يخشى زعماء الاتحاد الأوروبي أن تؤدي عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إلى تعريض الدعم الأميركي لأوكرانيا للخطر، وانسحاب واشنطن من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مما يحرم أوروبا من المظلة الأمنية التي تمتعت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وخلال فترة ولاية ترمب الأولى، اتهم الرئيس الأميركي، الدول الأوروبية، مراراً وتكراراً بالاستفادة من القوة العسكرية الأميركية، وانتقد قلة الإنفاق على الدفاع، مستهدفاً ألمانيا بالدرجة الأولى، التي وصفها بأنها "متأخرة" في الإنفاق العسكري. وفي وقت سابق من العام الجاري، بدا أن ترمب يشجع روسيا على مهاجمة حلفاء الناتو، الذين "لا يدفعون". كما هدد ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، بخفض الدعم العسكري لأوكرانيا.
كما دفع ترمب خلال فترة ولايته الأولى (2017-2021)، أعضاء الناتو الأوروبيين إلى إنفاق المزيد على الدفاع، بما يصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي وما فوق، والاعتماد بشكل أقل على الغطاء العسكري الأميركي.
وفي هذا الصدد، تم إحراز بعض التقدم، إذ ارتفع الإنفاق الدفاعي لعام 2024 من قبل دول الناتو الأوروبية بنسبة 50% عما كان عليه قبل 10 سنوات، وفق تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الصادر، الجمعة.
وقال التقرير: "لم يزد حلف شمال الأطلسي طموحاته بشكل كبير فيما يتعلق بردعه وموقفه القتالي فحسب، بل سعت الدول الأعضاء الأوروبية إلى معالجة أوجه القصور الحرجة في القدرات والاستعداد".
فك الارتباط بواشنطن
وقال وزراء خارجية فرنسا وألمانيا الأربعاء، إن الدول الأوروبية ستضطر إلى تعويض "انسحاب" الولايات المتحدة المحتمل من أمن أوروبا بعد فوز ترمب.
وفي وقت سابق من الأسبوع الجاري، قال لوك فريدن، رئيس وزراء لوكسمبورج، إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يناقش "إنشاء جيش أوروبي في مواجهة انتصار ترمب، والعدوان الروسي والحرب في أوكرانيا"، حسبما نقلت صحيفة "تليجراف" البريطانية.
وقبل الانتخابات الأميركية، قال دونالد توسك، رئيس الوزراء البولندي، إن أوروبا يجب أن تتحمل المسؤولية عن أمنها. وقال "يزعم البعض أن مستقبل أوروبا يعتمد على الانتخابات الأميركية، في حين يعتمد علينا في المقام الأول. بشرط أن تنضج أوروبا أخيراً وتؤمن بقوتها الخاصة. أياً كانت النتيجة، فإن عصر الاستعانة بمصادر خارجية جيوسياسية قد انتهى".
وكانت مصادر دبلوماسية أشارت في وقت سابق، إلى أن فوز ترمب من شأنه أن يؤثر بشدة على مفاوضات ميزانية الاتحاد الأوروبي العام المقبل، كتخطيط طارئ لخسارة مليارات الدولارات من واشنطن.
وفي السنوات الأخيرة، اشترت الدول الأوروبية المزيد من الأسلحة من المنتجين المحليين. كما استخدم أعضاء حلف شمال الأطلسي في القارة، أكثر من نصف إنفاقهم على الأنظمة الأوروبية منذ فبراير 2022. وهذا مقابل 34% تم إنفاقها على الأنظمة الأميركية.
وبحسب معهد كيل، قدمت الولايات المتحدة مساعدات بقيمة إجمالية 84.73 مليار يورو (90 مليار دولار) لأوكرانيا منذ الغزو الروسي في فبراير 2022، بما في ذلك 56.8 مليار يورو (60 مليار دولار) في شكل مساعدات عسكرية.
كما قدمت أوروبا، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، 118.2 مليار يورو (125 مليار دولار)، لكن هذه المساعدات كانت في الغالب مالية وليست عسكرية لأوكرانيا.
تآكل القدرات العسكرية الأوروبية
وقال بن باري، وهو عميد سابق في الجيش البريطاني وخبير حرب برية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، في تصريحات لـ"الشرق"، إن الصناعة الدفاعية الأوروبية، التي تقلصت بعد الحرب الباردة، بسبب قرارات سياسية سابقة، مفادها أن "روسيا تتحرك في تجاه أوروبا لتكون شريكة لها، وأن عصر الحرب واسعة النطاق قد انتهى"، لكن ما حدث في أوكرانيا، يعتبره خبير الحرب البريطاني "صدمة استراتيجية".
وقال العميد السابق "أظهرت الحرب على عتبة أوروبا أن القدرة العسكرية الأوروبية على الدفاع عن نفسها، إذا خرجت الحرب عن السيطرة، قد تآكلت إلى حد كبير منذ نهاية الحرب الباردة، واستغرق الأمر وقتاً طويلاً لإعادة تشغيلها".
ويتابع الباحث العسكري، أن "أوروبا قادرة حقاً على المساعدة في أمن العالم، ولكن جزءاً من هذا يتعلق بالعلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة. وعندما تكون العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة جيدة، فإن هذا مفيد للاستقرار العالمي. وعندما تكون أوروبا والولايات المتحدة في حالة معارضة، فإن هذا يضر بالأمن العالمي. وإذا أردت مثالاً، فهو الحرب في البوسنة والهرسك، التي كانت مروعة للغاية، واستغرق الأمر ثلاث سنوات قبل أن تنتهي".
وأضاف: "ولكن أوروبا حاولت إنهائها بنفسها، ولكنها لم تستطع. ولم تنته الحرب بشكل حاسم إلا عندما انخرطت الولايات المتحدة عسكرياً، بل وأيضاً سياسياً ودبلوماسياً".
تشير الأرقام في تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بنسبة 50% خلال العقد الماضي منذ احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 حتى حرب أوكرانيا، أي خلال العقد الماضي. لكن ماتزال 16 دولة من أوروبا تنفق أقل من 2% على الدفاع من ناتجها الإجمالي المحلي.
تفادي التبعية لأميركا
ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى إنفاق ما لا يقل عن 10 مليارات يورو بحلول 2028 على الدفاع، ليس فقط لتلبية مطالب ترمب، ولكن لمواجهة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حسبما قال أندريوس كوبيليوس، المفوض الأوروبي للدفاع والفضاء في جلسة استماع في الاتحاد الأوروبي، الأربعاء الماضي.
ويرى المسؤول الأوروبي، أن هناك ضرورة "على وجه السرعة" لاستعداد الاتحاد الأوروبي للعدوان العسكري "المحتمل" مع الاعتماد على الذات دفاعياً، وزيادة القدرة الدفاعية والتسليح.
رغم ذلك لا تزال أوروبا تستمر في الاعتماد على الولايات المتحدة في الحصول على المعدات الرئيسية، وأبرزها الطائرات المقاتلة المتقدمة.
ووفق المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن الصناعة الدفاعية الأميركية لها حضورها بين الأعضاء الأوروبيين في الناتو، عبر تعاقدات مع الأنظمة الأميركية تصل إلى 34%.
وترى الباحثة في التحليل الدفاعي العسكري إستر سباتينو، في حديثها مع "الشرق"، أن "الدول الأوروبية ستحتاج على الأرجح إلى المزيد من النشاط في هذا القطاع في مجال الأمن والدفاع مع عودة ترمب، ومن المؤكد أن ترمب سيكون أكثر انخراطاً في التعامل مع الدول الأوروبية، وهذا يعني أنه يرغب في أن تظهر الدول الأوروبية أيضاً أفعالا واعية في هذا القطاع، وليس فقط التزامات سياسية".
وأضافت الباحثة الأوروبية، أن "بعض القدرات الصناعية في أوروبا زادت، ولكن والمشكلة تكمن في أن الأمر لا يتعلق فقط بالتمويل وحدة، بل يتعلق أيضاً بالخبرة والقدرات التصنيعية التي يجب تعزيزها. وهذا قد يؤثر على العلاقة مع الولايات المتحدة أيضاً".
وبشأن التنبؤ بما ستكون عليه سياسات الإدارة الأميركية الجديدة في المستقبل القريب، قالت الباحثة العسكرية: "كان هناك اتجاه لتحويل التوازنات والاهتمام نحو المحيطين الهندي والهادئ، لكن الولاية الثانية لترمب تطرح تساؤلات بشأن ما إذا كان يريد الاستمرار في دعم الأمن الأوروبي مع التركيز بشكل أكبر على المحيطين الهندي والهادئ".
وتضيف: "بالنسبة للأوروبيين، فإن الأمر يتعلق حقاً بالقدرة على تلبية المتطلبات وتلبية المعايير وضمان تأكيد الأمن الأوروبي. هناك خطط مختلفة في مواقع أعضاء مختلفة".