في مبنى "البيت التركي" وسط مدينة نيويورك، وفي أجواء تسودها "ابتسامات المجاملة" التقى الرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 20 سبتمبر 2023 على هامش اجتماعات الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتعليقاً على اللقاء، قال أردوغان حينها إنه "يتعين علينا جميعاً العمل معاً من أجل عالم يسود فيه السلام"، وأعلن نيته إجراء زيارة قريبة لإسرائيل لتوطيد العلاقات التي يسودها التوتر بين الحين والآخر، إلا أن كل هذا تحطم بعد أسابيع قليلة، فأودى "الطوفان" بكل خطط أردوغان ونتنياهو لإعادة فتح خط "أنقرة - تل أبيب".
ومنذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزة، أعلنت تركيا موقفها من "الاحتلال"، رافضة تصنيف حركة "حماس" على قائمة "المنظمات الإرهابية"، قبل أن يخرج أردوغان ويضيف بأن "حماس حركة مقاومة شعبية"، إلا أن هذه التصريحات بالإضافة إلى المظاهرات المناصرة للفلسطينيين في عموم تركيا لم تكن على ما يبدو كافية لتثبت أنقرة"موقفاً جدياً" ضد إسرائيل، وانعكس ذلك على صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية الأخيرة التي خسر فيها حزب "العدالة والتنمية"، ووفق بعض المحللين فإن "تياراً داعماً لفلسطين" صوت ضد "العدلة والتنمية" بسبب موقف أردوغان "المُخجل" من الحرب الإسرائيلية على غزة.
بعد الانتخابات خرج أردوغان مجدداً بتصعيد هو الأكبر ضد إسرائيل، فوصف نتنياهو بـ "هتلر العصر"، وأعلنت وزارة التجارة التركية "تقييد الصادرات إلى إسرائيل"، قبل أن تلحقها بقرار آخر معلنة وقف جميع معاملاتها التجارية والاقتصادية مع إسرائيل، وانضمامها إلى دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، والسؤال الأبرز هنا، من هو الخاسر الأكبر من المقاطعة، تركيا أو إسرائيل؟
يبلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل 9.5 مليار دولار، وبناء على القرار الأخير الذي اتخذته تركيا من المفترض أن يصبح هذا الرقم غير موجود، وتعهدت أنقرة بأن التجارة مع إسرائيل لن تعود قبل أن تسمح الأخيرة بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة دون انقطاع.
ترجيحات برغبة إسرائيلية في عدم التصعيد
رجل الأعمال التركي، وعضو غرفة تجارة إسطنبول، جنكيز يلماز، قال في حديثه لـ"الشرق"، إن اقتصاد تركيا "لن يتوقف على تجارة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالنسبة لنا هذا الرقم لا يعنينا، إن ما قامت به الحكومة هو خطوة في الاتجاه الصحيح".
ويضيف يلماز: "لدينا بدائل أخرى كثيرة، الأشياء التي نستوردها من إسرائيل يمكننا أن نستوردها من دول أخرى، والسلع التي نصدرها لإسرائيل يمكننا تصديرها إلى جهات أخرى، باختصار هذا التصرف هو الصحيح ولن يؤثر سلباً على اقتصاد بلادنا".
الدبلوماسية التركية السابقة جولر جيرز، القنصل العام السابق في لوس أنجلوس، تقول في حديث خاص لـ"الشرق"، إن "تركيا أصبحت أول دولة في العالم تقطع التجارة مع إسرائيل بشكل كامل"، وهذا القرار تم اتخاذه بعد زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى الرياض، حيث عقد فيدان اجتماعات ثنائية في الرياض مع وزراء خارجية مجموعة الاتصال التي تشكلت بعد اجتماع القمتين العربية والإسلامية في 11 نوفمبر الماضي، كما التقى فيدان في الرياض بنظيره الأميركي أنتوني بلينكن، وعلى ما يبدو أنه "أبلغه أن تركيا ستعلن عن قرارات ضد إسرائيل، كما أن تركيا أرادت بإعلانها هذه القرارات الضغط على الدول الإسلامية لاتخاذ إجراءات مماثلة".
وتضيف جولر، "من جهة أخرى، الرد الإسرائيلي الأولي على تركيا جاء على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، حيث اتهم أردوغان بأنه "ديكتاتور يستخف بمصالح الشعب التركي"، محذراً من رد إسرائيلي أميركي على الخطوات التركية، لكن حقيقة أن إسرائيل اختارت الرد على الإجراءات التي اتخذتها أنقرة على مستوى وزير الخارجية، وعدم صدور بيان من الرئاسة الإسرائيلية أو مكتب رئيس الوزراء، "تحمل أيضاً رسالة في حد ذاتها، إذ أن إسرائيل تعلم أن تركيا ستلعب دوراً في إحلال السلام في المنطقة بعد الحرب، ولهذا السبب، يظهر الانطباع بأن إسرائيل تحاول إبقاء التوتر بين البلدين تحت السيطرة بدلاً من تصعيده".
وتختم الدبلوماسية التركية السابقة حديثها لـ"الشرق" بالقول: "لن يكون من الخطأ وصف إجراءات أنقرة وموقفها المعلن بأنه شجاع للغاية".
خسائر اقتصادية للطرفين
ورفض اتحاد الصادرات التركية الإجابة على سؤال لـ"الشرق" بشأن تأثر الاقتصاد التركي بالقرارات التي اتخذتها أنقرة مؤخراً.
أما الباحث في مركز كاندل للدراسات في إسطنبول أحمد حسن، فقال في حديثه لـ"الشرق"، إنه "بالتأكيد هناك خسائر اقتصادية للجانبين، بالنسبة لتركيا فإن الخسارة الاقتصادية تتمثل في خفض الهدف التصديري العام لتركيا من 267 مليار دولار للعام الحالي إلى 260 مليار في حال لم يتخذ قرار انهاء القيود خلال ثلاثة أشهر، بالإضافة للضغوط التعويضية على الشركات والحكومة التركية لأن الاتفاقيات التجارية تسير وفق نظام تأمينات دولية قد تلجأ الشركات الإسرائيلية لها، أيضاً ستواجه تركيا ضغوط داخلية من سوق العمل والتصدير في حال لم تقم الحكومة التركية في توفير بدائل لهم ضمن الظروف الاقتصادية الحالية".
ويضيف حسن، بأن "الخسائر الإسرائيلية تتمثل في ارتفاع أسعار مواد البناء والمواد الإلكترونية والكيماوية في إسرائيل بنسبة تتراوح ما بين 25 إلى 40% حسب المسارات البديلة وإمكانية توفير أسواق أخرى، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الطازجة (الخضار والفواكه والمشتقات الحيوانية) بأكثر من النصف وقد تصل إلى الضعف بسبب الطلب وقلة الأسواق البديلة".
ويتابع الباحث في مركز كاندل، أن "حكومة نتنياهو ستواجه أيضاً ضغوطاً داخلية من سوق العمل والإنتاج إضافة إلى ضغوط الحرب، عدا عن إمكانية قيام دول أخرى باتباع النموذج التركي وهذا يهدد أيضاً الاقتصاد الإسرائيلي".