أن يختار كاتب ما اسماً مستعاراً فهذا أمر شائع، على غرار الاسم الذي اشتهر به الكاتب المسرحي الفرنسي موليير، أو الأسماء المتعددة التي اتخذها الكاتب البرتغالي المتفرّد فرناندو بيسوا.
لكن أن يختار كاتب ما عدم الإفصاح عن اسمه، أو الظهور أمام الناس، والإبقاء على ذاته مجهولاً لدى قرّائه الذين يقدّر عددهم بالملايين، فهذا أمر غير معهود.
هذا ما تفعله الروائية الإيطالية الأشهر حالياً، التي توقّع رواياتها باسم إيلينا فيرانتي، ونالت شهرة عالمية إثر صدور روايتها "صديقتي المذهلة" (دار الآداب 2011)، وبقيت الأهم حتى بعد صدور ثلاثية مُكمّلة لها: "حكاية الاسم الجديد" (2012)، "التي بقيت والتي هربت" (2013)، "حكاية الطفلة الضائعة" (2014).
وفي محاولة للكشف عن فيرانتي الحقيقية، قام باحثون بتحليل أسلوب 150 كتاباً إيطالياً، من بينها 40 كتاباً معاصراً، باستعمال خوارزمية حاسوبية، واستنتجوا بأن إيلينا فيرانتي، قد تكون في الحقيقة رجلاً في الستينيات من عمره.
صحيفة "نيويورك تايمز" اعتبرت في مقال نُشر في 12 يوليو 2024، "أن "صديقتي المذهلة" هي ر"واية القرن الحالي"، وأشارت إلى أن كتب الروائية "تُرى في كل مكان، وتظهر من كل الحقائب، في المطارات، والشواطئ، والمحطات".
كما تمّ تحويل رواياتها إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية في إيطاليا، حقّقت نجاحاً كبيراً. وتمّ ترشيح الرواية إلى جائزة "ستريغا"، أرفع الجوائز الأدبية الإيطالية.
حي فقير في نابولي
تُظهر رواية "صديقتي المذهلة"، قدرة الأدب على التشخيص العميق، حين تجعل من المدينة الإيطالية الجنوبية، نابولي، التي تتصدر الأخبار بوجود مافيا الكامورا الخطيرة فيها، مجال سرد لحيوات أناس جذابين بإنسانيتهم العارمة، وكفاحهم من أجل تحقيق القليل من السعادة.
كأن الكاتبة أرادت أن تقول في روايتها، بأن إيطاليا ليست فقط روما التاريخ، وميلانو الرفاه والموضة العالمية، وفلورنسا حيث نشأت النهضة الأوروبية، والبندقية السابحة فوق المياه.
"في صفحات الرواية، نجد الإنسان في جبّة المرأة التي تقتطع لها مساحة ألقٍ ممتعة، بسبب "الاهتمام العميق الذي توليه فيرانتي لحياة النساء، سواء في الروايات النابولية أو في كتبها الأخرى، وهو ما اعتبره بعض كُتّاب جيلها، بأنه موضوعات لا تستحق الاهتمام الأدبي." بحسب نيويورك تايمز.
تترصّد الرواية بأسلوب جميل حياة صديقتين، في الخمسينيات من القرن الماضي، تعيشان في أحد الأحياء الأكثر فقراً وبؤساً في نابولي، وسط عائلة ومحيط غالبية أفراده من الأميين، يعتاشون من مهن بسيطة.
تُصوّر فيرانتي نابولي بأنها مدينة حزن وكآبة وآمال وصراع من أجل القوت، حيث النساء تلدن وتطبخن وترضخن، والفتيات الصغيرات يمتلكن نضجاً يتجاوز أعمارهن؛ أما الفتيان والرجال، فيتراوحون ما بين الميل للعنف وسرعة الغضب، وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا الشرف.
تجعلنا الرواية نعاين بدقّة بالغة وإتقان أسلوبي وبسيط، كيف تكبر الصديقتان، وتتكوّن شخصية كل واحدة منهن، وكيف تواجهن التغييرات في الجسد والطباع، وداخل الوسط العائلي والحي السكني، وكل ما يستتبع ذلك من رغبات وأحقلد وطموح في الرقي والتخلص من الفقر.
وعلى خلفية ما يجري في إيطاليا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، جاء في الغلاف الرابع للطبعة الإيطالية : "تتابع الرواية الأحداث بلا توقف، بعمقٍ وبقوة الصوت المعهود لدى الكاتبة. الرواية من نوع الكتب التي لا ننتهي من قراءتها".
من كتب الرواية؟
بل من هي إيلينا فيرانتي في حقيقة الأمر؟ الجواب لا أحد يعرف..
هذا الغموض الذي يحيط بشخصية الكاتبة، حوّل كل ذلك إلى لغز أدبي، يسعى الكثيرون إلى الكشف عنه، وعن من يقف خلفه. علماً أن أوّل رواية صدرت تحت هذا الاسم، تعود إلى سنة 1992، وهي "الحب المزعج" عن دار النشر (E/O)، التي احترمت رغبة الكاتبة في البقاء مجهولة.
تعدّدت النظريات حول الهوية الحقيقية لإيلينا فيرانتي. لكن الأكيد أنها ولدت في نابولي سنة 1943. تناولت قصتها منابر إعلامية عدّة، طرحت أسماء كثيرة اعتماداً على تحرّيات ووثائق، من بينها اسم أستاذة للتاريخ المعاصر، وناقد أدبي وفيلسوف، وناشري كتبها، بحسب صحيفة "يونيتا" (15 مايو 2023).
لكن الطرح الذي لقي تعليقات عدّة، هو التحقيق الذي قامت به صحيفة "إل سولي 24 أوري"، ونشرته سنة 2016، بالتزامن مع الصحيفة الألمانية "فرانكفورتر ألجماين تسزايتونج"، والموقع الفرنسي المعروف بتحرياته المثيرة للجدل "ميديابارت"، والمجلة الأدبية الرصينة "نيويورك ريفيو أوف بوكس".
وخلص التحقيق إلى أن الكاتبة هي المترجمة "أنيتا راجا"، زوجة الكاتب النابولي دومينيكو ستارنوني، الحائز على جائزة "ستريغا". وكانت عملت سابقاً مع دار النشر (E/O).
أثار هذا التقرير الصحفي انتقاد ناشري كتبها، وقالوا في بيان: "إنه أمر مقزّز أن نرى كاتبة إيطالية عظيمة، محبوبة ومحتفى بها في بلدنا والعالم، تُعامل كما لو كانت مجرمة".
وسأل الناشرون: "ما الذي اقترفته الكاتبة لتبرير هذا التدخل في حياتها، وما هي المصلحة العامة العليا التي تبرّر التحقيق ونشره بالتزامن في أربع دول؟"
رأي الكاتبة : حوار بالوكالة
أجرت الكاتبة مقابلة مع مجلة " باريس ريفيو" عام 2015، عبر ناشريها الإيطاليين، ذكرت فيه "أن الخجل كان هو الدافع الأوّل الذي جعلها تمتنع عن ذكر اسمها الحقيقي، ثم اعتمدت ذلك لاحقاً، لعدم الثقة بوسائل الإعلام، التي يهمها الاعتناء بالكُتّاب بناءً على ما يتمتعون به من سمعة، وليس على ما يبدعونه".
أضافت: "لذلك كله أفضّل أن أترك المجال لكتبي، مدركة أن الفراغ الناتج عن غيابي تملؤه الكتابة لا غير".
هذا ما فعلته الكاتبة عندما نشرت "Frantamuglia" سنة 2019. والعنوان هو كلمة عامّية في نابولي، ورثتها عن جدّتها التي تصف من خلالها، الإحساس العميق بعدم الاستقرار الذي كان يعتريها.
الكتاب عبارة عن مجموعة من الحوارات والرسائل المنتقاة، أو الرسائل الإلكترونية المتبادلة بينها وبين مجموعة من الصحفيين من أنحاء العالم، فضلاً عن مراسلاتها مع صديقيها الناشرين، وهما الزوجان ساندرا أوزولا وساندرو فيري.
أوردت في الكتاب فصولاً عن حياتها وعلاقاتها وعن نابولي، وعن الكتابة والأدب أيضاً. الكتاب سيرة ذاتية لامرأة مسكونة بعوالم الكتابة وحدها.
نقرأ في موقع "بابليو" الفرنسي الخاص بعرض مقتطفات من الكتب، بعض ما جاء في هذا الكتاب/ الاعتراف : "كنت أعرف على الدوام بأن الكتابة فعل عظيم. ولهذا السبب أخفيت ما كنت أكتبه لفترة طويلة، خاصة عن الأشخاص الذين أحبهم. كنت أخشى أن أكشف عن نفسي فأتعرّض لعدم القبول".
إنها عقدة الكاتب، حين لا يستطيع مواجهة العالم بما يدبّجه ويتخيّله، خوفاً أن يُتهم بالادعاء، وإيلينا فيرانتي، جعلت من الأمر سلوكاً شخصياً.
لهذا السبب قالت: "دائماً ما أضع لنفسي هدفين عند الكتابة: أن أحكي كل ما أعرفه، وأن أستقبل كل ما أجهله ولا أفهمه. والهدف الثاني، هو ما سعيت إليه حد الهوس في رواية "الصديقة المذهلة".
يبدو أن دوافع الكاتبة في عدم الإفصاح عن هويتها الحقيقية، إضافة إلى الخجل وعدم الوقوع في شرك الأضواء والإعلام، هو ما تكتشفه خلال بنائها لعوالمها الروائية، أي حين يطفر المجهول وغير المتوقع بين الصفحات، أليس هذا ما يسمّى سحر الكتابة؟