لم يكن حتى أكثر السوريين تفاؤلاً يحلم بسيناريو الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد وهروبه الدرامي كما جرى في الـ8 من ديسمبر الجاري، وهو التاريخ الذي يقول كثيرون إنه يُمثل ولادة جديدة لهم بعد عقود من حكم عائلة الأسد. في نهار ذلك اليوم أعلن أحمد الشرع قائد تحالف فصائل المعارضة السورية المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، تحرير العاصمة دمشق من نظام الأسد.
وفي مشهد غير مسبوق، دخل الشرع البالغ من العمر 42 عاماً، المعروف حتى وقت قريب بـ"أبو محمد الجولاني"، والمدرج على قوائم "الإرهاب" الأميركية والأممية، المسجد الأموي بزي عسكري، يُحيط به حراس شخصيون، وفي استقباله حشد من الناس وسط هتافات الترحيب، وقال في خطاب قصير إن "القضاء على حكم الطاغية هو انتصار لسوريا والمنطقة والأمة الإسلامية"، معلناً تحرير آلاف المعتقلين من سجون النظام السابق، لينتهي بذلك حكم جيلين من عائلة الأسد استمر لـ54 عاماً.
تعيش سوريا واقعاً جديداً تماماً لم تعهده منذ نهاية ستينيات القرن الماضي. ولا يزال كثيرون تحت وقع الصدمة، الكل يجمع على أهمية سقوط نظام الأسد، لكن البعض متفائل والبعض الآخر قلق، وثمّة من هم في حيرة حيال شكل النظام المقبل وهوية قادته الجدد.
يُعتبر الشرع، حتى الآن، حاكم سوريا الفعلي، وفي نظر شريحة واسعة هو "البطل الذي حرر البلاد من نظام الأسد وفظائعه" التي استمرت لعقود، إلا أن سيرة هذا الرجل وتنقّله بين التنظيمات المتشددة بما فيها "داعش" و"القاعدة" إلى تبني خطاب وطني يرسل التطمينات إلى الداخل والخارج، تُثير الكثير من الأسئلة بشأن خلفيات هذا التحول من جهة، ومصداقيته من جهة أخرى.
ليست تحولات الشرع حديثة العهد، حسبما قال لـ"الشرق"، آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن للسياسيات ومؤلف كتاب "عصر الجهاد السياسي: دراسة في هيئة تحرير الشام"، معتبراً أن مناقشة مسألة مصداقيته تبدو "رمادية ومعقدة".
شعبية واسعة
على مدى العقد الفائت ظهر "الجولاني" في شخصيات متعددة، وصفها بنفسه أنها تُمثل مجموعة تجارب يتعلم منها الإنسان خلال مراحله العمرية وتدفعه إلى المراجعة والتغيير. عندما شاهده الناس لأول مرة في عام 2016 كانت لحيته طويلة، وعلى رأسه عمامة، ويتحدث عن مشروع "الخلافة" الذي يطمح إلى تحقيقه كزعيم لتنظيم "جبهة النصرة".
تختلف الآراء اليوم حوله، بين من يرى أنه كأي شاب صغير، ضلّ طريقه في مرحلة سابقة، لكنه عاد إلى رشده ويستحق أن يُمنح الفرصة لقيادة المرحلة الانتقالية في سوريا، وهناك من يعتبره "القائد المخلص" للبلاد بعد عقود من الظلم، بينما يعتقد آخرون أنه "شخص مخادع" لم يخلع ثوب "الجولاني" إلا ظاهراً، وما يبدو عليه الآن ليس سوى "تضليل للناس والمجتمع الدولي"، لتثبيت حكم جماعته في سوريا.
في كافة الأحوال، يتفق معظم الخبراء على "ذكاء هذا الشخص وهدوئه وبراجماتيته، يعرف ما يريد، ويُتقن فن التواصل مع الناس، وحضوره يبعث على الارتياح لا الخوف. كما أن سلوكه وخطابه يبدوان مختلفين عن الأسلوب المعهود لدى قادة التنظيمات المتشددة"، وهو نفسه قال مراراً إنه لم يكن مقتنعاً بنهج "القاعدة"، إلا أن الصدفة جعلته في أحضان التنظيم بعد دخوله إلى العراق عام 2003، عندما كان في بداية العشرينيات من عمره، مدفوعاً بشحنة عاطفية لمواجهة القوات الأميركية الغازية.
شهد الحراك السياسي في سوريا منذ 2011 وحتى الآن، تحولات كثيرة، بدءاً من التظاهرات السلمية إلى النزاع المسلح، مروراً بالتدخل الروسي والإيراني وانتشار الجماعات المتشددة، ومن ثم استعادة قوات النظام السيطرة على معظم المناطق، في وضع بدا فيه الأسد بمثابة من "انتصر على خصومه، وأخمد تمردهم على سلطته".
وهكذا، يُمكن فهم أحد أسباب الشعبية الكبيرة التي بات يتمتع بها زعيم "هيئة تحرير الشام"، في ضوء الدور الذي لعبه في قيادة فصائل المعارضة لإسقاط النظام، ليتصدّر بذلك المشهد السوري منفرداً.
واتنتشرت مقاطع تُظهر صور الشرع على السيارات في بعض المناطق السورية، وبدأت المحال تبيع صوره على شكل "بوسترات"، في مشهد يعكس شعبيته وتفرده وحيداً في صدارة المشهد، بعد عقود من تصدّر تماثيل وصور عائلة الأسد في كل مناحي الحياة في البلاد. ولاقت هذه المظاهر انتقادات واسعة حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، وفق رأي أصحابها.
وفي محاولة لمعرفة انطباعات السوريين حياله، قالت عبير وهي سيدة مسيحية تعيش في حمص لـ"الشرق"، إن تصرفات الشرع على أرض الواقع، بما في ذلك خطابه الداعي إلى التسامح والابتعاد عن الطائفية "تبدو إيجابية"، لكنها أبدت بعض القلق، وتساءلت عما إذا كان "سيواصل احترام الحريات إذا ما أزيلت الهيئة من قوائم الإرهاب أم أنه سيُطلق يد جماعته لتحويل سوريا إلى قندهار"، وفق تعبيرها.
في المقابل، يعتقد عبد الله، وهو سوري عربي يعيش في دمشق، أن الطريقة الهادئة وغير الدموية التي تم بها إسقاط نظام الأسد، توحي بأن دولاً كبرى لعبت دوراً خلف الكواليس، وهو ما يُثير، وفق قوله، "الطمأنينة والارتياح"، ذلك أن تلك الدول ستطلب من القادة الجدد "مراعاة خصوصية مكونات المجتمع السورية".
ومع ذلك، يرى عبد الله، أن ماضي زعيم "هيئة تحرير الشام"، يُمثل "مفارقة كبيرة بين ما كانت عليه الثورة ضد نظام الأسد وما أصبحت عليه"، وأضاف: "عندما ضحى السوريون بحياتهم تحت راية علم الاستقلال ظلَّ الجولاني لسنوات يُقاتل تحت راية داعش والقاعدة"، ثم تساءل مستغرباً: "هل يُعقل أنه من بين كل النخب السورية لم يُقنع الدول الكبرى إلا شخص مُدرج في قوائم الإرهاب لقيادة البلاد!".
عندما سُئل الجولاني خلال مقابلته مع شبكة CNN الأميركية قبل السيطرة على دمشق، لماذا يجب أن يثق به السوريون؟ ردّ بأنه على الناس أن "يحكموا من خلال الأفعال لا الأقول". وعلى أهمية المقابلة، كسبق صحافي، لكنها افتقدت للأسئلة الكبرى، على غرار شكل النظام السياسي الذي يتصوره الشرع لسوريا، هل ستكون دولة ديمقراطية أم دينية؟ وهل سيكون للمرأة حضور في الشأن العام والعمل السياسي؟
تاريخ من التحولات
في ديسمبر 2012، صنّفت الخارجية الأميركية "جبهة النصرة"، كمنظمة "إرهابية"، وفي مايو 2013، تم تصنيف الجولاني، "إرهابياً عالمياً"، ورصدت واشنطن مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار أميركي، مقابل الإدلاء بأي معلومات عنه.
واستشهدت الخارجية الأميركية بـ"الرؤية الطائفية العنيفة" للمجموعة، وقالت إن "الهدف النهائي للجولاني هو الإطاحة بالنظام السوري واستبداله بدولة إسلامية"، مضيفة أن الهجمات الانتحارية التي نفذتها مجموعته "قتلت مدنيين سوريين أبرياء".
في 9 يونيو 2013، أصدر الجولاني أول بيان صوتي له، أعلن خلاله مبايعة أيمن الظواهري زعيم تنظيم "القاعدة" المدرج على قوائم "الإرهاب"، وفي 9 ديسمبر من العام نفسه، أجرى مقابلة مع قناة "الجزيرة" مدتها 50 دقيقة، كانت الأولى له مع وسيلة إعلام تلفزيونية، لكنه لم يكشف وجهه أبداً، بل أدار ظهره للكاميرا والتقطت العدسة جزءاً صغيراً من رأسه وأنفه مغطى برداء أسود.
أما اسمه الحقيقي فلم يكن معروفاً حتى ذلك الوقت، وكان لقبه "الفاتح أبو محمد الجولاني"، المستوحى من لقب السلطان العثماني محمد الثاني الذي فتح القسطنطينية (إسطنبول) في عام 1453 وقضى على الإمبراطورية البيزنطية. وأوضح الشرع في تلك المقابلة، أن مشروع تنظيمه "جبهة النصرة" يهدف إلى "حكم سوريا وفق الشريعة".
ثم أجرى الجولاني مقابلة ثانية مع "الجزيرة" القطرية، عُرضت على جزأين خلال مايو ويونيو 2015، في مكان غير معروف بالشمال السوري، لكن ناشطين قالوا آنذاك إن الأثاث الذي جلس عليه هو نفسه الذي كان موجوداً في قصر محافظ إدلب قبل سقوط المدينة في يد المعارضة، وأكد "أمير جبهة النصرة"، كما تم تعريفه في تلك المقابلة، أن تنظيمه "لا يريد أن يحكم سوريا، ومهمته هي إسقاط النظام وإقامة حكم إسلامي راشد".
وفي يوليو 2016 ظهر الجولاني للمرة الأولى بالصوت والصورة، مرتدياً معطفاً عسكرياً، وواضعاً على رأسه عمامة شبيهة بعمامة أسامة بن لادن، معلناً فك الارتباط عن تنظيم "القاعدة"، وتغيير اسم تنظيمه إلى "جبهة فتح الشام"، وإلى جانبيه جلس رجلان ملتحيان، على اليمين أحمد سلامة مبروك "أبو فرج المصري" القيادي في التنظيم، وعلى اليسار المرجع الشرعي له، عبد الرحيم عطون "أبو عبد الله الشامي"، وهذا الأخير أيضاً أجرى تغييرات في شكله وهندامه، إذ خفف لحيته وبدأ يرتدي البناطيل والقمصان بدلاً من الثوب والعمامة.
كان ظهور الجولاني الأول منسجماً مع الصورة المرسومة حوله، سواء على مستوى الخطاب الأيديولوجي أو المظهر الخارجي، لكن تلك الهيئة ستمر بسلسلة تحولات كبيرة في السنوات التالية.
سعى "الجولاني" إلى إبعاد مجموعته علناً عن تنظيم "القاعدة" وأعاد تسميتها بـ"جبهة فتح الشام". وفي يناير 2017، أخفق مشروع التنظيم في الاندماج مع فصائل أخرى، إذ اكتفى بتغيير الاسم مرة أخرى إلى "هيئة تحرير الشام".
وتجدر الإشارة إلى أن لدى عطون، (الشرعي السابق لجبهة النصرة والحالي لتحرير الشام)، كتاباً بعنوان "معالم في الفكر والثورة"، كان قد فُرض كمقرر دراسي على جميع طلاب السنة الدراسية الثالثة في مختلف جامعات محافظة إدلب، ويهاجم الكتاب، وفقاً لتقرير نشره موقع "تلفزيون سوريا" المعارض لنظام الأسد، في أبريل الماضي، المذاهب الفكرية المعاصرة، مثل العلمانية والليبرالية والحداثة والنسوية.
كما يفترض الكتاب أن "اضطهاد السنّة من قبل نظامي الأسد الأب والابن كان السبب لقيام الثورة السورية"، معتبراً أن "الشعب السوري باعتبار ينتمي للمذهب السني، يؤمن ويحمل أفكار الجهاد لا أفكار العلمانية".
صورة جديدة
بعد حوالي 8 سنوات على مقابلته التلفزيونية الأولى، ظهر الجولاني في وثائقي بثّته شبكة PBS Front line الأميركية، وهو يجلس بمواجهة الكاميرا، بهيئة مختلفة إلى حد كبير عما كانت عليه في السابق. كان يرتدي قميصاً وسترة كأي شخص عصري. وبدت لحيته مشذبة وأقصر من قبل.
لم تُثر تلك التغييرات ضجة أو اهتماماً واسعاً آنذاك، ربما لأن ساحة الصراع كانت هادئة وخلت من أحداث كبرى. وقال الشرع للصحافي الأميركي، مارتن سميث في فبراير 2021، في أول مقابلة مع وسيلة إعلام غربية، إن معركته مع رئيس النظام بشار الأسد، وليست مع الولايات المتحدة، مؤكداً أن "هيئة تحرير الشام" التي يتزعمها "لا تشكل تهديداً للولايات المتحدة".
واعتبر أنه "على الحكومة الأميركية إزالته من قائمة الإرهاب"، وأن "تصرفات نظام الأسد تتناسب مع تعريف الإرهاب لأنها تقتل الأبرياء والأطفال والفقراء والنساء"، موضحاً أن دوره يتمثل في محاربة قوات النظام وتنظيم "داعش" وليس لديه أي عداء للمصالح الغربية. وأضاف أنه "أولاً وقبل كل شيء، لا تمثل هذه المنطقة تهديداً لأمن أوروبا وأميركا. هذه المنطقة ليست نقطة انطلاق لتنفيذ الجهاد الأجنبي".
وبشأن تصنيفه من قبل واشنطن والأمم المتحدة ودول عديدة، كـ"إرهابي"، رأى الجولاني أن التصنيف "غير عادل وسياسي".
وكان من الملاحظ أن زعيم "هيئة تحرير الشام"، أراد نفي أي شبهة توحي بأنه يُشكل تهديداً على المصالح الأميركية، لافتاً إلى أنه حتى عندما كان عضواً في "القاعدة" لم يؤيد تنفيذ عمليات عابرة للحدود.
وفي مقابلته الأخيرة مع شبكة CNN، كرر الحديث ذاته، مشيراً إلى أهمية أن يتكيف الإنسان مع المتغيرات، وهو ما يعكس صفة "البراجماتية" التي يظهرها الرجل الأقوى في سوريا حالياً، والباحث عن شرعية دولية.
وقبل أيام قليلة من سقوط الأسد وفراره مع عائلته إلى روسيا، بدأ الجولاني استعمال اسمه الحقيقي أحمد الشرع، بشكل رسمي في البيانات والتصريحات والأخبار التي تبثها الهيئة وإدارة العمليات العسكرية للفصائل السورية، ما يعكس رغبته في تقديم نفسه إلى العالم كشخصية تختلف تماماً عن شخصية القيادي في تنظيم متشدد.
يريد الشرع أن يُقنع الدول العربية والأجنبية بقدرته على إدارة العملية الانتقالية في سوريا، دون أن يوضح مصير الدور الذي يمكن أن يلعبه هو أو الهيئة في المستقبل، وأرسل عدة إشارات إلى الولايات المتحدة، بشأن استعداده للتعاون في عملية التخلص من الأسلحة الكيميائية التي كانت بحوزة قوات الأسد، وكذلك في ما يتعلق بالمعتقلين الأميركيين المختفين في سجون النظام.
وقال في تصريح صحافي إن "سوريا الجديدة لا تريد الحروب".
بدورها، أعلنت واشنطن أنها بعثت عدة رسائل عبر تركيا إلى فصائل المعارضة السورية، ورحّبت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" بتصريحات الشرع حيال الأسلحة الكيميائية، وأوضح أنه يعمل من خلال مجموعات على "الحيلولة دون وقوع تلك الأسلحة في أيدي أطراف سيئة"، مشيراً إلى أنه "ينتظر الأفعال" من قائد المعارضة المسلحة في سوريا.
كما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤول أميركي قوله، إن الولايات المتحدة تدرس إمكانية حذف "هيئة تحرير الشام" من "قائمة الإرهاب".
وفي مؤشر على نجاح الهيئة في إقناع الخارج بقدرتها على إدارة مرحلة الانتقال السياسي في سوريا، أعلنت العديد من الدول إعادة افتتاح سفاراتها في دمشق، والتقى الشرع في دمشق مع وفدين من قطر وتركيا، ضم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالن، ورئيس جهاز أمن الدولة القطري خلفان الكعبي، برفقة فريق استشاري موسّع.
وحتى الآن، تبدو الأمور في طريقها إلى الاستقرار السريع في سوريا، إذ أعلنت حكومة تصريف الأعمال برئاسة محمد البشير، إلغاء حظر التجول في كافة المناطق تقريباً، وعودة الحياة والأعمال إلى طبيعتها، إلى جانب افتتاح المدارس والجامعات والمطارات قريباً.
موقف الشرع من الولايات المتحدة
ينسب بعض الخبراء والدبلوماسيون الأميركيون المختصون بشؤون الشرق الأوسط إلى "الجولاني"، "فضل إرساء مظهر من الاستقرار في إدلب، والعمل كحاجز ضد القوات المعادية للولايات المتحدة".
ويبدو أن هذه الرؤية تنطلق من انفراد "هيئة تحرير الشام"، بحكم تلك المنطقة بعد التخلص من الفصائل الأخرى التي كانت كثرتها، كما يعتقد الأميركيون، ستؤدي إلى التنافس والاقتتال في ما بينها، وبالتالي زعزعة الاستقرار.
ومنذ بدء الفصائل السورية معركة "ردع العدوان" في 27 نوفمبر الماضي، أوحى تقدمها وانهيار قوات النظام بأن هناك ترتيبات دولية في عملية التغيير الموشكة. وفي رده على سؤال بشأن احتمال حدوث لقاء بين مسؤولين أميركيين مع الشرع، استبعد آرون زيلين ذلك، وقال إن الولايات المتحدة "لم تتحدث معهم فعلياً على الإطلاق".
وأضاف: "لقد سمعت أن هناك محاولات من هيئة تحرير الشام للتواصل مع واشنطن ربما بين عامي 2018 و2019 وأثناء إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب الأولى، لكن كما ظهر في المقابلة التي أجراها جيم جيفري خلال وثائقي عن الجولاني، والذي كان أحد اللاعبين الرئيسيين المرتبطين بسوريا في ذلك الوقت، فإنهم تلقوا معلومات مفادها أنهم كانوا يحاولون التواصل، لكنه لم يتخذ أي إجراء حيال ذلك، ولم تُفضِ تلك المحاولات إلى أي شيء خلال إدارة ترمب، وحسب عِلمي لم يحدث تواصل أيضاً خلال رئاسة بايدن".
مع ذلك، يرى آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن للسياسيات خلال تصريحاته لـ"الشرق"، أنه بعد نجاح هجوم المعارضة الذي قاده أحمد الشرع ضد نظام الأسد "يمكن تخيل أن يكون هناك مستوى ما من القنوات الخلفية الجارية، لكنه يبقى مجرد افتراض بأنهم قد يفعلون ذلك، لكنني لا أعرف ما يجري على وجه التحديد".
وفي الوثائقي الذي بثّته شبكة Fronline PBS عام 2021، قال جيمس جيفري، وهو أحد كبار الدبلوماسيين الأميركيين، كان سفيراً سابقاً في أنقرة وبغداد، وتولى منصب نائب مستشار الأمن القومي في إدارة جورج بوش الابن، ومبعوث خاص للتحالف العالمي لهزيمة "داعش" خلال إدارة ترمب، إن "تنظيم الجولاني كان من أصول استراتيجية الولايات المتحدة في إدلب".
وتابع جيفري الذي تولى أيضاً مهام الممثل الخاص للشؤون السورية "إنهم (هيئة تحرير الشام) الخيار الأقل سوءاً بين الخيارات المختلفة بشأن إدلب، التي تُعتبر واحدة من أهم الأماكن في سوريا، وفي الشرق الأوسط حالياً".
واعتبر أن الجيش والحكومة الأميركية، تصرفوا "ببلاهة وغباء" في إدارة العمليات العسكرية في العراق لأنهم "لم يكونوا مستعدين للتعامل مع الحقائق على الأرض".
هل تغيّر الشرع؟
على المستوى الخارجي، يُدرك أحمد الشرع الذي كثيراً ما ردد أنه اطلع على تجارب التغيير في دول عربية عديدة كالعراق، واستخلص منها الدروس، أن شرعية الحكم الجديد في سوريا تتوقف على الاعتراف الدولي أولاً، وهذا الاعتراف مرهون بالتزامات في السياسة الخارجية، وفي الوقت نفسه بتعهدات داخلية، سيما ما يتعلق بالحريات الدينية والشخصية والتعامل مع الأقليات.
كيف يمكن أن نفهم أبعاد التحول في خطاب واستراتيجية الشرع، من أقصى التطرف إلى الاعتدال؟
آرون زيلين الذي تُركز أبحاثه على "الجماعات الإرهابية" في شمال إفريقيا وسوريا، يرى أنه "في المعنى الأساسي، انتقلت هيئة تحرير الشام من الجهاد العالمي إلى نظام محلي، لكني أعتقد أننا بحاجة إلى توخي الحذر في الطريقة التي نتحدث بها عن هذا، لأن الأمر أكثر تعقيداً بعض الشيء".
وتابع: "إنهم ليسوا معتدلين بالضرورة، فهم ما زالوا إسلاميين محافظين. الأمر ليس كما لو أنهم ديمقراطيون ليبراليون، لكن لم يعد لديهم أي علاقة بالحركة الجهادية العالمية. لقد مر الآن 8 سنوات ونصف منذ أن تركوا تنظيم القاعدة على سبيل المثال، ولديهم سجل حافل يمتد لهذه الفترة، وقد رأيناهم يُدمرون جميع خلايا تنظيم داعش في الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها، وعندما حاولت القاعدة إنشاء فرع جديد هناك، دمروه أيضاً بحلول يونيو 2020، ولذلك يتم النظر اليوم إلى كل هذا على أنه مشروع تحول".
لكن، رغم هذه الإصلاحات في نهج "هيئة تحرير الشام" والشرع، إلا أن زيلين يعتقد في الوقت نفسه، أن "هناك بعض القيود تتعلق فيما يمكنهم فعله، فمن الواضح أنهم تواصلوا مع الأقليات في السنوات القليلة الماضية، وهم لا يحاولون تغيير دين أي شخص قسراً كما فعلوا في السابق عندما كانوا (جبهة النصرة)، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المرء سيجد في ظل حكمهم نفس النوع من الحرية التي قد يتمتع بها الناس في الديمقراطيات الليبرالية".
وأضاف: "على سبيل المثال، المسيحيون والدروز الذين كانوا يعيشون في إدلب، في ظل وجود هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، لم يكن لديهم تمثيل سياسي كقادة في الحكومة أو في مجلس الشورى. صحيح أنه كانت هناك مديرية لشؤون الأقليات، لكن هذا ليس هو الشيء نفسه".
أما بالنسبة لمستقبل وضع النساء تحت حكم "هيئة تحرير الشام"، أشار زيلين إلى تجربتها في إدلب، وقال إنها "تسمح لهن بالعيش في المجتمع دون التعرض للمضايقات، وذلك قدر الإمكان وفي سياق المجتمع المحافظ على الأقل، كما أنهن يذهبن إلى المدارس ويدرسن في كليات الطب وما إلى ذلك، ويعملن أيضاً، لكنهن لا يتمتعن بتمثيل سياسي، ولا يزال هناك نوع من النظام الأبوي في نواحٍ كثيرة، ولذلك فإن الأمر أكثر تعقيداً مما قد يصفه بعض الناس".
وهكذا، يرى زيلين، أن الشرع والهيئة "ليسوا متطرفين كما كانوا في السابق، لكنهم ليسوا أيضاً مجموعة منفتحة تماماً حيث يكون كل شيء على ما يرام للجميع بنفس الطريقة التي تحصل في سويسرا مثلاً".
ويعتقد الباحث الأميركي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن سجل الهيئة الطويل من التغييرات الذي يمتد 8 أعوام ونصف، كان تطوراً تدريجياً بطيئاً، لكن معظم الناس توقفوا عن متابعة الأمر منذ سنوات، ولذلك "لم يلاحظوا ذلك حقاً".
وفي ما إذا كانت مظاهر التغيير في نهج الشرع صادقة وحقيقية أم أنها مجرد حيلة لتحقيق أهداف في المرحلة المقبلة، قال زيلين: "الأمر ليس كما لو أن التغيير جاء من العدم، فقد حدث خلال عقد من الزمن تقريباً. وهم لا يزالون إسلاميين محافظين في كثير من النواحي، إلا أنهم اليوم يفهمون أكثر سياق سوريا كدولة متعدد الأديان والأعراق والثقافات.
وتابع: "مع ذلك، هم حركة سُنية، وبالتالي هناك بعض القيود حول مدى ما يمكنهم الوصول إليه في فِهمهم وتفسيرهم لعلم اللاهوت والشريعة الإسلامية، بالنظر إلى السوابق التاريخية. ولهذا يحتاج تقييم الهيئة إلى نوع من إدراك أن هذه ليست قضية يُمكن اختزالها في الأبيض والأسود، إذ تبدو قضية رمادية للغاية ومعقدة".
في الأيام الأخيرة تم تداول مقطع فيديو سابق للشرع، وهو يتحدث خلال لقاء مجموعة من الناس، عن ضرورة عدم فرض الشريعة بالقوة، بما في ذلك ارتداء النقاب، وقال إن "تطبيق الشريعة لا يجب أن يكون بمثابة سيّاف يقف على أبواب المحاكم أو داعية يحمل العصا ويلاحق الناس".
واعتبر أن "استخدام القوة لفرض الشريعة يدل على العجز في إيصال الدعوة"، مستشهداً بما وصفه بـ"نجاح التجربة التي تم تطبيقها" في مناطق سيطرته "بين 40 و50% من النساء في مناطقنا يضعن الخمار طوعاً، والمساجد ممتلئة، وشرع الله يُطبق بدون قسوة أو استعراض".
لكن زعيم "هيئة تحرير الشام"، أكد في الوقت نفسه أن "من يقف في وجه الدعوة بالقوة، سيتم مجابهته بالقوة".
حملة علاقات عامة
منذ بداية عملياتها في سوريا، شكّلت "جبهة النصرة" شبكة إعلامية تضم مجموعة مراسلين في العديد من المناطق السورية، وكانت حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر الأخبار والبيانات والإصدارات والأناشيد عبر المنابر المختلفة، ولا سيما منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، مستفيدة من ضعف القيود على المحتوى المنشور في المنصة آنذاك.
وعندما ظهر إلى العلن بعد سنوات من التواري عن الأنظار، بدأ التركيز الإعلامي ينصب على الجولاني أكثر فأكثر، ومع الوقت واستتباب الحكم له في بعض مناطق الشمال السوري، ازداد حيز زعيم "هيئة تحرير الشام" في المحتوى الذي تبثّه الحركة.
وخلال محاولات تحسين صورة الجولاني في السنوات الماضية، نشر إعلام الحركة تقارير مرئية عن زيارات قام بها إلى إحدى الكنائس ولقائه المسيحيين ومتابعة أوضاعهم، إلى جانب زيارة القرى الدرزية في جبل السماق، حيث تورط مقاتلين في تنظيمه بتصفية 20 شخصاً مدنياً في قرية قلب لوزة عام 2015، وهو ما وصفته واشنطن بـ"المجزرة" في بيان إدراج الجولاني بـ"قوائم الإرهاب".
في الآونة الأخيرة، ظهر أحمد الشرع، الذي أوقف استخدام لقبه السابق تماماً، بشخصية القيادي الداعي إلى التسامح والتعايش بين المكونات السورية، محذراً الفصائل من عمليات الانتقام أو الاعتداء على الأقليات في سوريا أو بحق من كان يعمل في المؤسسات السورية تحت حكم النظام السابق.
وحول كل هذه التحولات التي طرأت على الجولاني خلال العقد الفائت، يعتقد ياسر عبد العزيز الخبير والباحث المتخصص في شؤون الإعلام، أنها "ليست مجرد مصادفة أو انقلاب ذاتي".
وقارن البعض على مواقع التوصل صور الجولاني بصور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في محاولة للإشارة إلى وجه الشبه بين الزي الذي يرتديانه، على افتراض أنه إذا ما كان هناك بالفعل حملة علاقة عاقة، فالجهة نفسها تعمل مع الرجلين. وهذه تبقى في إطار الافتراضات.
وفي حديث لـ"الشرق"، قال عبد العزيز: "يُمكن وصف المنهجية أو السياسة التي يتبعها الجولاني ومن يقف وراءه بأنها حملة علاقة عامة من الطراز الرفيع، ممنهجة ومحسوبة بدقة شديدة، وفيها الكثير من الجهد والفواعل وخصوصاً في المجال الإعلامي".
وأضاف: "عملية العلاقات العامة هذه، يمكن وصفها بأنها Rebranding أو إعادة تقديم أحمد الشرع إلى المجال العام في سوريا والعالم، بوصفه سياسياً وليس جهادياً أو تكفيرياً أو إرهابياً. وتصديره كرجل دولة يتحدث عن المؤسسات وعن الخيارات الجماعية واحترام الأقليات، واتخاذ القرارات بعد دراسة وتأني".
وأشار عبد العزيز، إلى أن الشرع "يتجنّب استخدام مفردات الخطاب التكفيري المعروف لدى الجماعات المتشددة التي انخرط فيها منذ 20 عاماً. كما أن استخدام اسمه الحقيقي يُمثل قطيعة مع (أبو محمد الجولاني) بكل ما عرف عنه من ارتباطات بالزرقاوي والظواهري والبغدادي، وتمتد القطيعة أيضاً إلى مظهره من خلال تخفيف لحيته، وارتداء الزي المدني".
وتابع: "يبدو لي بعد 30 عاماً من العمل في المجال الإعلامي، أن الشرع خضع لتدريبات على درجة كبيرة من الاحترافية في مجال التحدث إلى الرأي العام (Public Speaking). وفي الحوار الذي أجرته معه CNN، لم توجه كل الأسئلة المطلوبة أو تلح في الإجابة، بل كانت تُخفف الضغوط عليه وتمنحه الوقت المناسبة ليطرح حجته دون أي شكل من التفاعل أو المعارضة".
في أحدث ظهور له، أطل الشرع في زي جديد تماماً، إذ خلع البدلة العسكرية، وارتدى ملابس أكثر عصرية مما كان يرتديه سابقاً، وهذه ربما خطوة أخرى تندرج في إطالة جملة التحولات التي بدأت قبل سنوات، ويرى الباحث المصري أنها مدروسة بعناية وتعكس مشروعاً يُحضر له بشأن مستقبل الحاكم الجديد لسوريا.
ورأى الخبير المصري: أن الشرع "أظهر في المقابلة درجة من الثبات ووضوح الهدف، وتحدث بلغة رجل الدولة، تحدث بشكل يُظهر ، وهو ما ستكون له أصداؤه في وسائل الإعلام الدولية التي بدأت تتعامل مع الشرع وهيئة تحرير الشام بشكل إيجابي، حيث وصفه أحد المقالات في صحيفة (نيويورك تايمز) بأنه رجل دولة جديد وأحدث قطيعة مع ماضيه".
كما يعتقد عبد العزيز، أن حملة العلاقات العامة الخاصة بالجولاني، شبيهة بتلك التي مارستها حركة طالبان في أفغانستان قبل أن تستولي على الحكم عام 2021، حيث "ما إن أطاحت بالنظام الموالي للولايات المتحدة حتى تراجعت عن تعهداتها، وعادت إلى سابق عهدها، في تقييد حضور النساء في المجال العام، وفرض قواعد للباس، وتطبيق بعض الأحكام العقابية ضد مواطنين أفغان".
احتفل السوريون جميعاً بهزيمة نظام الأسد، لكن جوهر الانتصار، كلٌّ يراه وفق منظوره وتطلعاته للمرحلة المقبلة. ما هو واقع اليوم، أن أحمد الشرع الذي ترك دراسته في كلية الطب البشري في عام 2003 لقتال الأميركيين في العراق قبل أن يتنقّل بين "داعش" و"القاعدة"، ومن ثم يقود الفصائل السورية للإطاحة بالأسد، هو الرجل الأقوى في سوريا.