كيف سيطرت أذربيجان على إقليم ناجورنو قره باغ في حرب خاطفة؟

إلهام علييف استغل انشغال روسيا بحرب أوكرانيا لـ"الوفاء بعهد أبيه"

time reading iconدقائق القراءة - 10
الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف خلال زيارة إلى منطقة زانجيلان جنوبي البلاد- 28 سبتمبر 2023 - "الرئاسة الأذربيجانية"
الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف خلال زيارة إلى منطقة زانجيلان جنوبي البلاد- 28 سبتمبر 2023 - "الرئاسة الأذربيجانية"
باكو-رويترز

في وقت مبكر من يوم 19 سبتمبر، أعطى رئيس أذربيجان إلهام علييف إشارة البدء لهجوم عسكري خاطف في إطار خطة جرى الإعداد لها قبل أشهر، بهدف إعادة ترسيم الخريطة الجيوسياسية، والثأر لهزيمة مذلة مُني بها والده قبل نحو 30 عاماً.

وكثيراً ما تحدث علييف، الذي يتولى السلطة منذ عقدين وخاض حرباً ناجحة بالفعل، عن إعادة جيب ناجورنو قره باغ الجبلي إلى السيطرة الكاملة لأذربيجان بعد أن انفصل سكانه الذين ينتمون لعرقية الأرمن عن حكم باكو في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وأوضح إلين سليمانوف سفير أذربيجان لدى بريطانيا أن مجموعة من العوامل أقنعت علييف (61 عاماً) بأن الوقت بات مناسباً "يسلك التاريخ منعطفات ومنحنيات، ولم يكن بوسعنا فعل هذا سابقاً، وربما لن تكون فكرة سديدة أن نفعل ذلك لاحقاً".

وأضاف سليمانوف الذي عمل في السابق بمكتب علييف "صارت الظروف مواتية لأسباب معينة، واغتنم الرئيس علييف الفرصة".

"مسألة ذات عمق شخصي"

من بين الظروف البارزة التي أقنعت إلهام علييف بأن الوقت مناسب لاستعادة ناجورنو قره باغ باستخدام القوة العسكرية، هي عدم قدرة روسيا أو الغرب أو أرمينيا على التدخل لحماية الإقليم أو عدم استعدادهم للقيام بذلك في الأساس.

وذكرت باكو أن الجيب المتمتع بالحكم الذاتي لعقود كان لديه 10 آلاف مقاتل تحت تصرفه، لكن جيش أذربيجان الذي يُقدر خبراء غربيون قوامه بأكثر من 120 ألف جندي بدا كالعملاق مقارنة بمقاتلي الجيب.

وأكد مسؤولان كبيران ومصدر يعمل مع علييف خلال محادثات مع "رويترز" أن قرار استعادة الإقليم الانفصالي تبلور على مدى أشهر في ظل تغير الواقع الدبلوماسي، ولفتا أيضاً إلى أن المسألة لها عمق شخصي بالنسبة للرئيس.

وخلال خطاب موجه إلى شعب أذربيجان بعد يوم من تنفيذ العملية العسكرية، قال علييف إنه أمر جنوده بعدم إيذاء المدنيين. وأعلنت باكو لاحقاً أن 192 من جنودها لقوا مصرعهم خلال العملية، بينما أكد أرمن قره باغ أنهم فقدوا أكثر من 200 شخص.

وأشار أحد المصادر الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالإدلاء بتعليقات للإعلام "يكمل الرئيس علييف شيئاً لم يستطع والده فعله لأن الوقت لم يمهله".

"صبر باكو نفذ"

مستشار علييف للسياسة الخارجية حكمت حاجييف، قال خلال 3 مقابلات إحداها قبل العملية العسكرية إن "صبر باكو على الوضع الراهن قد نفد".

وفي تصريحات لـ"رويترز" قبل أقل من أسبوعين من اجتياح قوات أذربيجان جيب قره باغ، ذكر حاجييف أن باكو لا تسعى إلى أي أهداف عسكرية "في هذه المرحلة"، لكنها تظل متأهبة. وأضاف أنه لا يمكن قبول ما وصفه بأنه "منطقة رمادية" مع وجود قوات الأمن المسلحة الخاصة بقره باغ، وهو أمر شبهه بـ"المافيا على أراضي أذربيجان".

وتم حل قوات دفاع قره باغ منذ ذلك الحين بموجب شروط اتفاق وقف إطلاق نار جديد، لكنها رفضت انتقادات أذربيجان في السابق ووصفت نفسها بأنها قوة قتالية مشروعة.

وفي يوم العملية العسكرية وبعد انحسار القتال، أعد حاجييف قائمة بما وصفها "عناصر استثارة" دفعت باكو إلى اللجوء للخيار العسكري، مشيراً إلى انفجار لغم أرضي أدى إلى مصرع اثنين من المدنيين من أذربيجان في وقت سابق من ذلك اليوم في جزء من قره باغ كانت باكو قد استعادته خلال حرب في 2020.

وصرح حاجييف "طفح الكيل".

وأشار الرئيس الأذربيجاني أيضاً إلى انفجار اللغم وحادث مشابه نجم عنه مصرع 4 آخرين، في حين وصف أرمن قره باغ هذه التأكيدات بأنها"محض كذب". ولم يتسن التحقق بشكل مستقل من صحة الأحداث.

"روسيا تتنحى جانباً"

روسيا المنشغلة بحربها مع أوكرانيا، تنحت جانباً خلال العملية العسكرية، وذلك رغم أنها تملك قوات حفظ سلام في ناجورنو قره باغ.

وقال حاجييف إن أذربيجان أرسلت إلى الروس "إخطاراً قبل دقائق" من بدء العملية.

ولم يستجب نيكول باشينيان رئيس وزراء أرمينيا المجاورة، التي خاضت حربين كبيرين بسبب قره باغ، لدعوات السياسيين المعارضين للتدخل وقال إن بلاده بحاجة إلى أن تكون "خالية من الصراع" من أجل استقلالها.

واكتفى الغرب، الذي حاول التوسط سابقاً، بدعوة علييف بإيقاف العملية، لكن ذلك وقع على آذان صماء.

ومنذ أشهر كان يزداد غليان مشكلة ناجورنو قره باغ، وبدا أن علييف استشعر وجود فرصة سانحة مع انشغال روسيا في حربها بأوكرانيا.

وفي ديسمبر الماضي، بدأ مواطنون من أذربيجان، يصفون أنفسهم بأنهم ناشطون بيئيون غير راضين عن عمليات التعدين غير القانونية، بإغلاق ممر لاتشين، وهو الطريق الوحيد الذي يربط الإقليم بأرمينيا.

وقال مسؤولو قره باغ حينئذ إن المحتجين يُشكلون غطاءً ويوجد بينهم مسؤولون من أذربيجان. ونفت باكو الاتهام.

ولم تتحرك قوات حفظ السلام الروسية المسلحة، التي بدت أنها تحجم عن المخاطرة بتصعيد الموقف، لفض المحتجين بالقوة.

وفي محاولة خلال مايو لتحريك مفاوضات السلام، قدم رئيس الوزراء الأرميني باشينيان ما بدا أنه عرض يُمثل انفراجاً، وهو أن أرمينيا مستعدة للاعتراف بقره باغ بوصفه جزءاً من أذربيجان إذا ضمنت باكو أمن عرقية الأرمن في الإقليم.

وبدا أن علييف اغتنم ما اعتبره اعترافاً تأخر كثيراً بالأمر الواقع كدلالة على ضعف أرمينيا.

ووصف المصدر الذي يعمل مع علييف التحول بأنه "مهم للغاية".

"مسألة لم تنته"

أفلت إقليم قره باغ من قبضة أذربيجان في الفوضى التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي. وخلال حرب امتدت من عام 1988 إلى عام 1994، لقي زهاء 30 ألف شخص مصرعهم ونزح أكثر من مليون معظمهم من مواطني أذربيجان.

وأُجبر حيدر علييف، والد إلهام علييف ورئيس أذربيجان آنذاك، على الموافقة على وقف إطلاق نار رسّخ انتصار أرمينيا.

ولأعوام، تسبّب تحالف موسكو ومعاهدتها الدفاعية المبرمة مع أرمينيا، التي تملك فيها روسيا منشآت عسكرية، في ردع باكو عن استخدام القوة حتى مع بيع روسيا أسلحة لكلا البلدين.

لكن علاقات موسكو مع أرمينيا بدأت في التدهور في العام 2018، حينما قاد باشينيان، وهو صحافي سابق، احتجاجات في الشوارع صعّدته إلى السلطة على حساب عدد كبير من الزعماء الأرمن الموالين لروسيا.

وفي ظل تكثيف حملة جيش أذربيجان للتعديل والتحديث، لم تلبث أرمينيا أن تقع في أزمة بعد خروجها من أخرى.

ومع ملاحظة كون الكراهية متبادلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وباشينيان الذي رجّح إقامة علاقات مع الغرب، اختبر علييف حساسية الموقف قبل المضي قدماً، إذ شن عام 2020 حرباً استمرت 44 يوماً انتصر فيها جيشه بمساعدة من طائرات مسيرة تركية متقدمة، ما قادهم إلى استعادة جزء من أراضي قره باغ.

وتوسطت روسيا في وقف لإطلاق النار بدا أنه انتصار لموسكو، ما سمح لها بنشر قرابة ألفي جندي حفظ سلام في قره باغ. وأكسبت الخطوة موسكو حضوراً عسكرياً في أذربيجان، فيما بدا أنه تهدئة لأي تحركات عسكرية إضافية من طرف أذربيجان.

لكن الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022 غيّر المعادلة من جديد، إذ أدخل موسكو في حرب ضروس مع كييف.

أجواء ضبابية

في صباح يوم 19 سبتمبر الماضي، استيقظ سكان ستيباناكيرت عاصمة ناجورنو قره باغ المعروفة باسم خانكندي في أذربيجان على دوي نيران المدفعية التي تكررت وسط أجواء ضبابية.

بدأت ما وصفها علييف بأنها عملية لـ"مكافحة الإرهاب" باجتياح من قوات برية مدعومة بطائرات مسيّرة وستار من المدفعية لاجتياح خطوط الإقليم الدفاعية.

ولقي 5 روس مصرعهم في العنف الذي تلا العملية فيما يبدو أنه حادث اعتذر عنه علييف لبوتين.

وأعلنت باكو الانتصار في غضون 24 ساعة ووافق مقاتلو قره باغ الأرمن على وقف إطلاق نار ألزمهم بتسليم أسلحتهم.

وقال أرمن الإقليم إنهم شعروا بالخيانة من جميع الأطراف.

وذكر ديفيد بابايان، مستشار لزعيم حكومة قره باغ، بعد يوم من العملية شاكياً "تُرك قره باغ بمفرده، لم تُوفّ قوات حفظ السلام الروسية عملياً بالتزاماتها، تخلى عنا الغرب الديمقراطي، وغضّت أرمينيا أيضاً طرفها عنا".

وأعلن علييف للأمة "أذربيجان استعادت سيادتها في نحو الواحدة مساء يوم أمس".

وبعد 4 أيام من العملية، بدأ بعض أرمن قره باغ البالغ عددهم 120 ألف نسمة ما تحول إلى نزوح جماعي بالسيارات صوب أرمينيا، قائلين إنهم يخشون الاضطهاد والتطهير العرقي على الرغم من تعهد أذربيجان بضمان سلامتهم.

وقالت سلطات يريفان إن 98 ألف شخص فروا إلى أرمينيا بعد 10 أيام من الهجوم.

وبالنسبة لأذربيجان، تُمهّد استعادة قره باغ الطريق أمام عودة عشرات الآلاف من مواطنيها الذين فروا سابقاً، وهي عودة تعهّد بها حيدر علييف مراراً وتكراراً.

وقال سليمانوف سفير أذربيجان لدى بريطانيا "وفّى الرئيس (إلهام) علييف بتعهد والده".

تصنيفات

قصص قد تهمك