"معضلة كورسك".. مغامرة زيلينسكي الاستراتيجية للرهان على تغيير مسار حرب أوكرانيا

time reading iconدقائق القراءة - 13
جنود أوكرانيون فوق مركبة عسكرية بالقرب من الحدود الروسية في منطقة سومي شمال شرقي أوكرانيا. 11 أغسطس 2024 - REUTERS
جنود أوكرانيون فوق مركبة عسكرية بالقرب من الحدود الروسية في منطقة سومي شمال شرقي أوكرانيا. 11 أغسطس 2024 - REUTERS
موسكو -الشرق

فاجأ الغزو الأوكراني لمنطقة كورسك في روسيا، والذي تم الإعداد له في أقصى درجات السرية، وزارة الدفاع الروسية. كما فاجأ أوساطاً كثيرة داخل موسكو وخارجها. من كان يتوقع قبل 30 شهراً، عندما أطلق الرئيس فلاديمير بوتين "العملية العسكرية الخاصة" التي سرعان ما انقلبت حرباً واسعة هي الأخطر منذ عقود كثيرة، أن يقع تطور مباغت يقلب الحسابات، ويضع الروس أمام مشهد "غير مسبوق" منذ الحرب العالمية الثانية، حين كانت الدبابات الألمانية تتجول داخل أراض روسية، وناقلات الجنود والمدرعات الغربية تضع خطوط تماس جديدة، وتعزز تحصيناتها في العمق الروسي.. مشهد  أصبح، على حد تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن "معضلة حقيقية" لبوتين.

خلال الأسبوع الأول من الهجوم، وفقاً للسلطات الأوكرانية، أصبحت أكثر من 80 بلدة وقرية روسية على مساحة تزيد عن 1000 كيلومتر مربع تحت سيطرة القوات المسلحة الأوكرانية، (وفقاً لتقديرات "الشرق" يبلغ حجم السيطرة الفعلية على الأراضي ما يقرب من 50 بلدة على مساحة تقارب 800 كيلومتر مربع).

ولكن في كل الحسابات، يبدو هذا  التطور غير مسبوق. ومزعجاً للغاية لموسكو التي فاخرت خلال الأشهر الأخيرة، بتسجيل "انتصارات ميدانية"، وخصوصاً منذ السيطرة على بلدة أفدييفكا الاستراتيجية قرب دونيتسك في فبراير الماضي.

حالياً، تبدو السلطات الروسية منشغلة بإحصاء الخسائر وإعادة ترتيب أولوياتها على الجبهة. وتقوم على عجل بإجلاء سكان المناطق الحدودية، ونقل عسكريين من قطاعات أخرى على الجبهة إلى المنطقة. كما تقوم بتعزيز خطوطها الخلفية، والتمهيد ربما لـ"هجوم مضاد" قد لا يطول أمده كثيراً. 

 مجريات الهجوم وحسابات كييف

الخارجية الأوكرانية شددت على أن كييف "لا تسعى إلى احتلال الأراضي الروسية"، مشيرة إلى أن العملية الهجومية في كورسك "تهدف فقط إلى حماية الأوكرانيين"، أي منع قصف سكان منطقة سومي الحدودية. لكن الرئيس فولوديمير زيلينسكي لم يخف أن لديه أهدافاً استراتيجية بعيدة المدى. عندما تحدث عن مسعى لـ"تعديل موازين القوى"، ودفع موسكو للتفكير في "سلام عادل" عبر نقل الصراع إلى داخل العمق الروسي.

عموماً، تشمل العملية في كورسك، وفقاً لتقديرات الباحث في مؤسسة "كارنيجي" مايكل كوفمان، في تصريحاته لـ"الشرق"، حوالي 10 آلاف عسكري، أي من 6 إلى 8 ألوية أوكرانية. على ما يبدو، هذه هي القوات الخاصة، والهجوم الجوي، والألوية الآلية، والوحدات المساعدة المنتشرة من منطقتي خاركيف ودونيتسك.

واخترق الجيش الأوكراني بسهولة الخطوط الروسية الدفاعية الأولى، التي كان يحرسها حرس الحدود، وتقدم في عمق الأراضي الروسية في 4 إلى 5 اتجاهات على الأقل. ووفقاً لتقديرات خبراء عسكريين، فإنه بعد اليوم الرابع من العملية، ربما تباطأت وتيرة التقدم بشكل ملحوظ، لكن القوات الأوكرانية كانت قد نجحت في تحصين مواقعها الجديدة.

وكان رد فعل روسيا الأولي فوضوياً في البداية، ولكن بعد ذلك بدأت وزارة الدفاع في نقل القوات من روسيا، ومن بعض قطاعات الجبهة الأوكرانية للمساعدة.

نشرت أوكرانيا في هجومها على كورسك، قواتاً كبيرة، ولكن ليست كبيرة جداً، لذلك ليس من الواضح ما إذا كانت القوات الأوكرانية لديها الاحتياطات اللازمة لمواصلة العملية والسيطرة على الأراضي المحتلة.

لا شك أن الهجوم بشكله وآليات تنفيذه، "لم يكن من الممكن أن ينجح دون دعم لوجستي واستخباراتي من جانب الدول الغربية، لكنه بالتأكيد فاق توقعات حتى أولئك الذين خططوا له.

ذروة التوغل

في 7 أيام، استولى الجيش الأوكراني على مساحة من أراضي روسيا تقريباً تعادل ما احتله الجيش الروسي في أوكرانيا منذ بداية عام 2024 (1175 كيلومتراً مربعاً).

ومن المرجح أن يصل التوغل إلى ذروته في الأيام المقبلة، حيث تبدأ القوات بالشعور بالتعب، وتضعف خطوط الإمداد. خصوصاً مع الكثافة النارية غير المسبوقة التي أطلقتها موسكو على مواقع الإمداد في مدينة سومي الأوكرانية الحدودية.

على المدى القصير، أصبحت إنجازات القوات المسلحة الأوكرانية واضحة بالفعل. ولأول مرة منذ عدة أشهر، استولت أوكرانيا على زمام المبادرة على الجبهة وسيطرت على الوضع، كما يشير كونراد موزيكا، رئيس شركة "روشان" الاستشارية البولندية المتخصصة في تحليل الصراعات العسكرية، في تصريحاته لـ"الشرق".

أظهرت كييف أن "خط المواجهة لا يزال مائعاً وبعيداً عن التجمد"، وهي حقيقة يمكن أن تلعب دوراً في المفاوضات المستقبلية. ومع ذلك، يحذر موزيكا من أن الجيش الأوكراني قد يتكبد خسائر فادحة عندما تجمع روسيا قواتاً كافية في المنطقة لشن هجوم مضاد.

ولا توجد حالياً علامات تذكر على المقاومة على الأرض. برغم المواجهات الضارية في بعض المناطق، وعلى الرغم من الضربات الكثيفة للجيش الروسي على مناطق تجمع القوات الأوكرانية المتوغلة. وقد تمكنت القوات المسلحة الأوكرانية من القبض على عدد كبير من العسكريين الروس، معظمهم من المجندين وجنود الحرس الروسي.

مغامرة زيلينسكي

لقد وضع الرئيس الأوكراني رؤيته لتطور الوضع، ولأهداف عمليته العسكرية عندما قال بعد مرور أيام على بدء الهجوم، أن كييف تسعى إلى "نقل الحرب" داخل روسيا، وقال إن أوكرانيا "تثبت أنها قادرة على ممارسة الضغط الضروري؛ الضغط على المعتدي". 

وعندما بدأ التوغل، في السادس من أغسطس الجاري، بدا الأمر كأنه "عرض آخر للشجاعة العسكرية من قِبل "الفيلق الروسي"، وهو واحدة من مجموعات الميليشيات المناهضة لبوتين، لكن بعد مرور يومين فقط أصبح من الواضح أن كييف نفسها تحاول توجيه ضربة استراتيجية مضادة لروسيا.

وفقاً لتقارير صحافية غربية فإن "بصمات الرئيس زيلينسكي الشخصية موجودة في كل تفاصيل هذا الهجوم، لقد كان سراً (مذاعاً) في كييف لعدة أشهر أن الرئيس كان يضغط على قادته العسكريين لشنّ هجوم صيفي"، ونظراً للمشكلات المتعلقة بالقوى البشرية والموارد في أوكرانيا، فقد كان القادة متردّدين، لكن زيلينسكي كان يسعى جاهداً إلى عكس السرد القائل بأن أوكرانيا تخسر الحرب.

وحاول زيلينسكي إيجاد طريقة لوقف خسارة المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا، وتعطيل هذه الديناميكية أو عكسها. وهذا الخيار العسكري الاستراتيجي هو أسلوب إلى حد كبير "جريء ومحفوف بالمخاطر" وفقاً لتعبير معلق عسكري.

أما القادة الغربيون فهم يشعرون بالقلق، حيث يتم الآن استخدام بعض المعدات الأرضية (مركبات قتالية مدرّعة، ومركبات مشاة مدرّعة، وقاذفات صواريخ، ومدافع هاون، ووحدات دفاع جوي أرضية) لحلف شمال الأطلسي "الناتو" داخل روسيا، وهو ما يمثّل تجاوزاً لعتبة أو خط أحمر آخر، ولو أن القادة الأوكرانيين طلبوا الإذن الغربي مسبقاً لما حصلوا عليه، لذلك أقدم زيلينسكي على الهجوم دون تنسيق واسع، وفقاً لتقديرات، مع الغرب. وهذا يفسر أن واشنطن في الأيام الماضية قالت إنها "تنتظر معلومات إضافية من كييف بشأن الهجوم".

لكن مغامرة زيلينسكي محفوفة بالمخاطر؛ إذ ليس أمام موسكو الآن خيار سوى القيام بكل ما يلزم لوقف هذا التوغل، ولا يمكن للضربة المضادة الأوكرانية في كورسك أن تحقّق سوى أهداف محدودة.

وكحد أقصى، قد تأمل القوات الأوكرانية حول كورسك في توسيع نطاق وصولها إلى ما هو أبعد من احتلال محطة الطاقة النووية فيها، لمعادلة احتلال روسيا لمحطة زابوروجيا الأوكرانية في عام 2022، لكن هذه الأهداف ستعتمد على المدة التي ستستغرقها العملية، وبأي طريقة يمكن للأوكرانيين الصمود داخل كورسك.

ارتباك روسي

في المقابل،  حير فشل روسيا في شن هجوم مضاد سريع، الأوكرانيين والحلفاء الغربيين. ولم تقم وزارة الدفاع الروسية حتى الآن بنقل قواتها على نطاق واسع من دونباس (شرقي أوكرانيا) إلى منطقة كورسك. تبرير ذلك بسيط للغاية، إذ أن موسكو ترى أن "بين أبرز أهداف التوغل الأوكراني تخفيف الضغط عن قطاعي خاركيف ودونيتسك"، لذلك حرص بوتين خلال اجتماعات القيادة العسكرية على التأكيد أن الهجوم الروسي في العمق الأوكراني لم ولن يتأثر. وأكثر من ذلك، أن بوتين حاول التقليل من أهمية وحجم التوغل، ووصف الهجوم الأوكراني في منطقة كورسك الذي يعد أكبر غزو أجنبي لروسيا منذ الحرب العالمية الثانية، بأنه مجرد "استفزاز واسع النطاق" أو ببساطة "موقف".

والمتابع للبيانات العسكرية الروسية يلاحظ أن التركيز الأساسي فيها على مجريات القتال داخل أوكرانيا، وأن القوات الروسية تحرز تقدماً هنا أو هناك، في حين لا تشرح البيانات الوضع على جبهة كورسك بدقة.

تحرك الهجوم بسرعة كبيرة، وكان رد فعل الروس بطيئاً للغاية، ما دفع أوكرانيا إلى ربما إعادة النظر في أهدافها. في البداية، كانت كييف مدفوعة بالرغبة في رفع معنويات الأوكرانيين وتحفيز الدعم العسكري من حلفائها الغربيين. بالإضافة إلى ذلك، سعت القوات المسلحة الأوكرانية إلى تحويل القوات الروسية عن خط المواجهة في منطقة دونيتسك، حيث تتقدم القوات المسلحة الروسية بالقرب من توريتسك وبوكروفسك وتشاسوفوي يار. وهذا يفسر حديث العسكريين الأوكرانيين بعد مرور أسبوع على بدء هجوم كورسك، عن خطط لـ"إنشاء منطقة عازلة على الأراضي الروسية"، أو تعزيز تحصينات إضافية فيها.

ويعتقد دارا ماسيكوت، وهو زميل بارز في برنامج روسيا وأوراسيا في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، في تصريحات لـ"الشرق"، أن اختيار أوكرانيا لمنطقة كورسك كهدف للهجوم "ليس عن طريق الصدفة. بل بناء على معلومات استخباراتية غربية دقيقة حول وضع القوات التي تحمي المنطقة، وضعف خطوط الإمداد فيها". ويعتقد ماسيكوت، أن هذه المجموعة من القوات الروسية أضعف بكثير من غيرها.

وقد نجحت القوات المسلحة الأوكرانية في استخدام مناطق المسؤولية الموزعة بين جهاز الأمن الفيدرالي والحرس الوطني الروسي ووزارة الدفاع في الاتحاد الروسي. ويخلص ماسيكوت إلى أن "هذه الحرب أضعفت حدود روسيا، وانجذب الجيش إلى الحرب في أوكرانيا ولم يتمكن من حماية المناطق الحدودية على الفور، وتركت قوات الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي دون دعم". 

سيناريوهات تطور الموقف

يتوقع الجنرال الأسترالي المتقاعد ميك رايان، في تصريحاته لـ"الشرق" ثلاثة سيناريوهات لتطور الأحداث في منطقة كورسك. يتضمن النهج الأول الأكثر اندفاعاً محاولة التمسك بالأراضي التي تم الاستيلاء عليها، أو حتى التقدم أكثر من أجل سحب المزيد من القوات الروسية من أوكرانيا والحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية.

 لكن هذا أمر محفوف بالمخاطر، كما يشير المحلل، لأنه سيكون من الصعب على القوات المسلحة الأوكرانية، توفير غطاء للحرب الإلكترونية والدفاع الجوي حتى للقوات المتمركزة جيداً في مثل هذه المنطقة الواسعة. ويدرك الجيش الأوكراني مدى خطورة القنابل الموجهة الروسية على المواقع الدائمة. بالإضافة إلى ذلك، سيتعين على القوات المسلحة الأوكرانية تحويل الموارد من خط المواجهة على أراضيها، وستؤدي الخسائر في منطقة كورسك إلى تقويض المزاج الإيجابي الذي وفره نجاح الهجوم.

الخيار الثاني، بحسب رايان، يتضمن "التراجع وإنقاذ القوات والمعدات وإعادة تجهيزها وقد تسلحت بروح معنوية عالية، في محاولة تحرير أراضيهم في العام المقبل". لقد أظهرت أوكرانيا قدرتها على خوض حرب في روسيا وقوضت رواية "انتصار موسكو المؤلم ولكنه الحتمي في الحرب" التي تكتسب شعبية بين بعض الحلفاء.

 أما الخيار الثالث فهو الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أماناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية. وسيتطلب الأمر، قواتاً أقل، وتوفير دعم مدفعي أفضل ولوجستيات أفضل، وتوفير قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل.

ويشير مصدر مجلة "الإيكونوميست" في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية، إلى أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً. وقد تم بالفعل نقل جزء من الخدمات اللوجستية (قوات الهندسة والوقود والمستشفيات الميدانية وقواعد الغذاء والإصلاح) على بعد عدة كيلومترات إلى عمق الأراضي الروسية.

 أما بالنسبة لأهداف القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة كورسك، فيصف مايكل كوفمان السيناريوهين الأكثر احتمالاً. أولاً، استخدام هذه العملية لإجبار القوات الروسية على مغادرة منطقة خاركيف. وثانياً، "إذا لم تكن هناك احتمالات لمثل هذه الصفقة، فيجب إجبار وزارة الدفاع الروسية على وقف العمليات الهجومية في قطاعات أخرى من الجبهة وإعطاء المقاتلين الأوكرانيين فترة راحة".

في الوقت نفسه، يعترف كوفمان بأن القوات المسلحة الأوكرانية أضعفت بالفعل خطوطها باستخدام الاحتياطيات لتنفيذ هذه العملية، ومن الواضح أنها خاطرت على طول خط المواجهة بأكمله. ويشير المحلل إلى أن "هذه الخطوط بدأت تتدلى بالفعل، خاصة خلال الأسبوع الماضي". "ورغم أنه من الصحيح أن الجيش الروسي قد سحب بعض الوحدات من قطاعات أخرى من الجبهة، إلا أنه لا يوجد دليل على توقف الهجوم الروسي في بوكروفسك أو توريتسك أو تشاسوفوي يار أو بالقرب من كوبيانسك.

يعتمد الكثير على مجرى تطور الموقف في الأيام المقبلة. لكن المؤكد، أن الهجوم الناجح حتى الآن، "لا يمكن أن يؤدي إلى تغيير طويل الأمد في  هذه الحرب".

تصنيفات

قصص قد تهمك