
للوهلة الأولى تبدو العناصر المشاركة في العمليات العسكرية شرقي أوروبا واضحة ومعروفة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي، بيد أن المشهد يزداد ارتباكاً باتهامات متبادلة بين أطراف النزاع باستخدام قوات مرتزقة ميدانياً.
من جهة أخرى تنتشر عروض عمل مغرية على المواقع المتخصصة في الوظائف الأمنية، تستهدف وكلاء ذوي خلفية عسكرية لتقديم خدمات عن "مرتزقة بالتطوع".
وكشفت "الشرق" في تحقيق تلفزيوني خلال مارس الجاري بعنوان "تأمين وإجلاء في أوكرانيا مقابل آلاف الدولارات" نشاط موقع إلكتروني تابع لوزارة الخارجية الأوكرانية يقدم تسهيلات للراغبين في التطوع للقتال في أوكرانيا.
في المقابل تتحدث تقارير إعلامية عن سعي الجانب الروسي كذلك لاستقدام متطوعين للقتال من منطقة الشرق الأوسط تقدر أعدادهم بنحو 16 ألف متطوع، وسط تحذيرات من قبل مسؤولين أميركيين بشأن اعتماد روسيا على المرتزقة في الساحة الأوكرانية لتخطي المراحل المتعثرة من المواجهات.
وظيفة مغرية
خلال الأسابيع القليلة الماضية ارتفعت أسهم التطوع رسمياً في القتال لصالح أوكرانيا، إذ ترعاه الخارجية الأوكرانية في مواضع شتى حول العالم، كما تنشده روسيا من الكتلة الشرق أوسطية، غير أن النزاع الدائر أدى إلى ظهور عروض عمل أخرى ذات طابع خاص، تنشد الوصول لوكلاء من خلفيات عسكرية لأداء مهام ميدانية كتوفير الحماية لأفراد مقيمين في مُحيط أوكرانيا، أو إجلاء الأسر من محيط الريف والمدن.
المهمة وإن كانت مغرية إذ يُرصد لها أجر يومي يتراوح ما بين 1000 و2000 دولار أميركي إضافة للعلاوات إلا أنها تتطلب مهارات فريدة، فحسب عرض وظيفي مطروح على موقع silent professionals المتخصص في وظائف قطاع الخدمات الأمنية الخاصة، يُشترط أن يتمتع "الوكيل" بخبرة عسكرية تزيد على 5 سنوات، إضافة إلى خبرة في مجال حماية العملاء في القطاع الخاص.
ويعمل هؤلاء الوكلاء وفقاً لعرض العمل في إطار شركات أميركية تقع تحت مِظلة ما يُعرف بـ"الشركات العسكرية والأمنية الخاصة"، التي توفر خدماتها لعملاء من شتى أنحاء العالم، بيد أن ظهورها في موقع العمليات الأوكراني يثير مخاوف بشأن طبيعة العمليات التي تنفذها على أرض الواقع.
حروب القطاع الخاص
يعتبر مفهوم الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أكثر حداثة إذا قورن بمصطلحات أخرى كالمرتزقة أو الحرب بالوكالة، كما بات أكثر شعبية خلال العقود الماضية، بحسب الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي العام في مصر، إذ تُقدم الشركات مجموعة متنوعة من الخدمات للدول، والفاعلين الآخرين من غير الدول، كالشركات الخاصة والمنظمات الحكومية والدولية والإقليمية خلال النزاعات المُسلحة.
ويشير أستاذ القانون الدولي إلى أن وثيقة مونترو تُعرف تلك الشركات بأنها "كيانات تجارية تقدم خدمات عسكرية وأمنية بصرف النظر عن الطريقة، التي تصف بها نفسها".
وتشمل الخدمات العسكرية والأمنية بوجه خاص توفير الحراسة والحماية المسلحتين للأشخاص والممتلكات مثل القوافل والمباني والأماكن الأخرى، وصيانة نظم الأسلحة وتشغيلها واحتجاز السجناء وتقديم المشورة أو التدريب للقوات المحلية ولموظفي الأمن، وفقاً لسلامة.
غير أن ظهور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بات يثير تساؤلات عديدة، فيقول سلامة: "هناك العديد من التساؤلات بشأن المركز القانوني لهذه الشركات، وحقوقها والتزاماتها تجاه الجهات المتعاقدة معها، وقد لا تكون تلك الشركات أطرافاً في النزاعات، لكن يظل الموظفون والمتعاقدون معها ملزمين باتباع قواعد القانون الدولي الإنساني أثناء النزاع المسلح إذا كانوا أطرافاً فيه، أو يقومون بأعمالٍ مرتبطة به".
ويُضيف سلامة: "تعرف العالم على ما يُعرف بحروب القطاع الخاص، فتلجأ بعض الدول لخدمات مثل تلك الشركات في ضوء عملها بصيغة جديدة لتحقيق أهداف استراتيجية دون تكلفة قانونية أو ملاحقة تؤرق هذه الدول وتؤثر على سمعتها مهما بلغت فداحة الجرائم المرتكبة، ما يشكل بالضرورة تحدياً أمام الهيئات والمنظمات الدولية المعنية بتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني".
مقاتل ومدني
إشكالية أخرى تتعلق بموظفي الشركات العسكرية الخاصة الذين يعملون في إطار قانون خارج المحاكم العسكرية، فكما يبين أستاذ القانون الدولي يمكن لهؤلاء الأفراد كذلك التوقف عن العمل دون التعرض لعقوبات طبقاً لقانون العدالة العسكرية الموحد.
ويُضيف: "استخدام مرتزقة الشركات الخاصة لا يُعتبر أمراً يستحق اللوم في ذاته، خاصة مع وضعنا الحالي، لكنه يُصبح كذلك عندما يُشكل تهديداً لسيادة الدول واستقلالها".
في الوقت ذاته يبقى هناك تساؤل حول تصنيف هؤلاء الموظفين هل هم مدنيون أم مقاتلون؟ وهو أمر يحدده القانون الدولي، بحسب سلامة، وفقاً لطبيعة المهام التي يقومون بها، إذ يعتبرهم مدنيين ما لم ينضموا للقوات المسلحة لإحدى الدول أو يقوموا بمهام قتالية لصالح أحد أطراف النزاع، ومن ثم لا يمكن استهدافهم ويتمتعون بالحماية.
ويُضيف سلامة: "اعتبار موظفي تلك الشركات جزءاً من القوات المسلحة للدولة المتعاقدة يتطلب علاقة انتماء واندماج بين الموظفين والدولة".
ورغم ذلك تذهب بعض الآراء إلى أن العقد المبرم بين الشركة والدولة المتعاقدة يجعل الشركة مسؤولة قبل هذه الدولة وفقاً لإطار الفقرة الأولى من المادة 43 من "البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جينيف"، غير أن سلامة لا يُرجح ذلك الرأي فيقول: "نحن نميل إلى الرأي الأول الذي لا يأخذ بالعقد کدلیل مقضي به، وذلك لأن العلاقة الفعلية القائمة بين الشركات والدولة قد لا تكون مثبتة بالعقد المبرم بينهما".
اتهامات روسية
على الساحة الدولية، اتهم الجانب الروسي الغرب بإمداد أوكرانيا بالمرتزقة في تصريحات أوائل مارس الجاري على لسان المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيجور كوناشينكوف الذي أكد أن أياً من هؤلاء لن يتمتع بحقوق المقاتلين تحت مِظلة القانون الإنساني الدولي أو يُعتبر أسير حرب.
واتهم مرتزقة يعملون لصالح أوكرانيا بتنفيذ أعمال تخريبية في أوكرانيا مستعينين بسلاح قدمه الغرب، بالإضافة إلى مهاجمتهم الجيش الروسي وقوافل إمداده وطائرات الدعم.
كما اتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا دول "الناتو" بالتورّط في جرائم حرب عندما أتاحت سلطاتها إرسال المرتزقة إلى أوكرانيا.
متاعب دبلوماسية
وفي القارة الإفريقية تتعرض أوكرانيا لمتاعب دبلوماسية بعد أنباء عن فتح باب التسجيل للتطوع في السفارات الأوكرانية بعدد من الدول الإفريقية للقتال، الأمر الذي استدعى ردود فعل دبلوماسية.
وأصدرت وزارة الخارجية النيجيرية بياناً، الإثنين، قالت فيه إنها تواصلت مع السفارة الأوكرانية للوقوف على حقيقة الأمر، مؤكدة إقدام بعض المواطنين النيجيريين على زيارة السفارة للتعبير عن رغبتهم في القتال.
وأضافت الوزارة النيجيرية: "كعضو مسؤول في المجتمع الدولي، واتساقاً مع مسؤوليتنا تحت مِظلة القانون الدولي، لا تُشجع نيجيريا استخدام المرتزقة في أي مكان في العالم، ولن تتسامح مع تجنيد النيجيريين كمرتزقة للقتال في أوكرانيا أو أي مكان آخر في العالم".
مخاوف غربية
بدورها، تعبر أوكرانيا عن مخاوف بشأن وجود مرتزقة روس في المشهد الميداني، حيث نشرت الصفحة الرسمية للمديرية الرئيسية للاستخبارات بوزارة الدفاع الأوكرانية، صورة لقلادة تُرجح تبعيتها لأحد أفراد مرتزقة "فاجنر"، الذين قاتلوا في الميدان، وتظهر على القلادة كتابات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، تُقرأ بعض سطورها: "رجاء قدم المُساعدة وأعلمنا"، بالإضافة إلى أرقام هواتف.
وجاء في المنشور الأوكراني أن مرتزقة "فاجنر" الروسية تقوم بأعمال عدائية مع الجيش المعتدي على الأراضي الأوكرانية، مع زعم بأن القلادة التي عثر عليها صُنعت خصيصاً من أجل المواجهات في الحرب السورية.
وتعتبر مجموعة "فاجنر" من بين أبرز كيانات المرتزقة، ويعتقد أن المجموعة ترتبط بالأجهزة الأمنية الروسية، وهو ما تنفيه تلك الجهات، فوفقاً لتقرير نُشر العام الماضي في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية ظهرت المجموعة في عام 2014، وساهمت في عملية ضم الجيش الروسي لشبه جزيرة القرم، كما كان لها دور في نزاعات أخرى بمنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية مثل ليبيا وسوريا والسودان ومدغشقر وموزمبيق وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وكان مسؤول أميركي قال لشبكة "سي إن إن"، مطلع مارس الجاري، إن روسيا تستعد لنشر 1000 من المرتزقة في منطقة النزاع في المستقبل القريب، مضيفاً أن تلك القوات ستعمل على تحصين الوحدات المتعثرة، الأمر الذي تأكد لاحقاً، عندما أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الضوء الأخضر لاستقدام 16 ألف محارب من الشرق الأوسط للقتال.
ووصف وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو هؤلاء المتطوعين قائلاً: "نعرف الكثير منهم، فقد ساعدوا في مواجهة داعش في العراق وسوريا على مدار الأعوام الـ10 الماضية وفي الأوقات الأكثر صعوبة".
حطام الحرب
ويرى أستاذ العلاقات الدولية والسياسية بجامعة باريس، خطار أبو دياب، أن التطورات المتعلقة باستخدام المرتزقة في القتال تمثل كارثة حقيقية وصعوداً لمفهوم "خصخصة الحروب" خصوصاً لظهور مجموعات المرتزقة في غير ساحة نزاع خلال السنوات الماضية، من بينها الساحة الليبية وإفريقيا الوسطى ومالي وغيرها.
ويُضيف: "بالطبع يمكن أن يؤدي استخدام المرتزقة لتفاقم الأوضاع، وسيتحولون بالنهاية إلى حطام الحرب".
أما عن التصريحات الروسية المتعلقة باستخدام المقاتلين من منطقة الشرق الأوسط، فيعلق عليها أستاذ العلاقات الدولية قائلاً: "روسيا تقول إن هناك عناصر من الشرق الأوسط قادمين للقتال وتتعامل مع سوريا وكأنها امتدادها الطبيعي، وبرأيي قد تكون العناصر المجلوبة من قبل الجانب الأوكراني أداة للمقاومة، بينما تشكل العناصر من الجهة الروسية أداة لتوطين النفوذ".
وعلى الرغم من الكفاءة والفعالية المرتبطة بالأداء الميداني للجيوش النظامية، يرى أبو دياب أن وجود المرتزقة قد يستخدم لإنجاز بعض المهام الخاصة.
ويقول: "بالطبع للجيش النظامي اليد العليا في ساحة القتال، لكن من الممكن استخدام المرتزقة في بعض المهام الخاصة كالتغذية الأيديولوجية واقتحام المدن، وكذلك تنفيذ بعض الجرائم البشعة، فيما تتحجج الدول لاحقاً بصعوبة السيطرة عليهم".
ويختتم أبو دياب حديثة بالقول: "هناك عناوين كثيرة للمشهد، لكننا بوجه عام نعيش مرحلة بشعة وعودة للوراء على الساحة الأوروبية".
اقرأ أيضاً: