
كشف باحثون من مركز الطب الجزيئي التابع لأكاديمية العلوم في النمسا، بالتعاون مع جامعة الطب في فيينا، النقاب عن الآليات الجزيئية التي تمكّن الخلايا المناعية من نوع "البلاعم" من التحوّل السريع إلى حالة الهجوم عند مواجهة مسببات الأمراض.
وتقدم الدراسة التي نشرتها دورية "سيل سيستم" فهماً غير مسبوق للكيفية التي تنسّق بها هذه الخلايا استجابتها المناعية بدقة وسرعة مدهشة.
والبلاعم نوع من خلايا الدم البيضاء تنتمي إلى الجهاز المناعي الفطري، وتُعد من أولى خطوط الدفاع في الجسم ضد الميكروبات.
وتكمن المهمة الأساسية للبلاعم في التهام الكائنات الدقيقة الممرِضة، والخلايا التالفة، والحطام الخلوي، من خلال عملية تُعرف باسم البلعمة وتلعب أيضًا دورا محوريا في تنسيق الاستجابة المناعية من خلال إطلاقها للمواد الالتهابية -كالسايتوكينات- وعرضها لمستضدات الميكروبات على سطحها لتحفيز المناعة التكيفية.
وتُشتق البلاعم من خلايا الدم البيضاء المعروفة باسم الخلايا الوحيدة، وهي عملية حيوية تعد جزءا أساسياً من الاستجابة المناعية للجسم، فالخلايا الوحيدة نوع من الكريات البيض ينتج في نخاع العظم، وتُطلق إلى مجرى الدم حيث تدور لفترة قصيرة نسبيًا.
وعندما تتعرض أنسجة الجسم للعدوى أو التلف، تبدأ الخلايا المصابة أو المحيطة بالمنطقة بإطلاق مجموعة من الإشارات الكيميائية التي تعمل كنداء استغاثة. هذه الإشارات تُفرز في محيط الخلية، وتُعرف بدورها في جذب الخلايا المناعية من الدورة الدموية إلى مكان الخطر.
أحد أهم أنواع الإشارات التي تُطلق في بداية الاستجابة المناعية تُسمى "جزيئات الجذب الكيميائي"، وتحدد هذه الجزيئات الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه الخلايا المناعية.
وإلى جانب جزيئات الجذب، هناك إشارات أخرى تُعرف بمنبّهات الالتهاب، هذه المنبهات تعمل على تحفيز الخلايا المناعية الموجودة بالفعل في الجسم لتتحرك بسرعة، وتصبح أكثر نشاطًا وفتكًا بالبكتيريا أو الفيروسات، كما أنها تزيد من نفاذية الأوعية الدموية، ما يسمح لخلايا المناعة بالخروج من مجرى الدم إلى الأنسجة المصابة.
هناك أيضًا إشارات كيميائية تُفرز في المنطقة المصابة وتؤدي إلى توسيع الأوعية الدموية، ما يسرّع وصول الدم والخلايا المناعية إلى مكان العدوى أو الجرح، وهذه الإشارات مسؤولة أيضًا عن ظهور علامات الالتهاب المألوفة مثل الاحمرار والحرارة والانتفاخ.
ولا تعمل كل هذه الإشارات بمعزل عن بعضها، بل تتكامل وتعمل بتنسيق دقيق، لتضمن وصول العدد الكافي من الخلايا المناعية في الوقت المناسب، وبعض الإشارات تستمر في العمل حتى القضاء على العدوى، ثم تبدأ إشارات أخرى تُرسل أوامر بوقف الالتهاب وبدء عملية ترميم الأنسجة.
وعندما تتلقى الخلايا الوحيدة إشارات على وجود التهاب، فإنها تخرج من مجرى الدم إلى الأنسجة المصابة يحدث فيها انتقال الخلايا المناعية، عبر جدار الأوعية الدموية في عملية دقيقة تُعرف بالتسلل أو العبور.
وتبدأ هذه العملية عندما تستجيب بطانة الأوعية الدموية للإشارات الالتهابية، فتعرض على سطحها جزيئات لاصقة تعمل كمقابض تمسك بالخلايا المناعية المارة في الدم، بعد ذلك، تبدأ هذه الخلايا بالتمهل، ثم تتثبت بقوة على الجدار الداخلي للأوعية.
أنواع البلاعم
البلاعم المقيمة: تعيش بشكل دائم في أنسجة الجسم وتساعد في المحافظة على التوازن·
البلاعم الالتهابية: تظهر في أماكن العدوى أو التلف وتشارك في مقاومة الميكروبات.
البلاعم المقاتلة: تفرز مواد قوية لقتل البكتيريا والفيروسات وتزيد من الالتهاب.
البلاعم المصلحة: تساعد في تهدئة الالتهاب وإصلاح الأنسجة بعد الإصابة.
بلاعم الكبد/ خلايا كوبفر: تلتقط السموم والميكروبات من الدم داخل الكبد.
بلاعم الدماغ/ الخلايا الدبقية الصغيرة: تحمي الدماغ وتزيل الخلايا التالفة.
بلاعم الرئة: تنظف الحويصلات الهوائية من الغبار والجراثيم.
بلاعم الطحال والعقد اللمفاوية: تراقب الدم والسائل اللمفاوي وتلتهم الأجسام الغريبة.
بلاعم العظام/ الخلايا الآكلة للعظم: تشارك في تفكيك العظام لتجديدها وتنظيم نموها.
وتغير الخلايا شكلها وتبدأ بالزحف بين الخلايا المبطنة للأوعية، لتتسلل إلى النسيج المتضرر دون أن تحدث تمزقاً، وتتيح هذه الخطوة الحاسمة للخلايا الوصول مباشرة إلى موقع الالتهاب أو العدوى، وتبدأ مهامها الدفاعية وتنظيف الحطام الخلوي وتوجهها إلى مكان الالتهاب جزيئات الجذب الكيميائي التي تعرف باسم الكيموكينات.
وبمجرد دخولها الأنسجة، تبدأ الخلايا الوحيدة في التمايز إلى بلاعم استجابة للبيئة المحلية، وتُعد هذه المرحلة حاسمة، إذ تتحول الخلية الوحيدة إلى خلية كبيرة الحجم ذات نواة مفردة قادرة على البلعمة، وتبدأ في التعبير عن بروتينات خاصة على سطحها، مثل مستقبلات التعرّف على الأنماط الجزيئية والتي تمكّنها من التعرف على الميكروبات.
توازن دقيق
ما يميز هذه العملية هو قدرة البلاعم المشتقة من الخلايا الوحيدة على التكيّف مع الأنسجة المختلفة، فهي لا تحتفظ بوظيفة واحدة ثابتة، بل تغير سلوكها ومجموعة البروتينات التي تنتجها بحسب طبيعة النسيج الذي توجد فيه، فعلى سبيل المثال، في الكبد تتحول إلى خلايا تشبه خلايا كوبفر الكبدية، بينما في الجلد تصبح شبيهة بـالخلايا التغصنية التي تشارك في عرض المستضدات.
رغم أن كلا النوعين يعدان "بلاعم"، إلا أن هناك فروقاً بيولوجية بين البلاعم التي تنشأ من الخلايا الوحيدة خلال الالتهاب، وتلك التي استقرت في الأنسجة منذ مراحل تطور الجنين، فالبلاعم المقيمة غالباً ما تتجدد ذاتياً دون الحاجة إلى خلايا وحيدة، وتؤدي وظائف متخصصة تتماشى مع بيئة النسيج، في حين أن البلاعم المشتقة من الخلايا الوحيدة تكون أكثر مرونة وارتباطًا بالاستجابات المناعية الحادة.
ولا تكتفي البلاعم بابتلاع البكتيريا والفيروسات وتفكيكها، بل تؤدي أيضا دور "ساعي البريد" المناعي، إذ تطلق إشارات تجذب بها خلايا مناعية أخرى، وتُظهر أجزاء من الميكروبات المهضومة على سطحها لتعليم الجهاز المناعي كيفية التعرف على هذه التهديدات مستقبلاً، لكن المهمة ليست سهلة؛ ففي غضون ساعات أو حتى دقائق، يجب أن تقرر البلعمة كيف تتفاعل: هل تُشعل الالتهاب؟ هل تُرسل إنذاراً واسع النطاق؟ وهل تتوقف قبل أن تتحوّل إلى تهديد لجسمها نفسه؟
ولفهم هذا التوازن الدقيق، استخدم الباحثون أسلوباً مبتكراً يجمع بين تحرير الجينات عبر تقنية "كريسبر" والتعلم الآلي، وعرّضوا البلاعم لمحفزات مختلفة تحاكي عدوى بكتيرية أو فيروسية. ثم قاسوا التغيرات في نشاط الجينات ودرجة انفتاح الحمض النووي داخل الخلية كل بضع ساعات، لبناء "جدول زمني جزيئي" يُظهر كيف تتغير برامج الاستجابة من لحظة الاستشعار وحتى اتخاذ القرار النهائي.
وبفضل الكمّ الهائل من البيانات عالية الدقة التي جمعتها الدراسة – سواء من تحليل تعبير الجينات، أو من أنماط تفاعل البروتينات، أو من التغيرات فوق الجينية – استطاع الباحثون تحديد شبكة مكوّنة من عشرات البروتينات التنظيمية التي تعمل معًا لتنظيم النشاط المناعي في الخلايا. هذه الشبكة لا تقتصر على "اللاعبين" التقليديين، بل تضم أيضاً عوامل جديدة لم تكن تُعتبر جزءاً من المناعة.
المفاجئ في الدراسة أن العديد من هذه البروتينات لا تنتمي أصلاً إلى فئة البروتينات المناعية المعروفة، فعلى سبيل المثال، اكتشف الفريق دورًا مباشرا لبعض بروتينات الربط الجيني – وهي بروتينات مسؤولة عن تنظيم مدى نشاط الجينات عبر التحكم في قراءتها – في التأثير على سرعة وقوة الاستجابة المناعية.
والأكثر غرابة، أن الدراسة أظهرت أيضًا أن بعض عوامل تعديل الكروماتين – وهي جزيئات تتحكم في مدى انفتاح أو انغلاق المادة الوراثية داخل نواة الخلية – تشارك بفاعلية في تمكين الخلايا المناعية من "قراءة" الجينات المناعية عند الحاجة.
هذه النتائج تفتح أبواباً جديدة لفهم كيف يدار جهاز المناعة ليس فقط عبر الإشارات الكيميائية، بل أيضاً من خلال التحكم البنيوي والتنظيمي العميق في الجينوم نفسه.
وتُلمّح الدراسة إلى أن الاستجابة المناعية تُعد عملية أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد، تخضع لإشراف دقيق من بروتينات كانت تُصنف سابقًا في مجالات بعيدة عن علم المناعة.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة، كريستوف بوك: "إنه لأمر مدهش أن نجد هذا القدر من التعقيد في جزء من جهازنا المناعي تشترك فيه معنا الكائنات القديمة مثل الإسفنج وقناديل البحر والشعاب المرجانية، لكن بفضل التقدم في تقنيات المسح الجيني مثل كريسبر، أصبح بمقدورنا دراسة هذه البرامج التنظيمية بشكل منهجي".
ويرى العلماء أن هناك إمكانات مستقبلية كبيرة لتطوير أدوية جديدة تستهدف هذه العوامل التنظيمية غير التقليدية، بهدف تعزيز المناعة أو كبحها في حالات أمراض المناعة الذاتية أو السرطان.