لندن-بهاء جهاد
يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يخض في مشاورات معمقة مع حلفائه قبل الحديث عن احتمال إرسال قوات غربية للقتال إلى جانب الأوكرانيين ضد الروس، إذ نأت الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة بنفسها عن هذا السيناريو، مؤكدة أن التسليح بالعتاد وليس الأفراد هو سقف دعمها الممكن والمتوقع لكييف على المدى المنظور.
برأي مراقبين ومختصين، حاول الرئيس الفرنسي التلويح بهذا الخيار لتحذير الروس من أي محاولات للتمدد أبعد من المناطق التي سيطروا عليها شرق أوكرانيا، فيما يعتقد آخرون أن ماكرون يهيئ أوروبا لقرارات صعبة، قد تلجأ إليها إذا عاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وتخلّى تماماً عن دعم كييف.
هناك خشية من رغبة ترمب، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بإنهاء حرب أوكرانيا دون هزيمة روسيا، ما قد يشجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزو دول أخرى، ويضع القارة العجوز أمام استحقاق الدفاع عن نفسها بعيداً عن حلف شمال الأطلسي "الناتو". فهل هذه الخشية يمكن أن تغير الخطوط الأوروبية الحمراء في دعم كييف، فتجعل ما كان مرفوضاً بالأمس، متاحاً وممكنا غداً؟
رسائل ماكرون المبطنة
في مؤتمر لدعم أوكرانيا احتضنته باريس مؤخراً، قال الرئيس الفرنسي إنه "لا يجب استبعاد إرسال قوات غربية إلى كييف في مواجهة الروس، رغم أنه لا يوجد إجماع حول هذه الخطوة في الوقت الراهن". وبرأي الباحث في الشأن الأوروبي سيمون إدريس لا يوجد ما يفسر كلام ماكرون داخلياً أو خارجياً، إلا في إطار التصعيد اللفظي.
ويلفت إدريس في حديث لـ"الشرق"، إلى أن الشارع الفرنسي لا يفضل عموماً التمادي في دعم أوكرانيا إلى حدود المواجهة المباشرة مع روسيا.
وعلى صعيد أوروبا لا يوجد ما يدفع للاعتقاد بأن الاتحاد الأوروبي يدرس مثل هذه الخطوة. وخاصة في ظل وجود تباينات عديدة بين دول التكتل في تسليح كييف كماً وكيفاً، وفق تعبيره.
ويشير الباحث المقيم في باريس، إلى أن الخطاب التصعيدي لماكرون ينطوي على رسائل مبطنة موجهة للروس، فحواها أن الزحف نحو كييف أو أي مناطق أوكرانية أخرى، يمكن أن يغير المعادلات الأوروبية في التعامل مع الحرب.
وهو تهديد يرد على "أطماع" روسية ظهرت بعد السيطرة على مدينة "أفدييفكا" شرق أوكرانيا، إذ قال نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف، قبل أيام، إنه "قد يتوجب على موسكو الوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف لإنهاء الحرب". منوهاً إلى أن تحقيق موسكو لأهدافها من "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، قد لا يتم دون الوصول إلى كييف، وإسقاط النظام السياسي القائم فيها، وفق تعبيره.
ردود غربية سريعة
ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي، قال إن حديث ماكرون "يظهر وعياً كبيراً بالمخاطر العسكرية والعدوانية التي تشكلها روسيا على أوروبا". ولكن فرحة كييف بالتصريحات الفرنسية لم تكتمل، وتم وأدها بفعل العديد من الردود الغربية الرافضة للخطوة، والمستبعدة لوقوعها على المدى المنظور.
وكالة "رويترز"، نقلت عن المستشار الألماني أولاف شولتز قوله إنه "لن يتم إرسال قوات أوروبية، أو تابعة لحلف الناتو إلى أوكرانيا للمشاركة في مواجهة روسيا". كما نقلت أيضاً عن مسؤول في البيت الأبيض لم تسمه، قوله إن الولايات المتحدة لا تخطط لإرسال قوات إلى كييف، ولا يوجد ما يناقش في هذا السياق في حلف شمال الأطلسي.
وفي المملكة المتحدة، قال متحدث باسم رئيس الوزراء ريشي سوناك، إن لندن لا تخطط لإرسال قوات لأوكرانيا. موضحاً أن هناك عدداً من الجنود البريطانيين يساعدون الأوكرانيين في التخطيط والتدريب. كما تدرب بريطانيا أعداداً كبيرة من القوات الأوكرانية على أراضيها، وتدعم كييف بالسلاح على نحو مستمر ومتزايد.
كما صدر رفض مشابه لتصريحات ماكرون عن بولندا وإسبانيا والتشيك. والمشترك بين كل الردود الغربية على الرئيس الفرنسي، هو التأكيد على ثابت لم يتغير منذ فبراير 2022، ألا وهو أن أوكرانيا لا تنتمي للناتو، ولن ينخرط الغرب في حربها مع الروس، طالما أن التهديد لا يمس بأعضاء الحلف، ولا يهدد أمنهم مباشرة.
التغيّر المحتمل مع الوقت
على الجانب الروسي، قال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن "مجرّد إثارة ماكرون لاحتمال تدّخل الغرب بقواته في أوكرانيا يشكّل عنصراً جديداً مهماً جداً في الصراع، الذي سيتحول حتماً إلى مواجهة مباشرة مع الناتو". هذه المواجهة التي وصفها سابقاً نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، بأنها "نهاية العالم".
ولم يكن عدم إرسال قوات للمساعدة في مواجهة الغزو الروسي، هو الثابت الوحيد في تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية، إذ كان هناك رفض لتزويد كييف بأسلحة تمكنها من تهديد الداخل الروسي، وتجبر موسكو على استخدام الأسلحة النووية، أو مهاجمة عواصم ودول في الاتحاد الأوروبي أو في حلف الناتو عموماً.
بعض محددات الغرب في تسليح كييف تلاشت خلال العام الثاني للحرب، وبعضها الآخر لا يزال قائماً. فلم يعد هناك مشكلة مثلاً في إرسال طائرات ودبابات ومسيرات، وحتى صواريخ بعيدة المدى. ووفق هذا المقياس، قد يصبح إرسال قوات أوروبية أو أميركية إلى كييف، أمراً ممكناً إذا استمرت الحرب أعوام أخرى.
الدعم الغربي المتعثر
يقول المحلل السياسي البريطاني أندرو ريج، إن رهان روسيا على خطوط الغرب الحمراء في الحرب الأوكرانية، هو أمر خاطئ. والرهان أيضاً على ترمب لإعادة الهدوء إلى أوروبا، هو خاطئ أيضاً. فانتهاء تلك الحرب بغير خسارة الروس لن يحمل استقراراً للقارة العجوز أبداً، ولن يقنع الأوروبيين لاستئناف علاقاتهم مع موسكو.
وأوضح ريج في حديث مع "الشرق"، أن ما أثاره الرئيس الفرنسي يدور في الأروقة المظلمة لحلف الناتو، ولا تزال الاعتراضات عليه كثيرة. ولكن ماكرون تعمد البوح به ليقول للروس إن الثوابت يمكن أن تتغير مع مرور الوقت. وإن تباطؤ الدعم الغربي لكييف في هذه الأوقات، لا يعني التخلي عنها والاستسلام لنزعات الرئيس بوتين.
ويقر راج، بأن الحماس الفرنسي لمواجهة مع روسيا، لا تنعكس في حجم التسليح والدعم العسكري الذي قدمته باريس لكييف منذ 24 فبراير 2022. إذ يقول معهد "كيل" للدراسات في ألمانيا، إن فرنسا تأتي في المرتبة 14 على قائمة الدول الغربية الداعمة للأوكرانيين، بمساعدات مالية وعسكرية لم تتجاوز قيمتها المليار يورو.
وبشكل عام، تعاني أوكرانيا من شح الأسلحة منذ أشهر عدة. وتقول كييف إن 30% فقط من الدعم الغربي يصل إليها. فيما تنتظر من الكونجرس الأميركي الإفراج عن حزمة المساعدات الجديدة. وتتوقع من دول الاتحاد الأوروبي التوافق بسرعة بشأن زيادة الدعم العسكري لها من ناحية الكم والنوعية، وفقاً للمسؤولين الأوكرانيين.
ويقدر معهد "كيل" حجم المساعدات العسكرية المقدمة لكييف من قبل الاتحاد الأوروبي كتكتل بقيمة 5.6 مليار يورو، منذ بداية الغزو الروسي وحتى منتصف يناير 2023. أما على مستوى الدول، فتصدرت ألمانيا قائمة الداعمين في أوروبا بقيمة 17.7 مليار يورو. تلتها بريطانيا بما يزيد على 9 مليارات ثم الدنمارك بـ8.4 مليارات. أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد قدمت أكثر من 42 مليار يورو كمساعدات عسكرية فقط.
تصنيفات
