
أثار اعتراف عضو لجنة السلم الأهلي في سوريا حسن صوفان بـ"الأمان" الذي منحه رئيس البلاد أحمد الشرع للقائد العسكري السابق بنظام الأسد والمعروف باسم "فادي صقر" موجة من الجدل في الشارع السوري، فبينما أكدت السلطات أن الرجل قدّم خدمات أسهمت في "حقن الدماء وإغلاق باب الفتن"، انتقد البعض "تساهلها وتهاونها مع شخصيات متورطة في فظائع وانتهاكات موثقة".
ومنذ سقوط الأسد وفراره إلى موسكو في 8 ديسمبر، ازدادت المطالبات بملاحقة رموز النظام ومحاكمتهم، إلا أن ظهور بعض الشخصيات التي كانت تتولى مناصب عسكرية وأمنية رفيعة وانخراط بعضها في أنشطة السلطات السورية الجديدة، على غرار تعاون "فادي صقر" مع لجنة السلم الأهلي، أدى إلى توجيه انتقادات شديدة، بدأت منذ ظهوره في حي التضامن جنوبي دمشق خلال فبراير الماضي، واستمرت على مدى أشهر حتى المؤتمر الصحافي الذي عقدته اللجنة، الثلاثاء، لتوضيح أنشطتها وتهدئة التوترات، إلا أنها بدلاً من ذلك، أشعلت شرارة غضب.
بدوره، نفى صقر مسؤوليته عن حدوث انتهاكات خلال سنوات الصراع، مشيراً في بيان لصحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أنه عُيّن قائداً لـ"الدفاع الوطني" بعد وقوع "مذبحة التضامن"، وأنه لم يحصل على أي عفو من الحكومة الحالية.
وأضاف: "كانت الدولة واضحة معي منذ البداية. لو كان لدى وزارة الداخلية أي دليل ضدي، لما كنت أعمل معهم اليوم. سأُخضع نفسي لما يقرره القضاء، وفقاً للإجراءات القانونية السليمة".
من هو فادي صقر؟
حتى العام 2011 لم يكن فادي مالك أحمد المعروف باسم "فادي صقر" شخصاً معروفاً في سوريا، إذ لم يسبق أن تسلّم منصباً أو عُرف عنه أي نشاط في المجال العام.
إلا أنه بعد انطلاق الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد، ومن ثم الدخول في مرحلة الصراع المسلح، بدأت السلطات بتشكيل جماعات مسلحة رديفة للقوات الحكومية، أبرزها "الدفاع الوطني"، كانت تتولى في الغالب تنفيذ مهمات ذات طابع عنيف لإرضاخ المناطق والبؤر الساخنة.
وهكذا كانت بداية صقر عام 2012 قائداً لقوات "الدفاع الوطني" في حي التضامن، وهو تجمع سكاني كبير يضم فلسطينيين، وسوريين معظمهم قدموا خلال العقود السابقة من محافظات أخرى للاستقرار في العاصمة، ثم تولى بعد ذلك قيادة "الدفاع الوطني" في دمشق.
ولد صقر في مدينة جبلة الساحلية عام 1975، ولعب خلال سنوات الأزمة السورية دوراً كبيراً في العمليات العسكرية لا سيما في العاصمة، إلى جانب انخراطه في أعمال تجارية مشبوهة، أفضت في مراحل لاحقة إلى فرض عقوبات دولية عليه مع شخصيات أخرى في النظام السابق.
أما لقب "صقر الدفاع الوطني"، فهو لقب أُطلق عليه بعد قيادته مهمات أمنية في حي التضامن، بما يُعبّر في نظر مجموعته المسلحة عن إمكانياته وبراعته في الميدان، وهو ما يراه آخرون تعبيراً عن "البطش والوحشية".
بدأ هذا الاسم يخرج إلى الضوء في إطار تقارير تتحدث عن انتهاكات بحق المدنين عام 2013، وتحديداً في حي التضامن الذي شهد معارك طاحنة بين فصائل تابعة للمعارضة السورية آنذاك، والقوات الحكومية، حيث استخدمت هذه الأخيرة القوة المفرطة، بما في ذلك الطائرات والصواريخ والبراميل المتفجرة، ودفعت بقوات الدفاع الوطني التي كان يقودها "فادي صقر" إلى تمشيط الحي والسيطرة عليه وتنفيذ مداهمات واعتقالات، ليرتبط اسمه بـ"فظائع وعمليات إعدام واسعة بحق مدنيين".
وفي أبريل 2020، كشف تحقيق نشرته مجلة New Lines الأميركية ثم تبعه تحقيق أكبر في صحيفة "الجارديان" البريطانية عن ارتكاب قوات الأسد مجزرة في حي التضامن خلال أبريل 2013، راح ضحيتها 288 شخصاً.
وأظهرت مقاطع فيديو مسربة صورها الجناة أنفسهم، كيف كانوا يسوقون مدنيين معصوبي الأعين نحو حفرة مليئة بالعجلات ثم يلقونهم فيها ويطلقون الرصاص عليهم، قبل دفنهم في ما يُمثل مقبرة جماعية.
وأثارت تلك المشاهد صدمة واسعة، وأعقبتها حملة تحقيقات وملاحقة للوصول إلى المتورطين في تلك المجزرة والذين عُرف بعضهم، مثل أمجد يوسف، وهو صف ضابط كان يخدم في الفرع "227"، لا يزال متوارياً عن الأنظار.
كما ورد اسم فادي صقر باعتباره مسؤولاً عن عمليات "الدفاع الوطني" في الحي خلال تلك الفترة، إلا أنه نفى ذلك في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز"، وزعم أنه تولى مهمته بعد تاريخ وقوع تلك "المجزرة".
وفي مراحل لاحقة، انخرط صقر في ملف المصالحات، عبر التوصل إلى تسويات مع فصائل في المعارضة السورية، ولا سيما في دمشق وريفها، والتي كانت تُفضي في أغلب الأحيان إلى تهجير المقاتلين مع عائلاتهم إلى الشمال السوري، أو بقاء البعض ضمن اتفاق معين.
عقوبات أميركية وأوروبية
بعد سنوات من نشاطه في عمليات "الدفاع الوطني" عاد اسم فادي صقر للظهور مجدداً في إطار أعمال تجارية "مشبوهة"، دفعت الولايات المتحدة ودولاً أوروبية إلى إدراجه في قائمة عقوباتها.
وفي أغسطس 2020، أدرجته واشنطن ضمن قائمة "SDN" الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، بموجب الأوامر التنفيذية المتعلقة بسوريا، وقالت وزارة الخارجية الأميركية حينها، إنها فرضت عقوبات على قيادات في وحدات عسكرية سورية بسبب تورطهم في أعمال العنف ومنع وقف إطلاق النار.
وفي أكتوبر 2022، نشر "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية السوري" و"البرنامج السوري للتطوير القانوني"، تحقيقاً يكشف علاقة شركات خاصة في سوريا، يملكها أفراد متورطون بانتهاكات حقوق الإنسان، بعقود مشتريات مع الأمم المتحدة خاصة بالمساعدات الإنسانية.
وبحسب التحقيق، تم دفع ما مجموعه 68 مليون دولار أميركي لشركات مملوكة جزئياً على الأقل لأفراد خضعوا لعقوبات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة في 2019 و2020، وهو ما يُشكل ربع العقود التي حصلت عليها الأمم المتحدة خلال هذين العامين.
ومن بين ما تم كشفه أن شركة "صقر الصحراء" ذات المسؤولية المحدودة المملوكة لفادي مالك أحمد المعروف باسم "فادي صقر"، وبلال محمد النعال، حصلت على عقود مع منظمة "اليونيسف" و"الأونروا" بمبلغ ناهز المليون دولار أميركي، آنذاك.
كما أشار التحقيق إلى أن صقر يتمتع بصلات وثيقة مع الرئيس السابق بشار الأسد.
ومنذ العام 2011، أصبحت سوريا واحدة من أكبر مُتلقي المساعدات الإنسانية في العالم، حيث تدفق أكثر من 40 مليار دولار من أموال المساعدات إلى البلاد، أكثر من نصفها عبر الأمم المتحدة.
جدل في الشارع السوري
مؤخراً ظهر صقر رفقة محافظ دمشق ماهر مروان ورئيس لجنة السلم الأهلي حسن صوفان في حي عش الورور بدمشق، أثناء تقديم العزاء في وفاة شبان تعرضوا للخطف ولقوا حتفهم بعد عودتهم من عملهم بأحد مطاعم العاصمة، ما أدى إلى استنكار البعض لظهوره المتكرر رفقة مسؤولين في الإدارة السورية الجديدة.
ومنذ ديسمبر الماضي يلعب صقر دور الوساطة بين السلطات السورية والمجتمع العلوي، خاصة في دمشق ومناطق الساحل السوري، حيث يتمتع بصلات واسعة بين العلويين، معتمداً على انتمائه للطائفة ذاتها من ناحية، إضافة إلى النفوذ الذي كان يتمتع به خلال حقبة النظام السابق من ناحية أخرى.
وأسهم صقر في الإفراج عن العديد من الجنود الذين تم احتجازهم بعد سقوط نظام الأسد.
وفي فبراير الماضي، أثارت زيارته إلى حي التضامن غضب السكان المحليين من فلسطينيين وسوريين، ما دفعهم للخروج باحتجاج والمطالبة باعتقاله ومحاسبته على "الجرائم" التي ارتكبها خلال السنوات الماضية، كما يقولون.
إلا أن السلطات السورية لم تتخذ أي إجراء ضده، بل استمر اسمه يتردد في مناسبات عدة على غرار الإفراج عن محتجزين أو الدخول في وساطات لتخفيف الاحتقان.
وجاء كشف عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان، وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا الشهير، عن أن فادي صقر يتمتع بحرية الحركة والنشاط في ضوء "الأمان" الذي منحه إياه الشرع، ليحسم الجدل بشأن هذا الرجل، لافتاً إلى الخدمات التي قدمها صقر وحظيت بتقدير الإدارة السورية.
وقال صوفان خلال المؤتمر الصحافي: "بالنسبة لموضوع فادي صقر. بغض النظر عن ثبوت انتهاكات من عدمه، تم إعطاؤه الأمان من قبل القيادة بدل توقيفه".
وأشار إلى أن الخطوة تمت بناء على تقدير للمشهد كونه أسهم في وقت سابق بحقن الدماء، سواء جنود الدولة (الجديدة) وكذلك المناطق الساخنة والحواضن المجتعية.
وتابع: "الحقيقة أنه (فادي صقر) قام بدور إيجابي، والقيادة مطلعة على ذلك، وأغلق أبواب فتن كبيرة، كانت ستكلف الدولة السورية والمواطنين من جميع المكونات تكاليف باهظة. نحن كلجنة سلم أهلي ملتزمون بالتعاون مع أية جهة تنطبق عليها مواصفات محددة".
واعتبر صوفان أن "العدالة الانتقالية لا تعني محاسبة كل من خدم النظام، بل المحاسبة هي لكبار المجرمين الذين نفذوا جرائم وانتهاكات جسيمة".
وأوضح أن "شخصيات مثل فادي صقر تلعب دوراً في تفكيك العقد، وحل المشكلات، ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.
وأضاف: "نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا مضطرون لاتخاذ قرارات تؤمّن استقراراً نسبياً في هذه المرحلة".
ورأى عضو لجنة السلم الأهلي أن "السلطان أو الحاكم أو الرئيس أو الأمير، كل هذه الأسماء التي تصف صاحب القرار والمسؤول (في سوريا)، من الناحية الشرعية، لديه الأحقية الاجتهادية في تقدير المشهد والبحث عن الأصلح للبلاد".
وبينما لم يُدلِ صوفان بتفاصيل بشأن طبيعة الخدمات التي قدمها صقر لفصائل المعارضة السورية خلال معركة "ردع العدوان" وأسهمت في إسقاط نظام الأسد، إلا أن بعض الأحاديث بدأت تنتشر حول اختراقه وضباط سابقين آخرين لصفوف القوات الحكومية التابعة لنظام الأسد.
وتشير هذه الروايات المتداولة على نطاق واسع أن صقر ساعد فصائل المعارضة عبر هذا الاختراق في تشتيت صفوف القوات الحكومية أو إقناع أفرادها بالعدول عن مواجهة المعارضة السورية حينها، وهو على ما يبدو، ما ترى الإدارة السورية الحالية أنه لعب دوراً في "عدم إراقة دماء السوريين" وإسقاط نظام الأسد بأقل الخسائر.
لكن في المقابل، ظهرت ردود فعل غاضبة في الشارع السوري، إذ كان أهالي ضحايا "مجزرة التضامن" وغيرهم من ضحايا أحداث العنف التي وقعت في دمشق خلال سنوات حكم الأسد، يأملون أن تتخذ السلطات الجديدة موقفاً حازماً ضد الشخصيات المتورطة بانتهاكات في عهد النظام السابق.
وبينما لم تكن طبيعة العلاقة بين صقر والإدارة السورية الحالية معروفة لدى الرأي العام حتى عقد لجنة السلم الأهلي مؤتمرها الصحافي الثلاثاء، تبدو الأمور اليوم، بالنسبة للبعض، أكثر وضوحاً في ما تعتبر أنه "تراخي من الحكومة في تطبيق العدالة".
وأعربت بعض عائلات الضحايا عن استنكارها وخرجت في اعتصام وسط دمشق، بل أن هناك من طالب خلال الاعتصام بالضغط على صقر، "إن لم يكن لمحاسبته، فعلى الأقل، للمساعدة في تحديد مواقع دفن المفقودين الذين تورط بقتلهم"، وفق قولهم، إذ يتواصل اكتشاف المقابر الجماعية في سوريا بين الحين والآخر في محافظة حماة وسط سوريا.
وتوالت ردود الأفعال من قبل منظمات حقوقية محلية على "الأمان" الذي منحته الإدارة السورية الجديدة لقائد قوات "الدفاع الوطني" بدمشق في عهد النظام السابق.
وأعربت لجنة العدالة الانتقالية والدفاع عن حقوق الإنسان في نقابة المحامين بحمص، عن رفضها الشديد لتصريحات صوفان بشأن صقر، معتبرةً أنها تُمثّل "استفزازاً لمشاعر الضحايا وذويهم".
بدورها، انتقدت منظمة "ملفات قيصر من أجل العدالة" ما وصفته بـ"محاولات إعادة تأهيل شخصيات متورطة بجرائم حرب في سوريا، ومنحهم أدواراً اجتماعية بارزة في المرحلة السياسية الجديدة"، وقالت إن "تغليب الاستقرار على المحاسبة يعيد إنتاج العنف ويقوّض فرص السلام المستدام".