
تزداد الفجوة اتساعاً داخل الاقتصاد الروسي ذي المسارين، إذ تزدهر الشركات المرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا، فيما تواجه بقية القطاعات صعوبات للحصول على الموارد، وفق "بلومبرغ".
وأوضحت "بلومبرغ" في تقرير، الأربعاء، أن الإنفاق الضخم على الحرب أدى إلى حصر النمو بشكل متزايد داخل المجمع الصناعي العسكري، ما يسلط الضوء على اختلال في التوازن الاقتصادي، ويؤكد استعداد الكرملين لمواصلة الحرب، رغم حاجته المحتملة إلى سنوات للعودة إلى حالة طبيعية حتى في حال توقف القتال.
وقالت صوفيا دونيتس، كبيرة الخبراء الاقتصاديين في شركة T-Investments، ومقرها سول، إن "ما تبقى هو فقط مجموعة محدودة من صناعات رئيسية ذات معدلات نمو مرتفعة، وجميعها مرتبطة بالطلبيات الحكومية والدفاع"، مشيرة إلى أنه "من الصعب العثور على قطاعات أخرى تحقق أرباحاً".
ويتعرض قطاع الأعمال التجارية لضغوط متزايدة منذ أن رفع المصرف المركزي سعر الفائدة الرئيسي إلى 21% في أكتوبر الماضي لكبح جماح التضخم، الذي بات يتجاوز ضعف المستهدف البالغ 4%.
ومع تراجع الطلب المحلي، وانخفاض أسعار الصادرات، وارتفاع التكاليف الناجمة عن العقوبات، تواجه الشركات ضغوطاً متزايدة، ما يضع صناع السياسات النقدية تحت ضغط لخفض تكاليف الاقتراض خلال اجتماعهم المرتقب، الجمعة.
وأظهرت بيانات هيئة الإحصاء الفيدرالية، أن إنتاج معظم الصناعات التحويلية المدنية انكمش خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، كما أقر صناع السياسات بأن الزيادات الحادة في أسعار الفائدة قد أدت إلى تدهور الوضع المالي لأكبر 78 شركة في البلاد.
وأفاد تقرير صدر في 28 مايو الماضي، بأن عدد الشركات المصنفة على أنها تواجه ضائقة مالية ربما تضاعف ليصل إلى 13 شركة، مع احتمال تعرض بعضها للإفلاس، مشيراً إلى أن معظم القطاعات شهدت تراجعاً في عدد الشركات المربحة.
تراجع في بعض القطاعات
ونقلت وكالة "تاس" الروسية للأنباء عن وزير الاقتصاد الروسي مكسيم ريشيتنيكوف قوله، الثلاثاء، إن قطاعات متزايدة من الاقتصاد الحقيقي تشهد تراجعاً في الإنتاج، وأشار الوزير إلى أن وزارته تعوّل على تخفيف السياسة النقدية لدفع عجلة النمو.
في المقابل، تُواصل القطاعات ذات الأولوية توسعها مدعومة بتدفقات ضخمة من الميزانية وقروض تفضيلية، ما يجعلها أقل تأثراً بأسعار الفائدة في السوق.
وبحسب بيانات هيئة الإحصاء، ارتفعت فئة الإنتاج التي تشمل المركبات القتالية والطائرات والسفن بنسبة 32% خلال الأشهر الأربعة الأولى، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي.
كما زاد إنتاج الحواسيب والإلكترونيات والبصريات، وهي فئة تشمل، من بين أشياء أخرى، مكونات للطائرات ومحركات الصواريخ، بنسبة 14%. أما إنتاج السلع المعدنية الجاهزة، التي تضم الأسلحة والذخيرة، فقد سجل نمواً بنسبة 16%.
ووفقاً لتقديرات وزارة الاقتصاد، ساهم مجمع صناعة الآلات، الذي يضم هذه القطاعات، بأكثر من 50% من إجمالي الزيادة في إنتاج الصناعات التحويلية.
وقالت ناتاليا ميلتشاكوفا، المحللة في شركة Freedom Finance Global في كازاخستان، إن "الانهيار الشامل في الإنتاج لم يحدث لأن طلبيات الدفاع الحكومية تحد من وتيرة الانخفاضات". وأظهرت البيانات أن نسبة الزيادة السنوية في الإنتاج خلال الأشهر الأربعة الأولى بلغت 1.2%.
ومن المرجح أن تستغرق إعادة التوازن عدة سنوات؛ إذ إن إعادة بناء المخزونات من المعدات، وربما زيادتها مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، قد يتطلب ما بين ثلاث إلى أربع سنوات.
ويعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن نجاح القطاعات العسكرية والصناعية يشكل عاملاً حاسماً في تفوق القوات الروسية ميدانياً في أوكرانيا.
وأعطت موسكو الإنفاق الدفاعي أولوية قصوى، ومن المتوقع أن يلتهم هذا العام ثلث الميزانية العامة للدولة، وفق "بلومبرغ".
وفي مايو الماضي، أعرب بوتين عن رغبته في ضخ المزيد من التمويل الحكومي في المجمع العسكري، بهدف تعزيز مكانته في سوق الأسلحة العالمية وزيادة حجم الصادرات.
ورغم تراجع أسعار النفط وعائدات التصدير، لا يعتزم الكرملين خفض الإنفاق هذا العام، ما قد يؤدي إلى تضاعف العجز في الميزانية ثلاث مرات مقارنة بالخطة الأصلية.
استنزاف الصندوق السيادي
ورغم استنزاف معظم أموال صندوق الثروة السيادي خلال فترة الحرب، تشير تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى أن ما تبقى يكفي لسد أي عجز في عائدات النفط خلال الأشهر الـ18 إلى 24 المقبلة، حتى إذا انخفضت الأسعار إلى نحو 50 دولاراً للبرميل.
كما أن العقوبات الجديدة لا يُرجح أن توقف "آلة الحرب الروسية"، إذ فشلت الجولات السابقة في تعطيل التجارة الخارجية التي تُغذي خزائن الدولة.
وفيما يواصل مسؤولون أوروبيون وأميركيون الدفع باتجاه تشديد الضغوط على الاقتصاد الروسي، أظهرت موسكو قدرة متزايدة على التوجه نحو شركاء تجاريين جدد، وبناء سلاسل توريد بديلة، وإنشاء مسارات لوجستية جديدة، وتطوير طرق للتحايل على أنظمة الدفع العابرة للحدود.
وقالت تاتيانا أورلوفا، كبيرة الاقتصاديين في "أوكسفورد إيكونوميكس"، إن هناك دائماً دوافع اقتصادية تدفع أطرافاً لمساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات إذا كانت هناك مكاسب مالية"، مشيرة إلى أنه "في كل جولة جديدة من العقوبات، تكتشف (موسكو) وسائل التفاف سريعاً، ما يجعلها غير فعالة".
ومع ذلك، تسهم هذه العقوبات في إضعاف الوضع المالي للشركات الروسية، بحسب تقرير البنك المركزي.
ورغم أن القيود الغربية لم تنجح في تحويل الاقتصاد الروسي بعيداً عن مساره العسكري، لكنها زادت من تدهور الأداء المتراجع للشركات المدنية، عبر زيادة التكاليف وتعقيد سلاسل الإمداد والمدفوعات والحصول على التكنولوجيا المستوردة. كما حدت من إمكانات التصدير، ومع انخفاض الطلب المحلي، أسفر ذلك عن تباطؤ الإنتاج.
وترك ذلك شركات الصناعات الدفاعية في موقع الريادة الصناعية، إذ لا تزال الأنشطة الاقتصادية تتراجع في نحو 84% من القطاعات الأخرى، بحسب بنك "رايفايزن" في موسكو.
وكتب محللو البنك في مذكرة الأسبوع الماضي أن قطاع صناعة الآلات يشكل المحرك الرئيس لنمو الصناعة ككل، في حين تُسهم بقية القطاعات بتأثير سلبي.