لا تخضع  لقيم جماليات أوروبا، قائمة على ادعاء الكونية والوصاية الاستعمارية على مخيال الشعوب. ومن أجل ذلك، علينا تثمين الحياة الإبداعية الخاصة بنا، وأن نتحرّر من هالة المعجزة الغربية. 

هذا هو معنى ضرورة العناية بما يحدث في أوطاننا من أحداث سردية أو مسرحية أو موسيقية أو شعرية أو تشكيلية. وذلك بدلاً عن مواصلتنا الاحتفاء بشكسبير وبودلير وأرتو وبيكاسو وكافكا. أن تكون ديكولونيالياً، معناه أن تتدرّب على محبّة ما تقترحه عليك الذاكرة الشعبية أو الإبداعية لأبناء وبنات شعبك، وأن تجعل من تلك الذاكرة مجالاً لاختراع قيم المستقبل الخاص بثقافتك وجغرافيتك ومحليتك الخاصة.

 آن الأوان أن يكفّ الأفريقي والعربي والمسلم والهندي، عن أن يكون تابعاً في عقله للأوروبي أو للأميركي. لأن استعمار العقول أخطر من استعمار الأوطان، فهو قد يعمّر طويلاً وليس في هذا معاداة للغرب، بل المطلوب هو  الكشف عن وجهه  الكولونيالي المظلم، وتنسيب منزلته بوصفه مجرّد  سردية في تاريخ العالم.

 وعليه نحن نعتقد أن معاداة الغرب ليست مطلباً فكرياً ناجعاً، بقدر ما هي انفعال حزين. والانفعالات لا تؤسس لانتماء موجب للحياة. ونحن لسنا هويّات صافية أصيلة وجاهزة، يمكن السكن فيها دون حاجة إلى بقية العالم. وذلك لأننا  أيضاً نتاج لقاءات ثقافية وتاريخية متعدّدة، ولسنا شرقاً محضاً أو عرباً خالصين.

كيف يمكن الربط بين القطيعة مع "البراديغمات" الجمالية للغرب مع ما يحدث الآن في فلسطين؟ 

منحنا الفلسطينيون منذ السابع من أكتوبر درساً كبيراً لا ينسى، وهو أن حقيقة تمّ استعمالها لإبادة شعب ما، ينبغي تجريمها. إن حرب الإبادة التي تحدث اليوم بحق الشعب الفلسطيني، أنجزت "يقظة سياسية ومعرفية" للشعوب التي لا تزال قوى الاستعمار العالمي تحتلها معرفياً وسياسياً، وإن كان لهذه الشعوب دول وبرلمانات وجامعات. 

ذلك يعني أن الوجه المظلم من الغرب كإيديولوجيا كولونيالية، تمّ فضحه عبر هذه المجازر التي يقترفها الكيان الصهيوني، بوصفه اختراعاً غربياً، بحق أطفال فلسطين وشعبها. إن الغرب ينهزم كل يوم وفي كلّ مذبحة يقترفها على أرض فلسطين، بمعارفه وجمالياته وخطابه الحقوقي وديمقراطيته المزعومة. 

لذلك المطلوب من المثقفين الالتحاق بهذه الهزّات السياسية العميقة التي يعيشها العالم، بعد اندلاع الحرب الصهيونية لإبادة الشعب الفلسطيني، وذلك بمقاومة كل أشكال الخطاب الكولونيالي في مجال الوجود والمعرفة والإبداع والجندر والإيكولوجيا. 

ألا يبدو ذلك مستحيلاً في ضوء هذه عزلة المبدعين والمثقفين داخل أسوار الجامعة وأمام إكراهات المؤسسات التشريعية للفن والثقافة؟ 

المطلوب هو الشجاعة على تغيير البراديغم (نمط التفكير)، أي على فرض سياسات معرفية مغايرة من خارج النموذج الغربي، انطلاقاً من اختراع مناهج ديكولونيالية في التدريس والتربية على قيم المستقبل.

إنها معركة طويلة الأمد، وليست دائماً ممكنة أو ناجحة. ذلك لأن الخروج من دور التلميذ للغرب والتابع الذي لم يتكلم بعد، يتطلب خطة معرفية وإبداعية، تتجرّأ على دفع الدولة إلى تغيير برامج التعليم  والسياسات الثقافية. وهو يتطلب إرادة حقيقة، وخطة تغيير أكبر من دولنا الحالية عموماً. 

ثمّة من الفلاسفة الغربيين من برّر صمته تجاه ما يجري في فلسطين بوصفه إرهاباً، هل يعني ذلك السقوط في معاداة الفلسفة؟

فلسفة تدعم إبادة البشر ليست فلسفة بل هي جريمة معرفية ضدّ الإنسانية. وأن يدلي فيلسوف غربي بموقف سلبي من النضال الفلسطيني، ويربطه بتهمة الإرهاب، لا يعني أبداً ضرورة معاداة الفلسفة. لأن الأمر يتعلق فيما يخصّ هابرماس تحديداً، بموقف شخصي أيديولوجي، مادام هو لم يتكلم تحت راية الحقيقة، بل تحت راية مناصرة فئة على فئة، وهذا الأمر لا يخصّ الفلسفة في شيء. 

كيف يمكن لنا في دول جنوب الماء ومشرقه وخليجه التفكير فلسفياً من دون وصاية غربية؟ بشكل أدقّ ما هو المطروح اليوم على الفلاسفة في جغرافيتنا العربية؟ 

المطلوب هو أن لا نيأس من قدرة شعوبنا على اختراع شكل الإنتماء إلى الإنسانية خارج أفق التبعية للنموذج الغربي. وذلك بالانخراط أوّلاً  في مسارات فكرية،  تهدف إلى الكشف عن الأحكام الكولونيالية في نصوص الفلاسفة الغربيين حولنا. 

ثانياً أن يتمّ تفكيك سردية أيديولوجيا التفوّق الغربي، القائم على وهم الكونية والتقدّم وسردية الحداثة، بوصفها السردية الوحيدة لإنتاج سياسات الوجود والحقيقة والسلطة. من أجل أن نمرّ ثالثاً إلى اختراع  أنفسنا  بوصفنا لا نكفّ عن إبداع أشكال الحياة التي تناسبنا من داخل ذاكرتنا. وهنا ليس المطلوب استعادة الماضي لتمجيده، بل من أجل تنشيط الإنتماء إليه كما لو كان الماضي يأتينا من مستقبلنا. 

ليس ثمّة ماض يمكنه أن يحيا كما هو، بل بما هو مصدر روحي لاختراع اقتدارنا الوجودي كشعوب جديرة بالتوقيع بأسماء أبنائها، أي بأسماء المعرّي، كيف يأتينا مرّة أخرى في قصائد محمود درويش، وأغنيات فيروز، وروايات غسان كنفاني، ورسومات حنظلة؟ 

من جهتك ما هو النبأ الجمالي، المنجز الفكري الذي يمكنك تقديمه في المستقبل، أيّ وعد أنت بصدد إنجازه الآن؟ 

لم نعد قادرين على الكتابة ونحن نعيش على إيقاع الفاجعة كل يوم. ورغم ذلك لا وقت لدينا للأحزان، لذلك فأنا الآن أشتغل كعادتي في الكتابة على الحدود، أو على حافة الصباحات القتيلة، على ورشتين مختلفتين:

ورشة الرواية وفيها فكرة عن كتابة سرد فلسفي يمكنه أن يعتذر عن فظاعة ما يحدث. فنحن نكتب أيضاً من أجل إنصاف الأرواح المظلومة والمقهورة. والرواية  عندي فعل فلسفي ديكولونيالي بامتياز، بوصفها فضاء لمن لم يمنحهم العالم صوتاً للكلام. 

ثانياً: سأواصل الدرس الذي تعلمناه من النضال الفلسطيني، بالانخراط ضمن أفق تحرير الجغرافية الخيالية، أي البحث عن أسلوب مغاير في إبداع جماليات، تناسب شكل الحياة وسياسة الذاكرة في ثقافتنا. أي الاشتغال فلسفياً وجمالياً على شكل مغاير للقيم الفنية والإبداعية في ديارنا. 

كتب وإصدارات

صدر للكاتبة العديد من المؤلفات الفكرية ذات العلاقة بالفن والجمال من بينها: "الفن يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا" (بيروت، جداول، 2011)، "تحرير المحسوس: لمسات في الجماليات المعاصرة" (بيروت، دار ضفاف،2014)، "الفن والمقدّس: نحو انتماء جمالي إلى العالم" (مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2020)"، "جرحى السماء" (بيروت، جداول، 2012)، "معبد الجماجم" (الدار التونسية للكتاب، 2021) "الفلسفة في الفضاء العمومي" (أركاديا للنشر، 2023)، "الفن وسياسات الذاكرة، هل يمكن الخروج  من جماليات الغرب؟" (تونس، أركاديا، 2024)، ورواية "صياد الغروب"، (تونس، الأمينة للنشر، 2024).

تصنيفات

قصص قد تهمك