تسبّب تسجيل صوتي سرّبته وسائل إعلام روسية، يُظهر 4 ضباط ألمان يناقشون افتراضياً تقديم صواريخ "توروس" بعيدة المدى إلى أوكرانيا، في إحراج كبير للحكومة الألمانية، وساهم في تأزيم الوضع بين برلين وموسكو.
واتهمت الحكومة الألمانية بشكل رسمي، روسيا، بشن "حرب معلومات" بهدف خلق انقسامات داخل البلاد، فيما ردت موسكو بأن الواقعة تظهر أن الغرب ضالع في حرب أوكرانيا.
وتظهر التسجيلات المسرّبة أربعة ضباط ألمان، من بينهم قائد لسلاح الجو، يناقشون تسليم صواريخ كروز من طراز "توروس" إلى أوكرانيا، كما ناقشوا أيضاً تفاصيل شحنات صواريخ "سكالب" بعيدة المدى من فرنسا وبريطانيا إلى أوكرانيا.
وقال وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، الاثنين، إن "الواقعة أكبر بكثير من مجرد اعتراض محادثة وبثها.. إنها جزء من حرب معلومات يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إنه هجوم مركب بهدف التضليل. يتعلق الأمر بزرع الانقسام السياسي الداخلي. إنه يتعلق بتقويض وحدتنا".
في المقابل، قالت الرئاسة الروسية "الكرملين"، إن التسجيل الصوتي أظهر أن القوات المسلحة الألمانية تناقش خططاً لشن هجمات على الأراضي الروسية، وتساءل عما إذا كان المستشار أولاف شولتز يسيطر على الوضع.
كيف انتشر التسريب؟
نشرت مارجريتا سيمونيان، رئيسة تحرير قناة RT التلفزيونية الحكومية الروسية، التسريب الصوتي، الذي بلغت مدته 38 دقيقة، على مواقع التواصل الاجتماعي الجمعة، وهو نفس اليوم الذي دُفن فيه زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني. وظهر التسجيل أيضاً قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الروسية.
وقالت سيمونيان، إن التّسريب عبارة عن محادثة تجمع ضباطاً ألمان من بينهم قائد سلاح الجو، يتحدثون عن استخدام صواريخ "توروس" بعيدة المدى، وتأثيرها المحتمل، لا سيما إذا كانت تستهدف أهدافاً مثل جسر كيرتش، الرابط بين شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا، بالبر الرئيسي الروسي.
ويأتي تسريب هذه المحادثة في الوقت الذي يتزايد فيه التركيز على رفض المستشار الألماني شولتز المستمر تسليم صواريخ "توروس" إلى أوكرانيا، وهو صاروخ يبلغ مداه التشغيلي ما يزيد قليلاً عن 300 ميل (480 كيلومتراً).
وقال شولتز في وقت سابق، إنه لن يسلم صواريخ توروس إلى كييف، لأنه سيتعين إرسال جنود ألمان إلى أوكرانيا لبرمجتها. وهو ما يعني جرّ ألمانيا إلى الحرب مع روسيا، وفق "فاينانشيال تايمز".
واعتبرت الصحيفة البريطانية، أن المحادثة المسرّبة كشفت عدم صدقية حجة شولتز، إذ بات ظاهراً أن الجنود الأوكرانيين يمكنهم تشغيل صواريخ توروس دون الحاجة إلى "جنود ألمانيين على الأرض"، طالما أنهم تلقوا تدريباً مناسباً.
وقال نوربرت روتجن، النائب عن الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض وعضو لجنة الشؤون الخارجية في البوندستاج (البرلمان): "إن التسريب هو تأكيد رسمي على أن المستشار لم يكن يقول الحقيقة، إنه يضر بمصداقيته بشكل كبير".
وحتى قبل التسريب، كانت هناك شكوكاً في العواصم الغربية بشأن نهج شولتز. إذ أعرب المسؤولون في لندن وباريس عن استيائهم الأسبوع الماضي بعد أن كشف علناً عن وجود قوات بريطانية وفرنسية على الأرض في أوكرانيا للمساعدة في تشغيل صواريخ "ستورم شادو" و"سكالب"، وهو الوضع الذي لم يكن ليسمح به مع صواريخ "توروس".
خط غير آمن
وأشارت تقارير إلى أن المناقشة التي دارت بين الضباط، قد تمت إدارتها عبر منصة "ويبيكس Webex"، وهي منصة أميركية خاصة بعقد المؤتمرات عبر الإنترنت. ونقلت صحيفة "بيلد أم زونتاج" عن مصادر أمنية القول، إن الاجتماع الذي تم عقده عبر "ويبيكس"، تم إرسال تفاصيله إلى الهواتف المحمولة الخاصة بالضباط، عبر خط أرضي تابع لمكتب الجيش الألماني.
وأظهرت التحقيقات الأولية، أن ضابطاً بالجيش الألماني استخدم خط هاتف "غير آمن" في أحد فنادق سنغافورة للانضمام إلى مؤتمر عبر الهاتف اخترقه روس وتم تسريبه للعامة، وفق "أسوشيتد برس".
وقال وزير الدفاع الألماني، أثناء إطلاعه الصحافيين في برلين على النتائج الأولية للتحقيق الجاري: "لم يلتزم جميع المشاركين بإجراءات الاتصال الآمن على النحو المنشود".
وقال الوزير، إن الضابط المعني، الذي لم يذكر اسمه، شارك في معرض سنغافورة الجوي، الذي حضره ضباط عسكريون رفيعو المستوى من جميع أنحاء أوروبا، ثم اتصل بمكالمة WebEx باستخدام هاتفه المحمول أو خدمة الواي فاي الخاصة بالفندق ولكن ليس خطاً آمناً كما يعتبر إلزامياً لمثل هذه المكالمات.
وأضاف بيستوريوس: "لقد حدثت عمليات قرصنة مشابهة في عدد من الفنادق، لذلك يجب الافتراض أن الوصول إلى هذا المؤتمر (الهاتفي) كان بمثابة فرصة في إطار نهج واسع ومتفرق".
وقال إن التحقيق مستمر وتم تعزيز الإجراءات الأمنية بشكل عام ويجري النظر في الإجراءات التأديبية الأولية، لكن من غير المرجح أن تكون هناك عواقب شخصية وخيمة.
وقال: "لن أضحي بأي من أفضل ضباطي من أجل ألعاب بوتين، لأقول الأمر بوضوح شديد"، في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ما المخاوف التي يثيرها التسجيل؟
وأثار تسريب المحادثة السرّية بين الضباط الألمان، مخاوف هائلة بشأن سلامة اتصالات الحكومة الألمانية مع احتدام الحروب في أوروبا والشرق الأوسط. وقالت صحيفة فرانكفورتر ألجماينه: "يبدو الأمر كما لو أن الزعيم الروسي فلاديمير بوتين أسقط قنبلة عنقودية فوق برلين".
وأعاد التسريب، إشعال جدل طويل الأمد، اعتقد شولز أنه وضع حداً له إلى الأبد، وكان بمثابة انقلاب دعائي هائل لموسكو، التي قالت إنه أثبت أن "الغرب الجماعي" لديه خطط لمهاجمة روسيا، وفق "فاينانشيال تايمز".
وتمثل ألمانيا ثاني أكبر مورد للمساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة، لكنها أثارت انتقادات متزايدة بسبب ترددها في تلبية رغبة كييف في الحصول على إمدادات من الأسلحة الأطول مدى مثل "توروس"، والتي من شأنها أن تساعد أوكرانيا على الضرب بشكل أعمق داخل الأراضي الروسية. وكرر المستشار شولتز معارضته تصدير الأسلحة الأسبوع الماضي، مشيراً إلى رغبته في تجنب الانجرار مباشرة إلى الصراع.
وذكرت وسائل إعلام رسمية روسية أن وزارة الخارجية الروسية استدعت السفير الألماني، رغم أن برلين قالت إن الاجتماع كان مخططاً له مسبقا. وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية، فولفجانج بوشنر، إن أي تلميحات بأن البلاد تستعد للدخول في حرب مع روسيا هي "دعاية روسية سخيفة وخبيثة".
وطالبت مفوضة الدفاع في البرلمان الألماني، إيفا هوجل، بعواقب بعيدة المدى بناء على فضيحة التنصت هذه، وقالت في تصريحات لصحف مجموعة "فونكه" الإعلامية الألمانية، "أولا، يجب على الفور أن يتم تدريب جميع المسؤولين في جميع مستويات الجيش على الاتصالات المؤمنة"، وفق موقع DW الألماني.
وأضافت "ثانياً، يجب التأكد من أن توفير المعلومات والاتصال الآمن والسري يمكن أن يتم بطريقة مستقرة"، مطالبة بإجراء تغييرات في الحالات التي لا يكون فيها هذا الأمر ممكنا. ورأت هوجل أنه يجب زيادة الاستثمار في مكافحة التجسس ودعت إلى تعزيز جهاز الاستخبارات العسكرية.
صواريخ توروس
في مايو 2023، طلبت السلطات الأوكرانية لأول مرة صواريخ "توروس كروز"، وهي واحدة من أحدث أنظمة الأسلحة في ترسانة الجيش الألماني. ومع مدى يصل إلى 500 كيلومتر، يمكن استخدامها ضد "أهداف استراتيجية حيوية" مثل المخابئ أو مراكز القيادة، ويمكنها اختراق عدة جدران من الخرسانة المسلحة.
لكن في أكتوبر 2023، رفض شولتز، الطلب الأوكراني. وكان هذا بالنسبة للكثيرين أمراً مألوفاً؛ فقد رفض منذ فترة طويلة تزويد كييف بدبابات ليوبارد الألمانية، خوفاً من الانتقام الروسي، وفق "فاينانشيال تايمز".
ورفض شولز، شرح موقفه بشأن رفض تزويد أوكرانيا بصورايخ توروس. لكنه خرج أخيراً عن صمته الأسبوع الماضي قائلاً إن الجنود الألمان يجب أن يتمركزوا في أوكرانيا لبرمجة الصواريخ. ومن ثم تصبح برلين متورطة بشكل مباشر في الحرب، وهي النتيجة التي سعى باستمرار إلى تجنبها.
وقال: "يجب ألا يكون الجنود الألمان مرتبطين في أي وقت بالأهداف التي يصل إليها هذا النظام".
ويقول زملاؤه السياسيون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إن تحذير شولتز، يحظى بدعم كبير بين الناخبين الألمان، وأن التسريب الروسي لم يغير ذلك.
وقال نيلز شميد، المتحدث باسم السياسة الخارجية للحزب الاشتراكي الديمقراطي: "الناس هنا يحبون الطريقة التي يزن بها شولنز بحذر إيجابيات وسلبيات توفير أنظمة أسلحة مختلفة، وهم لا يريدون أن تصبح ألمانيا طرفا في هذه الحرب".
وأضاف شميد، أن الألمان اتفقوا أيضاً مع المستشار بشأن مخاطر تزويد أوكرانيا "بسلاح شديد التأثير".
لكن موقف شولتز من توروس، أثار غضباً داخل ائتلافه الحاكم. وبسبب قلقهم إزاء الانتكاسات الأخيرة التي منيت بها أوكرانيا في ساحة المعركة وفشل الكونجرس الأميركي في الموافقة على المزيد من المساعدات العسكرية لكييف، حث النواب الليبراليون والخضر على إعادة التفكير في الصاروخ الذي لديه القدرة على تعزيز القدرات العسكرية لأوكرانيا بشكل كبير.
وفي أواخر الشهر الماضي، أصدرت الأحزاب الثلاثة في ائتلاف شولتز، قراراً يطلب تسليم "أنظمة أسلحة بعيدة المدى" إلى كييف يمكنها ضرب العمق الروسي. لم يتم ذكر اسم الصاروخ التي تريده كييف، ولكن كان ذلك يعني ضمنياً صاروخ توروس".
وقال كريستيان مولينج، محلل شؤون الدفاع في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية: "لقد نجحت روسيا في خلق معضلة سياسية مثالية في ألمانيا"، مضيفاً: "سيكون من الصعب الآن على شولتز إعادة تقييم الوضع وتغيير رأيه بشأن صاروخ توروس بعد كل هذا".
وقال يوهان واديفول، المتحدث باسم الحزب الديمقراطي المسيحي للشؤون الخارجية والدفاع، إن هدف بوتين هو "إيقاع شولتز في شبكة من التلميحات والتفسيرات الملتوية" إلى حد أنه سيكون من المستحيل عليه اختيار تزويد توروس بالإمدادات اللازمة مستقبلاً.
وقال وادفول: "لقد التزم شولز برفضه إرسال الصواريخ، ويبدو أنه لا يفهم من خلال قيامه بذلك، أصبح أفضل قطعة على رقعة شطرنج بوتين".