تحليل إخباري
سياسة

ألمانيا تطمح لبناء أقوى جيش في أوروبا.. تحديات ملحة وخطط معقدة

برلين تحدد عام 2029 كسقف زمني لإنجاز مشروعها

time reading iconدقائق القراءة - 13
مروحيات هجومية من طراز "النمر الألماني" تابعة لسلاح الجو الألماني بالقاعدة العسكرية الأميركية في جرافينوير بألمانيا. 26 أكتوبر 2016 - REUTERS
مروحيات هجومية من طراز "النمر الألماني" تابعة لسلاح الجو الألماني بالقاعدة العسكرية الأميركية في جرافينوير بألمانيا. 26 أكتوبر 2016 - REUTERS
برلين -مصطفى السعيد*

قد يبدو منطقياً أن يعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس في أول بيان حكومي له أمام البرلمان (البوندستاج) في 14 مايو، نيّة حكومته الاستمرار في تعزيز قدرات الجيش الألماني ليصبح "أقوى جيش تقليدي في أوروبا"، فألمانيا هي الدولة الأوروبية الأقوى اقتصادياً وعدد سكانها هو الأكبر بلا منازع في السياق الأوروبي، ما يؤهلها لذلك.

لكن المتتبع لتاريخ الجيش الألماني يعرف بأن القدرات العسكرية الألمانية كانت في الثمانين عاماً المنصرمة أقل من مثيلاتها في فرنسا وبريطانيا، وكلاهما بخلاف ألمانيا دولة نووية، وذلك لأسباب تاريخية تتعلق بخوض "ألمانيا النازية" الحرب العالمية الثانية  في الفترة بين عامي 1939 و1945.

نظر الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا) بعين الشك والريبة إلى إعادة تسليح ألمانيا في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ولم توافق كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على انضمام ألمانيا في عهد المستشار، كونراد أديناور، إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1955، إلا في إطار الحرب الباردة ومواجهة الاتحاد السوفيتي آنذاك، وبشرط وضع الإمكانيات الألمانية الجديدة تحت تصرف الحلف الغربي.

ميرتس على خطى أديناور وكول

وبعد عقود ثلاثة، واجهت ألمانيا تحفظاً جديداً من قبل الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا ميتران، وكذلك رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك، مارجريت تاتشر، عندما انهار جدار برلين في نهاية 1989 وحانت فرصة الوحدة الألمانية، وذلك تخوفاً من هيمنة "ألمانيا موحدة قوية" وسط القارة الأوروبية.

لكن الواقعية السياسية في ظل موافقة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الأب ورئيس الاتحاد السوفيتي السابق، ميخائيل جورباتشوف، جعلتهما يتجاوزان تحفظهما، بالإضافة إلى تقديم المستشار الألماني آنذاك، هلموت كول، الذي سمي لاحقاً "مستشار الوحدة"، الكثير من التنازلات الاقتصادية على مستوى إنشاء اليورو والوحدة الأوروبية، ما سرّع في موافقة جميع الأطراف على الوحدة الألمانية التي تمت في عام 1990.

وعندما أعلن المستشار الجديد ميرتس، الذي ينتمي لحزب أديناور وكول المسيحي الديمقراطي، قبل 3 أسابيع، عن الارتقاء بالجيش الألماني من حيث العتاد والعديد ليصبح الجيش التقليدي الأقوى في أوروبا، لم ينس استباق أي تحفظات بالإشارة إلى التعاون ضمن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، للتمكن من دعم أوكرانيا ومواجهة التهديد الروسي، مؤكداً أن الهدف هو ردع التهديدات التي تواجه أوروبا والغرب ككل لـ"تعزيز قدراتنا الدفاعية حتى لا نضطر إلى الدفاع عن أنفسنا في المستقبل"، وأضاف: "القوة تردع العدوان والضعف يغري العدو".

تدشين اللواء 45 في ليتوانيا

بعد ذلك البيان الحكومي بأسبوع وفي ذات السياق، قام ميرتس بصحبة وزير الدفاع الألماني، بوريس بستوريوس، في 22 مايو الماضي، بتدشين اللواء الألماني 45 في ليتوانيا.

وهي المرة الأولى التي تتواجد فيها وحدات ألمانية بهذا العدد خارج حدود ألمانيا وبصورة دائمة. سيعمل هذا اللواء الذي سيضم نحو 5 آلاف جندي وجندية مع حلول عام 2027 ضمن حلف الناتو، ومهمته حماية جبهة الحلف الشرقية المحاذية للحدود مع روسيا، وبالذات دول البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، التي انضمت في عام 2004 إلى حلف الناتو، الذي توسع توالياً نحو الشرق في حقبة الضعف الروسية، وهو التوسع الذي تسوقه روسيا على أنه تهديد لها بدورها.

رسائل لروسيا وأخرى لأميركا

تتزامن الجهود الألمانية مع سعي دول أوروبية أخرى لتعزيز قدراتها العسكرية كبريطانيا؛ التي أعلن رئيس وزرائها كير ستارمر عن النية لبناء 12 غواصة بحرية نووية في السنوات المقبلة من قبيل الردع أيضاً.

تدشين اللواء الألماني 45 في ليتوانيا مؤخراً، أطلق رسائل باتجاه روسيا وباتجاه الحليف الغربي الأكبر في واشنطن، وهي إشارة للرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن حكومة ميرتس مستعدة لتحمل المزيد من المسؤولية في الدفاع عن الناتو.

تعززت هذه الرسالة بتصريح وزير الخارجية الألماني الجديد، يوهان فاديبفول، في 15 مايو الماضي، على هامش اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في تركيا، بأن بلاده تؤيد مطالب الرئيس الأميركي ترمب وستدعم رفع المساهمات العسكرية للدول الأعضاء إلى 5% من ناتجها القومي.

وإن عاد فاديفول، إلى التعديل بأن الإنفاق العسكري يمكن أن يصل 3.5%، فيما يتوجب على الدول الأعضاء استثمار ما قيمته 1.5% أخرى من ناتجها القومي في توفير البنية التحتية التي يحتاجها العسكر في تحركاتهم ولأداء مهامهم في حالة الحرب. 

ويبقى هذا الرقم محل خلاف ضمن الائتلاف الحكومي في برلين، بانتظار قرار حلف الناتو في قمته التي ستنعقد في لاهاي في نهاية يونيو الجاري. علماً بأن الإنفاق العسكري الألماني يبلغ هذا العام ما يزيد عن 70 مليار يورو، فيما سيبلغ نحو 200 مليار لو ارتفعت الحصة إلى 5% وهو رقم يثير الجدل حتماً في الداخل الألماني.

جيش "مهلهل" للمهمات الدولية

كان الجيش الألماني يركز في الماضي على المشاركة في مهام سلام دولية تحت راية الأمم المتحدة، وابتعد مثلاً عن المشاركة المباشرة في صراعات عسكرية دولية كغزو العراق في عام 2003، والهجمات على ليبيا في عام 2011، عندما امتنع وزير الخارجية الألمانية آنذاك، جيدو فيسترفيله، عن التصويت في الأمم المتحدة، على إقرار الهجوم على ليبيا. 

وتراجعت قدرات الجيش الألماني الدفاعية وقدرته على الردع على مدى السنين، على خلفية يقين الحكومات الألمانية المتعاقبة، وخاصة في ظل حكم المستشارة التاريخية، أنجيلا ميركل، بأن نهاية الحرب الباردة تعني اختفاء الأعداء، وسلاماً شبه دائم في القارة الأوروبية، وانسجاماً مع هذه الرؤية تم إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية في ألمانيا عام 2011. لكن متغيرات اليوم، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، أعادت الألمان إلى دورة التسليح، فبعد أن وصف مفتش الجيش البري الألماني، ألفونس مايس، عشية الحرب في أوكرانيا عام 2022 جيشه بـ"العاري نسبياً"، ها هو اليوم يسعى للتحول إلى قوة ضاربة في المستقبل.

بعد ثلاثة أيام فقط من بدء روسيا حربها في أوكرانيا في فبراير 2022، استخدم المستشار الألماني السابق أولاف شولتز مصطلح تحول الأزمنة Zeitenwende، الذي درج استخدامه دولياً في الأثناء للتعبير عن تعرض المنظومة الأمنية الأوروبية والحدود المتعارف عليها دولياً للتهديد على يد روسيا. ومن ثم تمت المصادقة من قبل البوندستاج على صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو، لتعزيز القدرات العسكرية الألمانية. وها هو ميرتس يكمل طريق شولتز لتعزيز الجيش الألماني، ويضيف قائلاً إنه سيكون "الجيش التقليدي الأقوى في أوروبا".

بوتين وترمب يدفعان نحو مزيد من التسلح

وإن كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد دفع الألمان والأوروبيين إلى دعم أوكرانيا وتعزيز قدراتهم الدفاعية؛ فإن للرئيس الأميركي دونالد ترمب هو الآخر يد طولى في هذا التحول، إذ طالب دول حلف الناتو برفع موازناتها الدفاعية إلى 5% من الناتج القومي، وهدد ضمناً بسحب الغطاء الأمني عن أوروبا، وهو ما شبهه البعض بعاصفة تسونامي هبت لتوقظ الأوروبيين، وخاصة الألمان، بأن الدفاع عن النفس ليس مجانياً وأن عليهم البحث عن استقلالية أمنية وعسكرية، على الأقل على المستوى الأوروبي، تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم عند الضرورة.

ينقص الجيش الألماني الكثير من العتاد المتطور، كما أن مستودعات الذخيرة لديه ليست ممتلئة بالقدر الكافي، خاصة بعد تسليم الجيش الألماني للكثير منها ومن أجهزة الدفاع المتطورة كالمدرعات وراميات الصواريخ ودفاعات أرض جو وغيرها من العتاد لأوكرانيا في السنوات الثلاث الماضية، بهدف دعم صمودها في وجه الجيش الروسي. 

وتم توظيف أموال الصندوق الخاص لدعم الجيش الألماني بقيمة 100 مليار، في طلب طائرات مقاتلة وأخرى مسيرة مزودة بالأسلحة وأنظمة صاروخية وذخيرة جديدة، لكن تسليم مثل هذه المقدرات العسكرية يحتاج سنين طويلة، وفق معطيات الإنتاج لصناعة التسليح الألمانية والأوروبية والأميركية.

وأشار المستشار الألماني ميرتس، أثناء لقائه بالأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في بروكسل، إلى أنه لا بد من السعي داخل الحلف لتنسيق أفضل في تصنيع السلاح، باتجاه التقليل من الأنظمة المتشابهة وتوحيد في الذخيرة اللازمة وتجميع للطلبيات بأعداد كبيرة، مما سيشجع صناعة السلاح على مزيد من الاستثمار بهدف توفير الطلبيات بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع.

لم يكتف الائتلاف الحاكم في ألمانيا بإنفاق المليارات المئة من الصندوق الخاصّ بالجيش، بل استصدر قراراً بأغلبية الثلثين في البرلمان الألماني لتجاوز كابح الديون الخارجية المنصوص عليه في الدستور الألماني.

وبموجبه يمكن للحكومة الألمانية، أن تستدين المزيد لتمويل مشروعاتها في الدفاع والتسليح، ما يتناسب مع مقولة ميرتس "مستعدون لكل ما يلزم!" والذي عبر عنها دوماً بالإنجليزية Whatever it takes.

"لدينا المال ونبحث عن الجنود"

يخدم في الجيش الألماني حالياً نحو 180 ألف جندي، ويقول الخبراء العسكريون إن على ألمانيا أن ترفع العدد بـ100 ألف أخرى في العامين المقبلين للوفاء بالتزاماتها ضمن حلف الناتو، الذي يتوقع أن يطلب من ألمانيا في قمته المقبلة في لاهاي، تخصيص سبعة ألوية أخرى على الأقل لدعم عمليات الناتو، بالإضافة إلى تولي مسؤوليات أكبر في كل ما يتعلق بالدفاعات الجوية. 

ينصّ برنامج الحكومة الجديدة على استقطاب الشباب للخدمة في الجيش عبر برنامج تجنيد طوعي، مع شكوك الكثيرين داخل الجيش في نجاح هذه الفكرة.

وكانت استطلاعات سابقة قد بيّنت أن نحو 10% فقط من الشباب الألمان مستعد للخدمة العسكرية والدفاع عن بلده بحمل السلاح. 

لذا، نصّ الاتفاق الحكومي على أن تكون الخدمة الطوعية كمرحلة أولى فقط. أما المفتش العام للجيش الألماني، كارستن بروير، فيقول إن "الخدمة العسكرية الإلزامية هي التأمين الصحيح لقدرة الجيش الألماني على مواجهة التهديدات مستقبلاً". 

وكانت الخدمة الإلزامية قبل إلغائها في عام 2011 بمثابة الحوض الذي ينهل منه الجيش الألماني، ويرفع من تعداد جنود الاحتياط. وما بين مجندين فاعلين وجنود احتياط يرى المفتش العام، أن ألمانيا ستكون بحاجة إلى 460 ألف جندي، ويشمل هذا العدد التقديري المجندين الفعليين، بالإضافة إلى مئات الآلاف من جنود الاحتياط الذين يمكن استدعاؤهم في حال الضرورة.

تسويق فكرة "الاستعداد للحرب"

أظهر "باروميتر السياسة" الذي تنظمه قناة ZDF، أن وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، هو الأكثر شعبية بين السياسيين الألمان وبفارق كبير، وبيستوريوس يشغل الصدارة منذ زمن طويل في الاستطلاعات المتتالية. 

ويعتبر هذا، مؤشراً على قبول المواطنين الألمان لفكرته القائمة على تجهيز الجيش الألماني ليكون "مستعداً للحرب"، إن فرضت عليه، والتي كان أعلنها قبل عام حيث كان وزيراً للدفاع في الحكومة السابقة أيضاً. والجيش الألماني ينظم معارض ويزور المدارس لتعريف الشباب بمهامه وما يقدمه لمنتسبيه من امتيازات. 

كما ساهم الإعلام في تسويق فكرة الحاجة إلى النهوض بالقدرات العسكرية للدفاع عن حرية البلد وحرية مواطنيه وأمنهم. لذا لم تثر أفكار بيستوريوس ولا أفكار ميرتس عن الجيش الأقوى ولا قرارات الاستثمار العسكري الضخم حفيظة المواطنين الألمان كما كانت ستفعل بالتأكيد قبل سنوات قليلة وتحديداً قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. وعندما افتتحت شركة "راينميتال" الألمانية المصنعة للسلاح مصنعاً جديداً لها في سكسونيا السفلى العام الماضي، توافد يضع مئات من المتظاهرين احتجاجاً، بينما كان هذا الرقم سيصل عشرات الآلاف في السابق.

سقف زمني 

المفتش العام للجيش الألماني، كارستن بروير، قال إن "كل خطط رفع قدرات الجيش الألماني والإصلاحات الهيكلية تضع لنفسها سقفاً زمنياً أقصى هو عام 2029"، مشيراً إلى أنه بحلول ذلك العام، "يتوجب أن يكون الجيش الألماني مستعداً لمواجهة أي تهديد". 

وتنطلق تصريحات المفتش العام للجيش الألماني من توفر إمكانيات روسيا لمهاجمة دول من حلف الناتو بحلول ذلك العام. يبني المفتش العام توقعاته على تحليلات عسكرية واستخباراتية انطلقت من عدد المجندين الروس الذي يقدر بمليون ونصف المليون حالياً مع القدرة على رفع العدد إلى 3 ملايين، فيما تنتج روسيا ما بين 1000 و1500 دبابة سنوياً، وهي تكدس الكثير منها حالياً دون استخدامه في حرب أوكرانيا، بالإضافة إلى ممارسة صنوف الحرب السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي والأعمال التخريبية ضد دول الناتو. 

ويقول بروير إنه يتوقع أن تبلغ روسيا القوة التي تريدها لمهاجمة دولٍ من حلف الناتو في فترة 4 إلى 7 سنوات، ولكنه يفضل أن ينطلق من أسوأ التقديرات وأن يكون جاهزاً بعد 4 سنوات. ويفترض أن عدم وقوع مثل هذا الهجوم وقتها وهي احتمالية قائمة سيكون له علاقة بالردع عبر الاستعداد والجاهزية.

*كاتب صحافي متخصص في الشؤون الألمانية ومدير مركز برلين للإعلام  

تصنيفات

قصص قد تهمك