
على الرغم من فوزه بدورة رئاسية جديدة في معركة انتخابية محتدمة، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة.
وكان أردوغان وعد خلال حملته الانتخابية بإصلاحات بكافة المجالات، وخاصة تلك التي تتعلق بتحقيق الرفاه للمواطن التركي، وخفض نسبة التضخم في تركيا، والتي تجاوزت 43%.
وأنهى أردوغان الجزء الأكبر من عملية إعادة تشكيل الحكومة الجديدة التي تضمنت في تركيبتها شخصيات بارزة، ووقع الاختيار على "محمد شيمشك" لتولي وزارة الخزانة والمالية.
وشيمشك خريج قسم الاقتصاد من كلية العلوم السياسة بجامعة أنقرة عام 1988، نال درجة الماجستير في مجال المالية والاقتصاد من جامعة إكستر البريطانية عام 1993، سبق أن تولى منصب وزير الدولة لشؤون الخزانة قبل أن يتم تعيينه وزيراً للمالية في 2009، كما تولى منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية.
التضخم والبطالة
وزير المالية المعاد تعيينه ضمن الهيكلية الجديدة للحكومة وفي أول كلمة له عقب تسلمه منصبه من نور الدين النباتي، قال إن أولوية الحكومة التركية ستكون ضمان الاستقرار المالي من خلال تدعيم القدرة على مواجهة التحديات العالمية، مشيراً إلى أن الشفافية والامتثال للمعايير الدولية، ستكون المبادئ الرئيسية لتحقيق هدف رفع مستوى الرفاهية الاجتماعية.
وتحدث شيمشك عن برنامج متوسط المدى، وآخر على مدى 5 سنوات لتحقيق الأهداف الاقتصادية، كانت الحكومة قد أعلنته سابقاً تحت اسم "خطة العمل الاقتصادي" يهدف إلى تحقيق النمو المستدام من خلال زيادة التوظيف لخفض معدلات البطالة التي تتجاوز الآن 10% إلى 7%، وخفض التضخم من 43% الآن، إلى 25% مع نهاية العام الحالي، وإلى خانة الآحاد مع نهاية 2025، وزيادة الإنتاج، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتقليص العجز في الميزان التجاري.
وبهذا الصدد بدأت الإدارة الاقتصادية الجديدة في تركيا بإعادة صياغة الأدوات ووضع الخطط لتحقيق الأهداف.
ومؤخراً اجتمعت لجنة تحديد الحد الأدنى للأجور(يبلغ الآن 8 آلاف و500 ليرة، أي ما يعادل 360 دولار أميركي)، لمناقشة الزيادة المتوقع أن يكشف عنها في يوليو المقبل، لموظفي الخدمات المدنية والعاملين في القطاع العام والمتقاعدين.
بالتوازي مع زيادة الأجور، سيتم العمل على ضبط أسعار المواد الغذائية، ووقف تقلباتها من خلال زيادة الرقابة على الأسواق، ودعم القطاع الزراعي.
وكان أردوغان قد لفت مؤخراً إلى "أهمية قطاع الزراعة والثروة الحيوانية" مؤكداً "عزم حكومته على خفض أسعار السلع والمنتجات".
هل يحل خفض التضخم مشاكل تركيا؟
إلا أن حل مسألة التضخم وحدها، ليست مخرجاً للحالة الاقتصادية في تركيا وفقاً للمحلل الاقتصادي جلال بكار الذي يرى أن الإصلاحات الاقتصادية تبدأ بخفض التضخم ولا تنتهي بتحقيق الاستقرار لسعر الليرة.
وقال بكار لـ"الشرق"، إن "الاقتصاد التركي اليوم ليس بحاجة لخفض التضخم فقط، بل لترتيب أولويات ومنها تثبيت سعر الليرة التركية وضبط ارتفاع الدولار".
وأضاف أن "خفض التضخم إلى خانة الآحاد لا أعتقد أنه سيكون الحل، إذ أن رفع الحد الأدنى للأجور يدل أن الإيجارات ومستلزمات الحياة الأساسية ستكون مرتفعة بشكل دائم بما يتناسب مع حد الأجور، لأن الحكومة لا تستطيع تخفيض الحد الأدنى بعد أن تعلن زيادته".
وأوضح أنه يجب أن "تكون هناك موازنة بين تكلفة الحياة الاستهلاكية والمردود، وهذا يتطلب زيادة الرقابة وأدوات تتناغم داخل مفاصل الدولة الاقتصادية، كأن يكون الحد الأدنى للأجور، يتناسب مع أسعار الإيجارات، ومرتبط مع الاستهلاك الغذائي والفواتير".
وتابع بكار: "الآن لدى تركيا فرصة إذ كانت تستهلك من عملاتها الأجنبية وميزانها التجاري من أجل الطاقة، بينما الآن أصبح لديها مصادر طاقة خاصة بها، وبدأت بنقلها إلى مصافي النفط التركية، ويجب أن تكون هناك خطة مدروسة لتخفيض نفقات الطاقة حتى على الشعب، وهذه نقاط ستساعد الشعب التركي على فكرة ثبات الأسعار المرفقة".
وخلص إلى أنه بـ"المجمل تركيا فعلاً تتجه نحو النمو المستدام، أي الرفاهية، فيما يبقى متوسط النمو الاقتصادي التركي السنوي أكثر من 3.7%، وهذا يعني أن الاقتصاد التركي اقتصاد حيوي، إلا أن لهذا النمو ضريبة وهي التضخم، وهي ارتفاع أسعار العيش، ولا يمكن الحصول على رفاهية دون ارتفاع الأسعار".
عين على محافظة "المركزي"
بالرغم من الإجراءات التي فرضتها الحكومة التركية على البنوك المحلية لتحجيم الطلب على العملة الأجنبية من خلال وضع حدود لعمليات البيع والشراء اليومية، إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتثبيت قيمة الليرة.
وبعد انتخابات 28 مايو، سجلت الليرة التركية، تراجعاً قياسياً أمام العملات الأجنبية قدر بأكثر من 7%. وتجاوزت الليرة 25.50 مقابل الدولار الواحد، بعد أن كان أدنى مستوى قياسي سابق لها خلال الأسابيع الماضية، 20.5 ليرة لكل دولار.
وخلق تراجع الليرة الجديد حالة ترقب للسياسات الاقتصادية الجديدة التي ستنتهجها الحكومة بعد الانتخابات خصوصاً إزاء أسعار الفائدة.
وضمن التعيينات الجديدة تم تسليم رئاسة البنك المركزي التركي لـحفيظة غاية أركان بطلب من شيمشك.
وأصبحت حفيظة غاية أركان أول امرأة تتولى منصب محافظ البنك المركزي في تركيا، وهي من مواليد إسطنبول عام 1982 وتخرجت من جامعة البوسفور قسم الهندسة الصناعية عام 2001، وحاصلة على شهادة الدكتوراه بمجال بحوث العمليات والهندسة المالية من جامعة برينستون، في الولايات المتحدة.
وبدا حديث وزير المالية الجديد محمد شيمشيك عن الحاجة إلى العودة إلى "السياسات العقلانية" في إدارة الاقتصاد مؤشراً على احتمال اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم.
وفي السياق، قال أردوغان: "قبلنا تطبيق الخطوات التي سيتخذها وزير الخزانة والمالية بالتعاون مع البنك المركزي وأكدنا إصرارنا على خفض الفائدة إلى خانة الآحاد"، مجدداً تأكيد تمسكه بالنظرية التي يدافع عنها وهي "الفائدة سبب والتضخم نتيجة".
مهمة صعبة
وبشأن الأداء الاقتصادي في تركيا في ظل المستجدات الأخيرة، قال مراد مراد أوغلو، وهو صحافي مختص بالاقتصاد لـ"الشرق": "مرت 10 أيام على تعيين وزير المالية محمد شيمشك، وحتى الآن لديه تصريح واحد فقط لمح فيه إلى إعادة الوضع الطبيعي للاقتصاد، وعقب ذلك عين أردوغان حفيظة غاية أركان رئيسة البنك المركزي، التي جاءت من أميركا وهو اختيار مثير للاهتمام".
ويرى أوغلو أن مهمة أركان "صعبة نوعاً ما، ففي لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي، يجب على أغلب الأعضاء أن يوافقوا على قرار رفع أو خفض أسعار الفائدة، يعني أركان لا يمكنها اتخاذ قرار بنفسها".
وقبل أيام من إجراء الانتخابات، قال أردوغان إن حكومته ستواصل نفس النهج الاقتصادي، وستبقي أسعار الفائدة منخفضة، مشدداً على أن رأيه لم يتغير أبداً. غ
غير أنه أكد أن وزير الخزانة والمالية يمكنه فعل ما يشاء بشأن هذه القضية، "في إشارة إلى إمكانية موافقته رفع أسعار الفائدة حتى لو لم يكن مقتنعاً بهذه الخطوة"، وفق مراد أوغلو.
من ناحية أخرى، يقول الصحافي الاقتصادي التركي، إن "هناك انتخابات محلية (بلدية) في تركيا بعد 9 أشهر، لذلك عليهم أن يتصرفوا بشكل شعبوي أكثر، وفي الحقيقة سنرى ذلك في بداية شهر يوليو، إذ سيرفعون الحد الأدنى للأجور لموظفي الخدمة المدنية والمتقاعدين".
وتابع مراد أوغلو: "هناك شائعات تقول إن الزيادة ستكون حوالي ألف دولار، لكن للأسف تركيا ليس لديها الميزانية الكافية لهذه الخطوة، لأنها تعاني من عجز مرتفع للغاية في الميزانية، وذلك بسبب نظام الوديعة المحمية من تقلبات أسعار الصرف. وبالنظر للفترة الأخيرة انخفضت الليرة التركية بشكل حاد أمام العملات الأجنبية".
وأوضح أن "هذا عبء كبير على الميزانية وخاصة البنك المركزي الذي لا يملك ميزانية خاصة، لذلك توجه البنك لطباعة النقود، بالتالي ارتفاع التضخم، يعني عمليات طباعة العملات الورقية في ظل الأزمة الحالية، هو ما يؤدي بشكل أو آخر إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار".
شح الميزانية
وبالإضافة إلى التضخم المرتفع تنتظر الحكومة التركية الجديدة تحديات أخرى ملحة، ضمنها مشاريع إعادة الإعمار في المناطقة التي ضربها الزلزال، وزيادة الأجور، وهو ما يسبب شح الميزانية.
في السياق، رجح مراد أوغلو أن "تقوم الحكومة بطباعة الكثير من المال. فمثلاً في أميركا عندما اتجهت الولايات المتحدة نحو توسع نقدي خطير، زاد التضخم بسرعة بشكل لا يصدق، لكنهم رفعوا أسعار الفوائد وتحسن الحال نوعا ما".
لكن نفس الشيء إذا فعلته الحكومة التركية ستواجه مشكلة وهي إن العديد من الشركات في تركيا التي أخذت قروضاً بفائدة منخفضة ستواجه صعوبات عند زيادة أسعار الفائدة، وهذا يعني أنها إما ستفلس أو ستستمر في الخسارة.
وقال أوغلو إن "البنوك التي منحت فوائد منخفضة هي أيضاً ستواجه نفس المشاكل مع ارتفاع أسعار الفائدة، إذ ستبدأ في تدوين الخسائر، وبالتالي ستدخل تركيا في قوقعة خسارة لن تستطيع الخروج منها بسهولة".
واعتبر الصحافي الاقتصادي التركي أن "محمد شيشمك أدار اقتصاد البلاد في حقبة ما، لكن لم تكن هناك كل هذه المشاكل الكبيرة، وبالفعل كل الشعب التركي ينظر إليه بإيجابية آملين أن يسهم في تحسين حال البلاد، لكن المشكلة هي هل بالفعل سيسمح أردوغان لشيمشك بالتصرف كما يشاء ويأخذ القرارات التي تخالف نظرياته؟ وهل إذا تصرف شيشمك بعكس نظرية أردوغان هل سيطرده الآخر من منصبه؟ نفس الشيء ينطبق على أركان يمكن أن يتم إقالتها في إي وقت، إذ عين أردوغان وأقال 4 رؤساء للبنك المركزي في زمن قياسي".
وأضاف أوغلو: "هناك الكثير من التساؤلات في هذه الفترة بشأن هل سيتمتع أركان وشيمشك بالاستقلالية ويحسنان الاقتصاد بالفعل من دون تدخل أردوغان؟ الأخير يجب أن يدعم قراراتهما كي يتحسن الوضع وإلا لن يكون لكلا المسؤولين فائدة".
وخلص إلى أن "خفض التضخم إلى أقل من 25%، في هذا العام سيكون مستحيلاً، لأن هناك توسع نقدي وعملية طباعة العملة التي حدثت في الأشهر الماضية كبيرة، وتحسن الاقتصاد في ظرف أشهر سيكون صعباً".
اقرأ أيضاً: