
في الأسابيع القليلة الماضية، انتشرت تقارير تشير إلى ظهور فيروس جديد في الهند، يحمل اسم "نيباه"، يمكنه أن يتسبب في جائحة على غرار فيروس كورونا الذي لم يتمكن العالم بعد من القضاء عليه، على رغم مرور أكثر من سنة على إعلان تفشيه جائحة عالمية.
وتواصلت "الشرق" مع علماء، للإجابة عن أبرز الأسئلة المطروحة بشأن هذا الفيروس، وعن إمكانية تحوله إلى وباء مشابه لجائحة كورونا.
البحث والتطوير لمنع الأوبئة
في عام 2016، أصدرت "منظمة الصحة العالمية" منشورها الأزرق المُعنون بـ"البحث والتطوير لمنع الأوبئة". وناقش المنشور تطوير خريطة طريق لتسريع التشخيص والمداوة باللقاحات، ووضع معايير جديدة مُصممة خصيصاً للتعامل مع الأوبئة.
كما أفرد العديد من الصفحات لتطوير أدوات لتأطير التعاون بين المجتمع الدولي في مجال مكافحة الأدوية، وراجع السياسات السابقة لمكافحة الأوبئة، ونقحها وأضاف عليها. وأهم من ذلك، وضعت "منظمة الصحة" قائمة بأهم العوامل المرضية التي يُمكن أن تتحول إلى وباء.
جاء في تلك القائمة فيروسات كورونا المستجدة، والفيروس المُسبب لمرض "الحمى الهرمية"، وفيروسات "الفيلوفيروس"، وفيروس "حمى اللاسا"، وفيروس "الشيكونغويا"، وفيروس "نيباه" الذي يُسبب في الوقت الراهن تفشياً على نطاقٍ محدودٍ في الصين.
أول ظهور
ظهر فيروس "نيباه" لأول مرة أثناء انتشار المرض في ماليزيا عام 1998. في ذلك التفشي المحدود تم توثيق انتقال الفيروس من حيوان إلى إنسان، ومن إنسان إلى إنسان، وبلغت عدد الإصابات نحو 300 حالة توفي منهم 100 شخص نتيجة الإصابة بأعراض شديدة.
ومن عام 1998 إلى عام 2015، سُجلت أكثر من 600 حالة إصابة بشرية بالفيروس، وحدثت حالات تفشٍّ لاحقة في الهند وبنغلاديش، مع ارتفاع ملحوظ في أعداد الوفيات بين المُصابين، إذ تتراوح نسبة الوفاة من الفيروس بين 40 و79% من المصابين.
حالات تفشٍّ محدودة
ووفقاً لـ"منظمة الصحة العالمية"، عدوى فيروس "نيباه"، مرض حيواني المصدر ينتقل إلى البشر من الحيوانات، ويمكن أيضاً أن ينتقل عن طريق الطعام الملوث أو مباشرة من شخص لآخر.
في الأشخاص المصابين، يتسبب ذلك الفيروس بمجموعة أمراض تشمل أمراض الجهاز التنفسي الحادة، والتهاب الدماغ القاتل. كما يمكن للفيروس أيضاً، أن يسبب مرضاً خطيراً في الحيوانات مثل الخنازير ومجموعة واسعة من الحيوانات، ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة للمزارعين.
وخلال أول انتشار معترف به في ماليزيا، الذي امتد ليشمل سنغافورة أيضاً، حدثت معظم الإصابات البشرية نتيجة الاتصال المباشر مع الخنازير المريضة أو أنسجتها الملوثة. ويُعتقد أن الانتقال قد حدث عن طريق التعرض غير المحمي لإفرازات الخنازير، أو الاتصال غير المحمي بأنسجة حيوان مريض.
في الفاشيات اللاحقة في بنجلاديش والهند، كان استهلاك الفاكهة أو منتجاتها (مثل عصير النخيل الخام) الملوثة بالبول أو اللعاب من خفافيش الفاكهة المصابة، هو المصدر الأكثر احتمالاً للعدوى.
كما تم الإبلاغ عن انتقال فيروس "نيباه" من إنسان إلى آخر بين أفراد الأسرة، ومقدمي الرعاية للمرضى المصابين.
وعلى الرغم من عدم وجود حالات تفشٍ أخرى معروفة للفيروس، منذ ظهور المرض لأول مرة في ماليزيا وسنغافورة عام 1998، يتم تسجيل مجموعة من الحالات سنوياً تقريباً في أجزاء من آسيا (بشكل أساسي في بنغلاديش والهند).
خفافيش الفاكهة.. المستودع الأساسي
"نيباه"، فيروس حيواني المصدر، عضو في عائلة "Paramyxoviridae" ومن جنس يسمى "Henipavirus". يترعرع ذلك الفيروس في خفاش الفاكهة، وتُعد هي مستودعه الأساسي، والتي يمكنها نقله إلى البشر أو الحيوانات الأخرى، مثل الخنازير.
وتحدث العدوى في البشر عند الاتصال المباشر بالحيوانات المصابة، أو سوائل أجسامها مثل الدم أو البول أو اللعاب، أو استهلاك المنتجات الغذائية الملوثة بسوائل جسم الحيوانات المصابة؛ مثل عصارة النخيل أو الفاكهة الملوثة. كما يُمكن أن تحدث العدوى بسبب الاتصال المباشر مع الشخص المريض، وإفرازات جسده مثل قطرات الأنف والبول والدم.
يُعرف هذا الانتشار الأولي من الحيوان إلى الإنسان بالحدث غير المباشر. وبمجرد أن ينتشر إلى البشر، يمكن أن يحدث أيضاً انتشار من شخص لآخر.
أول انتشار معروف
وفي أول انتشار معروف، في ماليزيا عام 1998، توقع العلماء آنذاك إصابة البشر بسبب اتصالهم الوثيق مع الخنازير المُصابة؛ ويقول باحثون إن الفيروس انتقل في البداية من الخفافيش إلى الخنازير، ثم انتشر لاحقاً بين مجموعات الخنازير، ووصل إلى الأشخاص الذين عملوا بشكل وثيق مع الخنازير المصابة بالمرض، ولم يتم الإبلاغ عن أيّ انتقال من شخص إلى آخر في تلك الفاشية.
ومع ذلك، تم الإبلاغ عن انتشار فيروس "نيباه" من شخص لآخر بانتظام في بنغلاديش والهند. كان ذلك الانتشار أكثر شيوعاً في العائلات، ومقدمي الرعاية للمرضى المصابين بالعدوى، وفي أماكن الرعاية الصحية.
الوباء "أمر مستبعد"
مع ذلك، يقول كريستوفر بوردر، الباحث في مجال الفيروسات بجامعة "يونفورميد سيرفيس" بولاية ماريلاند الأميركية، إن الطريقة التي تنتقل بها العدوى من شخص إلى آخر "لا يُمكن أن تُسبب في نسختها الحالية وباءً".
وأضاف بوردر، في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، أن التفشي الحالي في الصين "لا يُمكن مقارنته بأي شكل من الأشكال مع تفشي كورونا المستجد".
وأوضح أنه خلافاً، لفيروس "كوفيد-19" الذي ينتقل عبر الرذاذ المتطاير، "يحتاج نيباه إلى التعامل الوثيق مع الشخص المصاب، والتعرض لإفرازاته من بول أو دم، وهو أمر لا يؤهل الفيروس لإحداث وباء".
لكن بوردر حذر من أنه ربما تتسبب طفرة ما في تغيير الأوضاع، مستدركاً أن "حدوث طفرة تُسهل عملية الانتشار بين البشر، أمر مستبعد حتى الآن".
العدوى الكامنة
تظهر الأعراض عادة في غضون 4 إلى 14 يوماً بعد التعرض للفيروس. وتشمل الأعراض الأولية الحمى والصداع، وغالباً ما تتضمن علامات أمراض الجهاز التنفسي مثل السعال والتهاب الحلق وصعوبة التنفس. قد يتبع ذلك مرحلة من التهاب الدماغ؛ كما يُمكن أن تشمل الأعراض النعاس والتشوش الذهني، وتتطور إلى غيبوبة في غضون 24 ساعة.
ولاحظ علماء آثاراً جانبية طويلة المدى على الناجين من عدوى "نيباه"، بما في ذلك التشنجات المستمرة وتغيرات الشخصية. وتم الإبلاغ أيضاً عن حالات العدوى التي تؤدي إلى ظهور الأعراض والموت في بعض الأحيان، بعد أشهر وحتى سنوات من التعرض للفيروس (المعروفة باسم العدوى الكامنة).
معلومات مجهولة
"هناك الكثير من المعلومات المجهولة حول ذلك المرض" يقول البروفيسور، وانغ هو، الأستاذ في برنامج الأمراض المعدية الناشئة في كلية الطب بجامعة "دوك نوس" بسنغافورة.
وأضاف هو في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، أن تلك المعلومات المنقوصة "تُعطل جهود العلاج". فعلى الرغم من اكتشاف ذلك الفيروس قبل أكثر من 20 عاماً، "إلا أن عدد الأبحاث العلمية التي ناقشت وجوده قليلة للغاية".
وعزا ذلك الأمر إلى "أعداد الإصابات المحدودة"، لافتاً إلى أنه في ظل ظروف الجائحة الحالية "يجب علينا أن نتأهب لحدوث الأسوأ. تعلمنا من الوباء الحالي كثيراً.. ولعل أهم ما تعلمناه هو ضرورة الاستعداد للمخاطر".
وأوضح أن فيروس "نيباه" يحتل المرتبة العاشرة في قائمة تهديدات اندلاع الوبائيات، والمنشورة من قبل منظمة الصحة العالمية، "ورغم ذلك تظل الجهود المبذولة محدودة للغاية.. محدودة بشكل مُثير للمخاوف".
اكتشاف الإصابات
تتوفر مجموعة من الاختبارات التشخصية المختلفة لعدوى "نيباه". خلال المراحل المبكرة من المرض، يُمكن إجراء تلك الاختبارات التي تشمل استخدام تفاعل البلمرة المتسلسل (بي سي آر) عن طريق مسحات الأنف والحلق. كما يُمكن استخدام السائل النخاعي والبول والدم للكشف عن العدوى. وفي وقت لاحق من مسار المرض، يجري إجراء اختبار الأجسام المضادة للكشف عن وجودها.
ومن المعروف أن التشخيص المبكر للعدوى يعدّ أمراً صعباً، لأن الأعراض متشابهة مع العديد من الأمراض الأخرى. إلا أن الاكتشاف والتشخيص المبكرين ضروريان لزيادة فرص البقاء على قيد الحياة بين الأفراد المُصابين، ومنع انتقال العدوى لأشخاص آخرين، وإدارة جهود الاستجابة للفاشية.
العلاج
حتى الآن، لا توجد علاجات مرخصة متاحة لفيروس "نيباه"، إذ يقتصر الأمر على الرعاية الداعمة بما في ذلك الراحة وعلاج الأعراض عند ظهورها.
وتبقى الوقاية من الفيروس أفضل السبل لمنع انتشاره. وتشمل إرشادات الوقاية غسل اليدين بانتظام بالماء والصابون، وتجنب ملامسة الخفافيش أو الخنازير المريضة، وتجنب تناول الفاكهة والخضروات التي قد تكون ملوثة بمخلفات الخفافيش، والابتعاد عن سوائل وإفرازات المرضى.
وتنصح معاهد الصحة الأميركية بعدم زيارة المواقع الجغرافية المعروف انتشار المرض بها، وتحسين أدوات الكشف عن الفيروس في المجتمعات الزراعية، وتعزيز بروتوكولات إعدادات الرعاية الصحيح بشأن ممارسات مكافحة العدوى لمنع الانتشار من شخص إلى آخر، وزيادة الوعي بعلامات وأعراض العدوى بفيروس "نيباه"، وتشجيع البحث العلمي في مجال مكافحة ذلك الفيروس.