
مع اقتراب موعد الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، المرتقبة في 10 أبريل المقبل، يحتدم السجال بين المرشحين، في ملفات داخلية وخارجية، رغم أن كل المؤشرات توحي بأن الرئيس الوسطي، إيمانويل ماكرون، يتّجه إلى الفوز بولاية ثانية.
ماكرون، الذي شكّل فوزه في انتخابات 2017 مفاجأة عكست تأزماً لدى اليمين واليسار التقليديين، يتكّئ على غياب منافسة جدية داخلياً، كما أن الغزو الروسي لأوكرانيا عزّز مكانته بوصفه أحد زعماء المعسكر المناهض للرئيس فلاديمير بوتين في أوروبا، علماً أن فرنسا تتولّى حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
وأقرّ "المجلس الدستوري" الفرنسي مشاركة 12 مرشحاً في الدورة الأولى، بعد حصولهم على تأييد 500 مسؤول منتخب في 30 مقاطعة فرنسية على الأقلّ، علماً أن 60 شخصاً سجّلوا أسماءهم لخوض السباق.
والمرشحون هم: ماكرون من حزب "الجمهورية إلى الأمام" الوسطي، وفاليري بيكريس من حزب "الجمهوريون" اليميني، ومارين لوبان من حزب "التجمّع الوطني" اليميني المتطرف، وإريك زمور من حزب "الاستعادة" Reconquête اليميني المتطرف، ونيكولا دوبون آينيان من حزب "انهضي يا فرنسا" اليميني، وآن هيدالجو من "الحزب الاشتراكي"، ويانيك جادو من "حزب الخضر"، وجان لوك ميلانشون من حزب "فرنسا الأبيّة" اليساري المتطرف، وفابيان روسيل من "الحزب الشيوعي الفرنسي"، وجان لاسال من حزب "قاوم!" اليساري المتطرف، وناتالي أرتو من حزب "النضال العمالي" اليساري المتطرف، وفيليب بوتو من "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية" اليساري المتطرف.
"مانيفستو" ماكرون
تتمحور أبرز ملفات الانتخابات حول العمل وتكلفة المعيشة، والبيئة والهجرة والأمن. وأعلن ماكرون أخيراً، رؤيته للسنوات الخمس المقبلة، وتضمّنت اقتراحات لتعزيز الاقتصاد ومكافحة عدم المساواة، وتحسين تفاعل فرنسا مع الأزمات العالمية، متعهداً بالمضيّ في إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، الذي سيرفع "تدريجاً" سنّ التقاعد من 62 إلى 65.
وأضاف الرئيس الفرنسي أن تعزيز النموّ يجب أن يحدث من خلال "زيادة الاستثمار" و"العمل أكثر"، متعهداً بتحقيق "توظيف كامل"، علماً أن معدل البطالة بلغ أخيراً 7،4%، مقارنة بأكثر من 10% عندما تولّى ماكرون الحكم. كذلك وعد الأخير بمواصلة تحديث الجيش الفرنسي، ومكافحة التفاوت في المدارس وقطاع الرعاية الصحية.
ووجّه مرشحون آخرون انتقادات لماكرون، نتيجة رفضه المشاركة في أيّ مناظرة متلفزة، قبل التصويت في الدورة الأولى، واتهموه بالتركيز على ملف أوكرانيا لتجنّب مسائل محلية قد تكون أكثر صعوبة بالنسبة إليه.
واعتبرت لوبان (رئيسة حزب "التجمّع الوطني") أن ماكرون "يستغلّ الحرب في أوكرانيا لتخويف الفرنسيين، إذ يعتقد أن ذلك يمكن أن يفيده"، فيما حضّت فاليري بيكريس (من حزب "الجمهوريون" اليميني) الناخبين على "ألا يخشوا تغيير القبطان في 11 أبريل". لكن معسكر ماكرون يرى أن الوضع في أوكرانيا ينطوي على ملفات محلية أساسية تُناقَش خلال الحملة الانتخابية، مثل سياسات الطاقة والدفاع.
ولفت برنارد سانان، رئيس معهد "إيلاب" لاستطلاعات الرأي، إلى أن "الوضع الدولي يعزّز مكانة" الرئيس، مضيفاً أن ثمة "انطباعاً بأن ماكرون في عام 2017 انتُخب بناءً على وعد بالتجديد (السياسي)، وأن ماكرون في عام 2022 يريد انتخابه على أساس وعد (امتلاكه) الخبرة".
"خطة مارشال"
صحيفة "فاينانشال تايمز" اعتبرت أن ماكرون "يقامر بسجّله الاقتصادي، للفوز بولاية ثانية"، مضيفة أن "استكماله العمل الذي بدأه لإصلاح الاقتصاد الفرنسي"، سيمكّنه من "تحويل الخيال إلى حقيقة". وتابعت أن "خصوم ماكرون يركزون على (ارتفاع معدلات) الجريمة وما يقولون إنها هجرة غير منضبطة، وكذلك على الزيادات الأخيرة في تكلفة المعيشة، فيما يعتقد حلفاؤه أن سجله الاقتصادي هو أحد أقوى الأوراق التي يجب أن يغتنمها في سعيه لإعادة انتخابه".
وأشارت الصحيفة إلى أن إصلاحات ماكرون، التي بدأت قبل اندلاع احتجاجات "السترات الصفر" المناهضة للحكومة في عام 2018، سهّلت توظيف العمال وطردهم، وخفضت الضرائب على رأس المال والدخل للشركات والأسر، وقلّصت إعانات البطالة.
لكن بيكريس اتهمت ماكرون بـ"تدمير" فرنسا، التي ترزح تحت وطأة دين عام قارب 116% من الناتج المحلي الإجمالي، في عام 2021.
خلال الحملة الانتخابية لعام 2017، وعد ماكرون بتنفيذ "خطة مارشال لإعادة تعزيز المناطق التي انهار فيها الاقتصاد". وعاد أخيراً إلى مناطق صناعية شمالي البلاد، تعاني ارتفاعاً في معدلات البطالة والفقر، معلناً مبادرات تؤمّن توظيفاً، بما في ذلك افتتاح شركة فرنسية ناشئة "مصنعاً ضخماً" للبطاريات الكهربائية، بحسب "فايننشال تايمز".
"رئيس الأثرياء"
هل نجحت السياسات التي أوصلت ماكرون إلى الرئاسة قبل 5 سنوات؟ أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن الرئيس الوسطي أغرى الناخبين الفرنسيين في عام 2017، من خلال تعهده بانتهاج سياسات جديدة، وتمكّن آنذاك من نيل دعم من يسار الوسط ويمين الوسط.
وإذ أشارت إلى أن "منتقدين يقولون إن سياساته تهدّد دولة الرفاهية" في فرنسا، نقلت عن الرئيس قوله أخيراً: "نادراً ما واجهت فرنسا مثل هذا التراكم من الأزمات"، معدّداً هجمات إرهابية شهدتها البلاد وفيروس كورونا المستجد والحرب في أوكرانيا.
وأشارت الوكالة إلى أن كورونا أرغم ماكرون على تأخير إصلاحات اقتصادية، بما في ذلك نظام المعاشات التقاعدية. لكن الرئيس الفرنسي اعتبر أن الإصلاحات التي نفذها أتاحت لقطاع الصناعة "خلق فرص عمل مرة أخرى للمرة الأولى"، لافتاً إلى أن "البطالة بلغت أدنى مستوى لها منذ 15 سنة". وأضاف: "أنا مرشح لمواصلة إعداد مستقبل أبنائنا وأحفادنا"، علماً أن اليسار يتهمه بأنه "رئيس للأثرياء"، لا سيّما بعد إلغائه ضريبة الثروة، فيما اتهمه ساسة من اليمين واليمين المتطرف بالسماح بتفشّي الجريمة والفشل في كبح تدفق المهاجرين، الشرعيين وغير الشرعيين.
لوبان وزمّور
رجّح موقع "بوليتيكو" أن ينال ماكرون 29% من الأصوات في الدورة الأولى، في مقابل 19 للوبان و13 لميلانشون و11 لبيكريس وزمّور. وفي الدورة الثانية، المرتقبة في 24 أبريل، توقع الموقع أن يهزم ماكرون لوبان (58% في مقابل 42%)، وبيكريس (64% في مقابل 36%)، وزمّور (66% في مقابل 34%).
تعوّل لوبان (53 سنة) دوماً على ملفَّي الهجرة والأمن، واقترحت إنهاء التجنيس عبر الزواج والمواطنة التلقائية للأشخاص المولودين على الأراضي الفرنسية. لكنها تخلّت عن فكرة إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، أو منطقتَي "شنغن" واليورو، علماً أنها تسعى إلى النأي عن صورة التطرف التي التصقت بوالدها، جان ماري لوبان، الذي أسّس الحزب الذي ترأسه.
لوبان اليمينية المتطرفة، باتت تواجه مرشّحاً أكثر يمينية منها، هو إريك زمّور الذي نجح في استمالة ابنة شقيقة رئيسة حزب "التجمّع الوطني"، ماريون ماريشال.
زمّور (63 سنة) هو كاتب مثير للجدل ومحلّل تلفزيوني، عُرف باستفزازاته في مسائل الإسلام والهجرة والنساء، وأُدين في عام 2011 بالتحريض على التمييز العنصري، وفي عام 2018 بالتحريض على كراهية المسلمين.
ويرى زمّور تراجعاً جيوسياسياً واقتصادياً في فرنسا، يحمّل الهجرة مسؤوليته، فضلاً عن "أسلمة" المجتمع و"تأنيثه".
بيكريس وميلانشون
أما بيكريس التي هزمت مرشّحين بارزين في حزب "الجمهوريون"، لتصبح أول مرشّح له في انتخابات الرئاسة، فهي رئيسة منطقة "إيل دو فرانس"، حيث تقع باريس، ووزيرة سابقة للتعليم العالي والموازنة.
وتعهدت بمراجعة خطط إغلاق المفاعلات النووية، مقترحة فرض ضريبة على الكربون ورفع الأجور وإصلاح أنظمة البطالة ومعاشات التقاعد، وخفض الدين العام.
تُعتبر بيكريس محافظة اجتماعياً، علماً أنها وصفت نفسها بأنها "أنجيلا ميركل بنسبة الثلثين ومارغريت تاتشر بنسبة الثلث"، في إشارة إلى المستشارة الألمانية السابقة ورئيسة الوزراء البريطانية الراحلة.
ميلانشون (70 سنة) اليساري المتطرف حلّ رابعاً في انتخابات الرئاسة عام 2017، بنيله نحو 20% من الأصوات في الدورة الأولى. وتمحورت اقتراحاته حول الملفات الاجتماعية وتكاليف المعيشة، وأعلن أنه يخطّط لإصدار "قانون طوارئ اجتماعية"، يتيح تجميد أسعار الضروريات الأساسية، بما في ذلك الوقود والغاز والكهرباء وبعض المواد الغذائية.
كذلك يريد زيادة الحدّ الأدنى للأجور، وتقصير أسبوع العمل، وخفض سنّ التقاعد من 62 إلى 60، وضمان وظائف للجميع وإلغاء ديون القطاع العام، وإلغاء خصخصة البنية التحتية، وزيادة الضرائب على الأغنياء، ناهيك عن الانسحاب من حلف شمال الأطلسي (ناتو).
معضلة الهجرة
كما في كل مفصل انتخابي، يبرز ملف الهجرة بوصفه أحد محاور الجدل السياسي والاتهامات المتبادلة بين المرشحين. وأفادت "أسوشيتد برس" بأن المرشحين المحافظين واليمينيين المتطرفين انتقدوا "تقاعس" ماكرون بشأن وقف الهجرة، ما دفع الأخير إلى التحرّك في هذا الصدد، من خلال الضغط لتعزيز الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، من أجل كبح دخول مهاجرين غير قانونيين. وشدد على وجوب أن "نحرس حدودنا الخارجية ونراقب مَن يدخلها"، لافتاً إلى ضرورة مناقشة سياسات الهجرة في إطار هيئة سياسية محددة.
ويواجه ماكرون خطاباً يمينياً متشدداً في هذا الصدد، إذ إن زمّور وبيكريس حذرا من نظرية "الاستبدال العظيم"، وتنصّ على إبدال سكان، معظمهم بيض وكاثوليك فرنسيون، بمهاجرين غير بيض آتين من إفريقيا والشرق الأوسط، ويُعتبر "تهديداً مسلماً به" إلى حد كبير في فرنسا، علماً أن مارين لوبان رفضت تبنّي هذه النظرية، بحسب موقع "أوبن ديموكراسي".
وأشار إلى نزوع الأحزاب في فرنسا خلال العقود الأربعة الماضية، يميناً في ما يتعلّق بمسائل الهجرة والتعددية الثقافية والإسلام. وذكّر بأن الحكومة الفرنسية أصدرت، في عام 2021، قانوناً لمكافحة ما تسمّيه "الانفصالية الإسلامية" وأيديولوجيا تعتبرها "عدوّة للجمهورية".
واقترح زمّور إنشاء وزارة "تعيد مليون" مهاجر أجنبي مقيمين في فرنسا، خلال 5 سنوات، والتخلّص من "المهاجرين غير الشرعيين، والمنحرفين والمجرمين الأجانب، والأجانب" المدرجين على سجلات الشرطة.
في المقابل، رفض ميلانشون "إساءة معاملة" المهاجرين، فيما شددت آن هيدالغو، مرشحة "الحزب الاشتراكي"، على أن "العمال أساسيون بالنسبة إلى اقتصادنا".
النظام السياسي الفرنسي
تكرّس انتخابات 2022 تهميش التيارين التقليديين لليمين واليسار، بعدما شكّل فوز ماكرون في انتخابات 2017 "ضربة كبرى" لهما، إذ فشلا للمرة الأولى في إيصال مرشحَيهما إلى الدورة الثانية من الاقتراع.
نصر ماكرون آنذاك، أنهى نظام الحزبين في فرنسا. وبعدما هيمن "الحزب الاشتراكي" على اليسار الفرنسي، بات الأخير الآن مزيجاً من الاشتراكيين والخضر واليسار المتطرف، ناهيك عن أحزاب يسارية راديكالية.
أرست الجمهورية الخامسة، التي أُقرّت خلال عهد الرئيس شارل ديغول في عام 1958، نظاماً سياسياً هجيناً، يجمع الرئاسي والبرلماني. ويقود الرئيس الفرنسي الدولة، ويعيّن رئيس الحكومة، وهي الهيئة الأساسية لصنع القرار في فرنسا وتشرف على تطوير السياسات. وليست لدى الرئيس سلطة إقالة رئيس الوزراء، لكن يمكنه أن يطلب منه تقديم استقالته.
ويتألّف البرلمان الفرنسي من مجلسين: الجمعية الوطنية التي تضمّ 577 نائباً منتخباً، ومجلس الشيوخ الذي يضمّ 348 عضواً تنتخبهم هيئة من النواب.
تعتمد فرنسا نظاماً انتخابياً لا يستخدم التمثيل النسبي، فيما يُنتخب الرئيس والنواب بنظام الدورتين. وتُنظم دورة ثانية إن لم يفز أيّ مرشح بما لا يقلّ عن 50% من الأصوات في الدورة الأولى. وفي انتخابات الرئاسة، يخوض المرشحان اللذان يحلان في المرتبتين الأولى والثانية في الدورة الأولى، الدورة الثانية الحاسمة.
ويخضع رئيس الجمهورية للمساءلة أمام الشعب، فيما تخضع الحكومة للمساءلة أمام البرلمان.
انتُخب ماكرون بنسبة 66.1% من الأصوات في عام 2017، وترجّح مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية فوزه الشهر المقبل بنسبة 97%، مشيرة إلى أن منافسيه "يكافحون لإيجاد النبرة المناسبة لانتقاد قيادته".
اقرأ أيضاً: