
بعد عام وشهرين من إقصائه من ملف التحقيق في قضية انفجار "مرفأ بيروت"، استأنف المحقق العدلي طارق بيطار عمله في القضية، استناداً إلى اجتهاد قانوني بأن المحقق العدلي "لا يحتاج إلى إذن لملاحقة المدعى عليهم، كونه أساساً مفوضاً للقيام بهذه المهمة".
عودة بيطار وما تبعها من هزّات قضائية ارتدادية، كان لها وقعها على التحقيقات في انفجار المرفأ، ورسخت شكوكاً بشأن قدرة التحقيقات على الوصول إلى تفاصيل ما حدث، وكذلك محاسبة المسؤولين عن الحادث الذي أودى بحياة المئات، ودمر مساحات كبيرة من العاصمة اللبنانية في أغسطس 2020.
بيطار ، في أعقاب استئناف عمله بالقضية، ادعى على مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، والقاضي غسان خوري، بالاضافة إلى 8 مسؤولين آخرين، من بينهم المدير العام للأمن العام عباس ابراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، وآخرين، مطالباً النيابة العامة التمييزية بملاحقتهم، ما أفقد الساعين إلى تعطيل التحقيق بتفجير المرفأ توازنهم.
بدوره، سارع النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات المدعى عليه أيضاً في القضية، إلى هجمة مرتدة على القاضي طارق بيطار وتجريده من صلاحياته في القضية، بدءاً من منع الأجهزة الأمنية من تنفيذ قراراته بالادعاء والاستدعاء وإخلاء السبيل، مروراً بإطلاق جميع الموقوفين على ذمة التحقيق العدلية والادعاء على بيطار وطلب منعه من السفر، وصولاً إلى منع أي من موظفي النيابة العامة التمييزية استلام "أي ورقة" من المحقق العدلي، وإحالة نسخة من ادعائه عليه إلى هيئة التفتيش القضائي "لإجراء المقتضى".
شكوك في قانونية الإجراءات
بين قاض مكفوف اليد عن ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وآخر تنحى عن الملف، تطل "هشاشة النظام القضائي في لبنان"، حسبما قال رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، في تصريح لـ"الشرق"، معتبراً أن ما حدث "خطير جداً على العدلية، والعدالة"، ولافتاً إلى أن "الأمور لا يجب أن تصل إلى هذا المكان".
صادر تساءل "كيف يمكننا أن نتكلم بالقانون في وقت كل ما يجري غير قانوني؟". ولفت إلى أن "الحكم على قانونية قرارات القاضي بيطار يبت بها المجلس العدلي في المرحلة اللاحقة، لأن قرارات المحقق العدلي لا تقبل أي طريقة من طرق الطعن، وبالتالي أمام المجلس يمكن طرق مسألة عدم قانونية الإجراءات التي يكون قد قام بها"، مؤكداً "أنه لا يحق للنائب العام التمييزي أن يحل محل قاضي الحكم، فكيف إن كان متنحٍ أصلاً عن الملف؟".
تراشق سياسي ومطالب بالتدويل
التطورات القضائية التي صاحبت عودة بيطار إلى التحقيق، تبعها تراشق سياسي وإعلامي تجاه القاضي، الذي يعارضه "حزب الله" بشدة ويتهمه بالانحياز، ويقول إن "تحقيقاته مسيّسة".
وفي شأن موقف "حزب الله" مما جرى، قال مصدر مقرب من الحزب إن "هذا شأن قضائي نفضل عدم التدخل به"، إلاّ أن مصادر أخرى مقربة من الحزب، أيّدت القرارات التي اتخذها عويدات، واصفة إياها بأنها "خطوة في الطريق الصحيح لاستعادة الثقة بالقضاة والقضاء بعدما هدمها بعض أبناء البيت القضائي".
قضية التحقيق بانفجار "مرفأ بيروت"، تعد امتداداً طبيعياً للواقع المتأزم التي تعيشه بلاد تقف على وشك الانهيار التام، إذ اعتبر نقيب المحامين السابق النائب ملحم خلف (من داخل البرلمان اللبناني حيث يعتصم احتجاجاً على عدم انتخاب رئيس للجمهورية منذ أكثر من أسبوع)، في تصريحات لـ"الشرق"، أن "الخلل القضائي" في قضية المرفأ، "ناتج عن قرارات متضاربة".
وأشار إلى أن "المجلس العدلي هو الوحيد القادر على إزالة هذه الإعاقة، وتسهّيل سير التحقيق"، لكن خلف قال أيضاً إنه "أمام هذا التفلت من القوانين أصحبت القصة قصة استعراض نفوذ أكثر مما هي تحقيق مدروس وبنّاء"، لافتاً إلى أنه "شرح حلول الأزمة" من مهام وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى.
المحامي مازن حطيط الذي تابع أكثر من "محطة انقضاض" على تحقيق المحقق العدلي طارق بيطار ، وكان أبرزها عندما حاول جاهداً القاضي حبيب مزهر الإطاحة ب بيطار ، وصف ما يجري بأنه "انقلاب خطير على التحقيقات في ملف انفجار المرفأ ولا سيما بعد إطلاق سراح كل الموقوفين، والادعاء على المحقق العدلي القاضي طارق بيطار ، وصولاً إلى إحالته إلى التفتيش بعد تعذّر انعقاد مجلس القضاء الأعلى".
واعتبر حطيط أن "الاستمرار بهذا الانقلاب، وعدم التراجع عنه سيستوجب العمل الجدي والحثيث للمطالبة بتدويل ملف المرفأ"، والمطالبة بلجنة أممية أو أوروبية لتقصي الحقائق، و"هو ما كنّا نسعى إلى تجنّبه منذ البداية"، وفق تعبيره.
سابقة قانونية
المدعي العام التمييزي غسان عويدات كان رفض تولي التحقيق في ملف الانفجار بسبب وجود علاقة قرابة بينه وبين النائب غازي زعيتر الذي يواجه ملاحقة قضائية في الملف، وتنحى عن الملف ليعود بشكل مفاجئ رداً على عودة بيطار إلى التحقيق. أمّا الأخير فرفض المثول أمام عويدات، مؤكداً ألا صلاحية له للادعاء عليه.
وفي هذا الشأن، قال رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، إن القاضي عويدات "نسي أنه رفض تولي التحقيق في القضية، والآن يريد أن يستحوذ على الملف. هذه سابقة في تاريخ السلطة القضائية على المستوى العالمي".
واعتبرت المحامية ديالا شحادة أن ما يقوم به عويدات "هرطقة"، متسائلة "كيف يعود إلى الملف بعد أن كان تنحّى عنه ويخلي سبيل جميع الموقوفين؟"، واصفة ما قام به النائب العام التمييزي، بأن "هدفه إقفال ملف المرفأ لتضيع المسؤوليات".
وأضافت شحادة: "في خضم هذه المعركة وإطلاق الموقوفين على ذمة القضية، أطلق سراح اللبناني الذي يحمل الجنسية الأميركية محمد زياد العوف وسافر فوراً"، وتساءلت: "كيف سمح الأمن العام بسفره والقرار الذي أصدره عويدات يتضمّن منع سفر للجميع؟".
لكن ديالا شحادة، قلت من أهمية قرار عويدات بإحالة بيطار إلى التفتيش القضائي، مؤكدة أن "ذلك لا يعيق عمله القضائي".
أصابت قرارات النائب العام التمييزي بالإفراج عن الموقوفين، أهالي ضحايا المرفأ، وأشارت رئيسة جمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت ماريانا فاضوليان إلى أن "الملف هو جناية ويشكل جريمة تجاه الشعب".
وأبدت الناشطة، حزنها البالغ للتعطيل الذي أصاب عمل المحقق طارق بيطار ، وما وصفته بـ"محاولات السلطة المتكررة لإعاقة العدالة وجلاء الحقيقة في جريمة كهذه"، معتبرة أن كل الممارسات بدءاً من إعاقة التحقيق إلى منع استجواب الشخصيات السياسية والأمنية، وصولاً إلى إخلاء سبيل الموقوفين تشير إلى "نوايا سيئة تجاه التحقيق لطمس الحقيقة".
وتشدد فاضوليان على أنهم كأهالي لضحايا انفجار المرفأ "لن يسمحوا بهدر حق أبنائهم، وقتلهم مرة ثانية".
نتيجة ما بلغه الجسم القضائي من تخبط وانقسام بين أعضائه، برز إعلان مجلس نقابة المحامين، عدم الثقة بقسم من القضاء "لم يعد يثق في نفسه، ويتهجم على بعضه البعض"، واصفاً في هذا السياق ما حصل في ملف التحقيق العدلي في قضية انفجار أغسطس 2020، جراء القرارات التي اتخذها النائب العام التمييزي بأنه "قتل للضحايا في قبورهم".
واعتبر نادي قضاة لبنان أن التحقيق في قضية انفجار المرفأ "يفضح مرة جديدة تدخل السياسة في القضاء، الأمر الذي بات يهدّد كيان العدالة ويطعن في كرامة كل قاضٍ نزيه من خلال تحميله وزر قرارات قضائية تفتقر لأدنى مقومات الشرعية، إذ أن قرار المحقق العدلي، مهما كانت الملاحظات القانونية عليه والتي يمكن معالجتها وفق الأصول، لا يبرّر ردة الفعل التي تبعته والتي جاءت للأسف خارجة عن الضوابط والأصول بشكل صارخ يهدم أساسات العدالة والقانون".
اقرأ أيضاً: