مع إطلاق الجيش الإسرائيلي، لما وصفه بـ"المرحلة الثالثة" من حربه على قطاع غزة، تصاعدت المواجهات البرية، فبينما انتشر الجنود الإسرائيليون رفقة الآليات العسكرية في مناطق متفرقة من القطاع، نشرت كتائب "القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، مقاطع فيديو لمواجهات تلعب فيها الأنفاق التي أنشأتها الحركة تحت الأرض في قطاع غزة، دوراً أساسياً.
ويتعامل الجيش الإسرائيلي بكثير من الحذر مع هجومه البري، إذ شمل مناطق محددة وقريبة من السياج الفاصل مع قطاع غزة، خاصة أن طريقه لن يكون ممهداً وسهلاً في ضوء البنية العسكرية التحتية لحركة "حماس"، المتمثلة في شبكة معقدة من الأنفاق تمتد لعدة مئات من الكيلو مترات، تحت مساحة القطاع البالغة 365 كيلو متراً مربعاً.
بحسب تقرير نشره معهد الحرب الحديثة، استُخدمت الأنفاق، سواء الطبيعية أو تلك التي صنعها الإنسان، في مراحل مختلفة من التاريخ، بدءاً من العصور الوسطى، وحتى الغزو الروسي لأوكرانيا المستمر منذ فبراير 2022.
ويحظى الجيش الأميركي بخبرة كبيرة في هذا المجال، لا سيما في فترة الحرب الأهلية الأميركية في ميسيسيبي عام 1863، وفيرجينيا بعد ذلك بعام، مروراً بالمجمعات الضخمة تحت الأرض خلال حرب فيتنام، وكل من أنفاق تنظيمي "القاعدة" و"داعش" في أفغانستان والعراق وسوريا.
كما اعتمدت قوات فيتنام الشمالية وقوات "الفيت كونج" الموالية لها خلال الحرب التي امتدت بين عامي (1955 و1975)، على شبكات من الأنفاق يبلغ طولها عدة أميال، لحماية طرق إمدادها، وقواتها العسكرية، وقواعدها، على أماكن مثل كو تشي، وفي المراحل الخطيرة من ذلك الصراع المسلح، أُجبرت تلك القوات على تطوير تكتيكات جديدة، مثل إرسال جنود مسلحين بمسدسات ومصابيح يدوية فقط، يلقبون بـ"فئران الأنفاق"، إلى تحت الأرض.
"مترو حماس"
ويدرك الجيش الإسرائيلي جيداً وجود أنفاق تابعة لحركة "حماس" في قطاع غزة، حيث يُطلق على أنظمة الأنفاق الخاصة بالجماعة الفلسطينية اسم "مترو حماس".
وكان تدمير مجمعات أنفاق "حماس"، أحد أهداف الحملات البرية الإسرائيلية السابقة على غزة خلال عامي 2008 و2014، وادعت إسرائيل في عام 2021، أنها دمرت حوالي 97 كيلومتراً من الأنفاق في غزة، لافتة إلى أنه من المرجح وجود نحو 500 كيلومتر من الأنفاق.
وتعتبر تلك الممرات التي أنشأتها الحركة تحت الأرض "مدينة حقيقية" أسفل قطاع غزة، تمتد إلى مئات الكيلومترات، وفي حال شن الجيش الإسرائيلي حملة برية، فإن حماس ستستخدم في تكتيكات دفاعية وهجومية.
ولعلّ ما حدث خلال عملية "الجرف الصامد" عام 2014، عندما استغلت "حماس" الأنفاق ضد الجيش الإسرائيلي، قد يُعطي تصوراً لما يمكن توقعه في الأيام والأسابيع المقبلة، في حال مضت القوات الإسرائيلية في هجومها البري إلى عمق غزة.
الدفاع والهجوم
يُشير تقرير معهد الحرب الحديثة، الذي نُشر بعد بدء القصف الإسرائيلي على غزة بـ10 أيام، إلى أن حركة "حماس" ستستخدم الأنفاق من الناحية الدفاعية، لتفادي مراقبة الجيش الإسرائيلي لتحركاتها، وبالتالي تجنّب ضرباته المتلاحقة.
وقد تكون الحركة وضعت بالفعل قيادتها، ومقاتليها، ومقارها، واتصالاتها، وأسلحتها، وإمداداتها مثل الماء والغذاء والذخيرة، في مجمعات أنفاقها الطويلة، استعداداً للهجوم البري، إلى جانب السماح للمقاتلين بالتنقل بين سلسلة من المواقع بأمان وحرية تحت المباني الضخمة، حتى بعد أن يرمي الجيش الإسرائيلي عليهم قنابل تزن ألف رطل.
وتحتوي أنفاق "حماس" على الأرجح على مولدات للطاقة، وأنظمة تهوية، وأنابيب مياه، ومخزونات من المواد الغذائية، توفر لمقاتلي شروط مقاومة التحديات والمخاطر الأساسية بشكل أفضل، مثل الإرهاق الناتج عن الحصار والعزلة والقصف، وتمنح الأنفاق أيضاً إمكانية الانسحاب من بعض المناطق عندما تكون على وشك التعرض لهجوم حاسم أو لحصار خانق من كل الجوانب.
أما من الناحية الهجومية، فتمنح الأنفاق لقوات الحركة، حرية تنفيذ هجمات محمية ومفاجئة، فضلاً عن استخدامها في عمليات التسلل خلف مواقع الجيش الإسرائيلي، بهدف مفاجأة القوات المعتدية التي قد لا تكون مستعدة أو مجهزة للقتال بشكل جيد، فضلاً عن أفضلية التحرك بسرعة بين مواقع الهجوم المجهزة بمخابئ بنادق القناصة، والذخائر المضادة للدبابات، والقنابل اليدوية، وغيرها من الأسلحة والذخائر.
وترجح معظم التوقعات أن تُشكل الأنفاق، "العنصر الحيوي" في استراتيجية "حرب العصابات" التي تنتهجها "حماس".
كما قد تُشكّل الحركة فرقاً صغيرة قليلة العدد من القناصين والمقاتلين ذوي الكفاءة العالية، للتحرك تحت الأرض، وذلك لتنفيذ هجمات مباغتة وخاطفة، ثم العودة سريعاً إلى المواقع الآمنة ضمن الأنفاق.
وتستخدم "حماس" أيضاً الأنفاق لإخفاء الصواريخ. والتي يُمكن تفجيرها عن بعد أو نقلها إلى مواقع الإطلاق المخفية في اللحظة الأخيرة، ومن غير المستبعد أن يكون لدى الحركة أيضاً العديد من الأنفاق المجهزة بمئات الأرطال من المتفجرات، بحيث تكون بمثابة قنابل أنفاق تحت الطرق الرئيسية والمباني التي قد يتم استدراج الجيش الإسرائيلي إليها.
تحديات تكتيكية
يُمثل وجود الأنفاق في غزة، تحديات تكتيكية فريدة ليس للجيش الإسرائيلي فحسب، بل لحركة "حماس" أيضاً، ما يستدعي الحاجة إلى وجود معدات متخصصة توفر شروط "الصمود تحت الأرض".
وقد يكون من المستحيل في بعض الحالات، وفقاً لمعهد الحرب الحديثة، التنفس دون خزانات الأكسجين في الأنفاق، وهو أمر يعتمد على العمق والتهوية. ومن المحتمل أن لا تكون هناك قدرة على الرؤية ببساطة، خاصة وأن معظم نظارات الرؤية الليلية العسكرية تعتمد على بعض الإضاءة المحيطة، ولا يمكنها العمل عندما تكون غائبة تماماً.
كما لن تعمل أي معدات ملاحة واتصالات عسكرية تعتمد على إشارات الأقمار الصناعية أو إشارات خط البصر، ويمكن للسلاح الذي يُطْلَق في مساحات صغيرة من الأنفاق، حتى لو كانت البندقية، أن يُحدث تأثيراً ارتجاجياً يضر مُطلق النار جسدياً.
ولا تعتبر كل الأنفاق والمخابئ العسكرية متماثلة، نظراً للتنوع الكبير، والاختلاف من مكان ودولة عن أخرى، إذ تتميز مثلاً الأنفاق التي حفرتها وأنشأتها "حماس" بعاملين رئيسيتين، أولها المساحة الضيقة للغاية، نتيجة الجوانب الخرسانية الجاهزة، حيث يبلغ متوسط ارتفاع هذه الأنفاق مترين فقط، وعرضها متراً واحداً، ما يجعل الدخول إليها، والتحرك فيها، والقتال داخلها، صعباً للغاية.
بينما يتمثل العامل الثاني، في العمق الكبير للأنفاق، فقد عثرت إسرائيل عام 2020، على نفق تابع لـ"حماس" ينحدر بعمق 230 قدماً تحت سطح الأرض، وهو أعمق نفق تم العثور عليه حتى تلك النقطة.
وحدات قتالية خاصة
في المقابل، يمتلك الجيش الإسرائيلي، قدرات خاصة للتعامل مع تحدي أنفاق حماس، لا سيما أنه استعد بأكبر قدر من العمل للتحضير للتعامل مع الأنفاق في الحرب.
وأشار معهد الحرب الحديثة، إلى أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بخبرات وقدرات تقنية، تساعده على العثور على الأنفاق، واستعادة الرهائن منها، وتحييدها وتدميرها، وكان قد أسس وحدات متخصصة للتعامل مع تلك الحالات، من بينها وحدة "ياهلوم" التابعة لفيلق الهندسة القتالية، وهي وحدة كوماندوز من النخبة يتخصص جنودها في "العثور على الأنفاق وتدميرها".
وقال الجيش الإسرائيلي، إنه يتم تدريب وحدة "ياهلوم" على التعامل مع المهام الهندسية الخاصة، مثل الأنفاق تحت الأرض والمخفية، لافتاً إلى أن تلك الوحدة، لها السلطة المهنية والعليا للتعامل مع الذخائر والأسلحة الخطرة، ويرأس الوحدة ضابط برتبة عقيد.
ولعبت تلك الوحدة دوراً حاسماً في عملية "الجرف الصامد"، لتدمير البنية التحتية لأنفاق حماس، ما أدى إلى مضاعفة قدراتها، ويشمل دورها مهام هدم وتفجير المباني، وتخريب البنية التحتية للعدو، والتعامل مع المتفجرات، وإعداد الأجهزة المتفجرة والقنابل، وتحييد العبوات الناسفة، وتطهير حقول الألغام المعقدة، وتحديد أماكن الأنفاق وتدميرها.
وتستخدم "ياهلوم" أحياناً الروبوتات والعديد من الأجهزة التي يُتحكم فيها عن بعد، دون تعريض حياة الإنسان للخطر، ومؤخراً، تمكنت الوحدة من جمع أكثر من 1000 سلاح من مختلف الأنواع، وحوالي 2000 قنبلة يدوية، وحوالي 1000 قذيفة صاروخية، وحوالي 1200 نوع مختلف من الشحنات.
كما تُعد من بين أكبر الوحدات في العالم، التي تختبر وتبتكر طرقاً جديدة للتعامل مع الحرب السرية.
في عام 2016 انبثقت قوة "سيفان" الإسرائيلية من وحدة "ياهلوم"، بهدف التعامل مع الأسلحة غير التقليدية "الذرية والبيولوجية والكيميائية"، لكنها في السنوات الأخيرة ساعدت جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" في حل ألغاز العبوات الناسفة بجميع أنحاء الضفة الغربية. ويعمل مقاتلوها على إبطال مفعول الأسلحة والذهاب إلى المصدر الذي أنتجها.
وأكدت هذه القوة، بحسب ما نقل عنها موقع "والا" الإسرائيلي، استعدادها للتعامل مع "التخريب بكل أنواعه"، من جسم مشبوه وقنبلة مرتجلة أو قنبلة متطورة للغاية، وتحييدها.
وأشارت إلى أنه بسبب خبرتها تستطيع الكشف عن مخططي العمليات والأشخاص الذين يقفون خلفها، لكن من الواضح أن هذه الفرقة لم تستطع كشف هجوم 7 أكتوبر الذي شنّته حركة "حماس" على بلدات ومدن غلاف غزة وأطلقت عليه اسم "طوفان الأقصى".
كما ظهرت وحدة "سمور" في عام 2004، لتحديد مواقع الأنفاق وتدميرها، فضلاً عن إدخال مقاتلين إلى الأنفاق، لتدريبهم على تحمل المساحات الضيقة.
وانبثقت هذه الوحدة أيضاً عن "ياهلوم"، والتي يتم فيها اختيار الجنود الذين يستطيعون تحمل البيئة الخانقة داخل الأنفاق، وفقاً لتقرير نشرته NBC NEWS.
وقال باحثون في الجيش الإسرائيلي في عام 2020، إن أفضل المرشحين للانضمام إلى وحدة "سمور"، هم الأشخاص الانطوائيون والانعزاليون.
كما يمتلك الجيش الإسرائيلي أيضاً، وحدة الكلاب البوليسية "أوكيتس"، التي تستخدم كلاباً مدربة على العمل تحت الأرض.
ولعبت هذه الوحدة دوراً مهماً في إنقاذ 200 إسرائيلي والقضاء على 10 من مقاتلي "حماس" في مجمّع كيبوتس "بئيري"، بحسب ما ذكر موقع WIO NEWS.
وتعمل "أوكيتس" على تدريب كلابها بدقة، بحيث يكون لكل منها تخصص محدد، كالهجوم، والبحث، والإنقاذ، والكشف عن المتفجرات وموقع الأسلحة، وتتجلى مساهماتهم القيّمة في كل من عمليات الإنقاذ، والمواجهات مع المسلحين.
معدات إسرائيلية مخصصة للأنفاق
تمتلك "ياهلوم" ووحدات أخرى في الجيش الإسرائيلي، معدات خاصة طُوِّرَت خصيصاً للأنفاق.
وتستخدم وحدات استطلاع الأنفاق، أجهزة استشعار أرضية وجوية، ورادار اختراق الأرض، ومعدات الحفر، وأنظمة أخرى للعثور على الأنفاق، إضافة إلى استعمال أجهزة راديو وتقنيات ملاحية تعمل تحت الأرض، ونظارات رؤية ليلية تستخدم التقنيات الحرارية وغيرها للرؤية في الظلام.
كما تستخدم وحدات الجيش الإسرائيلي، مجموعة من الروبوتات الطائرة أو الزاحفة عن بعد، أو التي يُتحكم فيها سلكياً، ويمكنها النظر إلى الأنفاق، ورسم خرائط لها، دون المخاطرة بالجنود، كما تستخدم أيضاً، أجهزة محاكاة تدريب الواقع الافتراضي التي تسمح للجنود بالتدرب على الحرب تحت الأرض حتى عندما لا يكونون في مواقع التدريب الميداني.
وطورت إسرائيل تكتيكات خاصة للتعامل مع الأنفاق بمجرد اكتشافها، إذ لديها مجموعة واسعة من الذخائر التي تخترق الأرض، مثل قنبلة 28 - GBU-28، والتي يُمكنها اختراق عمق 100 قدم في الأرض أو 20 قدماً من الخرسانة.
أنفاق تتجاوز القدرات
تمتلك القوات البرية للجيش الإسرائيلي، أنواعاً متعددة من المتفجرات التي تستخدم في هدم الأنفاق أو إغلاقها، فضلاً عن استخدام الجرافات التي يمكن استخدامها لإغلاق الأنفاق، لكن معهد الحرب الحديثة، أكد أن "الحقيقة الصعبة هي أن عمق وحجم أنفاق حماس في غزة سيتجاوز قدرات إسرائيل المتخصصة".
ولا تعتبر عملية العثور على أنفاق "حماس" وتدميرها "مهمة سهلة"، لعدة أسباب، أبرزها الطبيعة الحضرية لقطاع غزة، حيث لا يوجد تضاريس جبلية ذات كثافة سكانية منخفضة، مثل تلك الموجودة في أفغانستان، وهذا خلاف البيئة التي قاتل فيها الجيش الأميركي تنظيم القاعدة في أفغانستان، حيث استطاع في عام 2017 إسقاط أقوى قنبلة غير نووية من طراز GBU-43/B تزن 21 ألفاً و600 رطل، على كهف ومجمع أنفاق لتنظيم "داعش".
وعندما اكتشف الجيش الإسرائيلي، شبكة أنفاق أنشأها "حزب الله" اللبناني، على طول الحدود الشمالية في عام 2017، قام بسكب شحنات من الأسمنت الرطب في الأنفاق لإغلاقها.
كما يُرجح أن تضع "حماس" الأسلحة والمتفجرات في الأنفاق التي يمكن أن تؤدي إلى انفجارات غير مقصودة في أماكن أخرى أو تنتقل عبر أجزاء أخرى من شبكة الأنفاق، ما قد يتسبب في أضرار لن يتوقعها الجيش الإسرائيلي.
ولا يوجد حل موحد لمشكلة الأنفاق التي ستواجهها القوات الإسرائيلية البرية عند غزو غزة، ما سيتطلب، وفقاً للتقرير، التعامل مع كل نفق على أساس مزيج من القدرات، يعتمد الأمر على الموقف والظروف التي ستواجهها القوات المهاجمة.