مع تفاقم الأزمات.. أوروبا تتجه مجدداً إلى الإنفاق الضخم

time reading iconدقائق القراءة - 8
جانب من الاحتجاجات في ألمانيا ضد زيادة أسعار الطاقة وارتفاع كلفة المعيشة في مدينة لايبزج. 5 سبتمبر 2022. - REUTERS
جانب من الاحتجاجات في ألمانيا ضد زيادة أسعار الطاقة وارتفاع كلفة المعيشة في مدينة لايبزج. 5 سبتمبر 2022. - REUTERS
دبي -الشرق

غيّرت المواجهة مع روسيا على خلفية غزو أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة، مفاهيم اقتصادية تقليدية للاتحاد الأوروبي، ودفعت الحكومات إلى حلول قديمة تشمل المساعدات النقدية، وتحديد سقف للأسعار والضرائب، وهي عناصر تشير إلى عودة التكتل إلى اقتصادات القرن الـ20، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز".

وقالت الصحيفة الأميركية في تقرير، الجمعة، إنّ الحكومات تهرع إلى حلول المدرسة القديمة، التي طالما رفضتها باعتبارها "سياسات سيئة"، وتلقي بكميات هائلة من الأموال في أتون أزمة الطاقة التي تجتاح المنطقة، لتجنب الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

وأسهمت المواجهة مع روسيا، في تقلب السياسات الاقتصادية التقليدية بسرعة كبيرة دون معارضة تذكر في مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل، معقل "الليبرالية الجديدة" الذي فرض منذ وقت غير بعيد تقشفاً قاسياً على أعضائه، لا سيما اليونان، حتى بعدما بات واضحاً الأضرار التي تنجم عنه.

ولكن لا يرى قادة الاتحاد الأوروبي أمامهم سوى القليل من الخيارات أخيراً، بعد ما خفضت روسيا إمداداتها من الغاز الطبيعي لمعظم دول الاتحاد، رداً على الدعم القوي الذي تقدمه لأوكرانيا، وبعدما بلغت كلفة الوقود، ومن ورائها الكهرباء، مستويات قياسية، ولا تزال آخذة في الارتفاع.

وأشارت الصحيفة إلى أنّ حكومات الاتحاد الأوروبي خصصت بالفعل "أكثر من 350 مليار دولار" لدعم المستهلكين، والمصنعين، وشركات المرافق.





ومن ثم فقد تقرر أن يجتمع وزراء دول الاتحاد، الاثنين، لوضع اللمسات الأخيرة لتدخل الكتلة بشكل مباشر في الأسواق لجني الأرباح الزائدة، وتحديد سقف لأسعار الكهرباء، ودعم شركات المرافق.
 
وفي السياق، قال مدير شؤون أوروبا في شركة "أوراسيا" للاستشارات مجتبى الرحمن، إنّ "تدخل الحكومات عاد بشكل فج، وعلى نطاق واسع".

وأضاف أنّ "الأمر يتعلق حقاً ببناء دعم شعبي، من خلال ما سيكون شتاءً بالغ القسوة وعام (2023) شديد الصعوبة، لمواجهة العدوان الروسي، وتعزيز النظام العالمي الليبرالي، والحاجة إلى بناء دعم شعبي يُنظر إلى الصراع من خلاله"، مؤكداً أن "هذه هو الثمن الذي يجب تكبده".

وبحسب الصحيفة الأميركية، "يضاف الإنفاق العام الضخم إلى حزمة تحفيز تبلغ قيمتها نحو تريليون دولار"، تم تبنيها خلال العام الماضي لمواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة كورونا، في الغالب من خلال الاقتراض.

"وضع استثنائي"

ومن الطبيعي، أن يؤدي تفاقم عبء الديون إلى "إثارة ضجة" داخل الكتلة، التي هيمن فيها المحافظون الماليون على وضع السياسات العامة، والتوجه السياسي لسنوات.

واعتبرت الصحيفة أن "انزواء المعارضة" يمثل "مقياساً لمدى خوف صناع السياسات من أن ينوء المستهلكون ورجال الأعمال الأوروبيون بعبء الارتفاع الفلكي والمفاجئ في تكاليف الطاقة، والدخول في أوج اضطرابات اجتماعية وفوضى سياسية، فضلاً عن نفق الركود".

إزاء ذلك، حذر رئيس وزراء بلجيكا، ألكسندر دي كرو، في مقابلة مع "بلومبرغ"، الخميس، من أن "أسابيع قليلة على هذا النحو وستتوقف عجلة الاقتصاد الأوروبي تماماً"، مضيفاً أن "الخطر الناجم عن ذلك هو توقف التصنيع، والدخول في نفق الاضطرابات الاجتماعية المدمرة".

ونظراً لأن ذكريات حركة "السترات الصفراء" في فرنسا، التي نشأت كموجة احتجاجية على زيادة ضرائب الطاقة، لا تزال شاخصة أمام الأعين، فإن إنفاق المليارات، والعودة إلى العقيدة القديمة قد يكونا "الوسيلة الوحيدة للمحافظة على الناخبين إلى جانب الدعم الأوروبي القوي لأوكرانيا ضد روسيا"، وفقاً لـ"نيويورك تايمز".

في هذا الإطار، وصف الخبير الاقتصادي الألماني دانيل جروس، والذي يتبنى عادة مواقف مالية محافظة، ويدير مركز دراسات السياسة الأوروبية، للأبحاث ومقره بروكسل، هذا الوضع بأنه "استثنائي بوضوح".

وأوضح أنّ الأمر "مختلف تماماً عن ارتفاع معدلات البطالة أو الزيادة الهيكلية في المزايا الاجتماعية إلى الأبد، لأنه في نهاية المطاف، يبقى وضعاً خاصاً لن يستمر إلى الأبد".

ولفتت الصحيفة إلى أنّ القادة الأوروبيين يأملون ذلك، لأنه، سيكون "من الصعب الاستمرار على هذا المستوى من الإنفاق".

وأعلنت الحكومة الألمانية، الأحد الماضي، حزمة دعم بقيمة 65 مليار يورو، وهي الحزمة الثالثة والكبرى على الإطلاق حتى الآن، وتتضمن معونات نقدية مباشرة للمستهلكين الأكثر عرضة للتضرر، وإعفاءات ضريبية للشركات كثيفة الطاقة.

وعلى نحو مماثل، قدمت الحكومة البلجيكية 100 دولار لجميع الأسر بغض النظر عن الدخول. وخصصت الحكومة اليونانية، التي ستواجه صناديق الاقتراع في العام المقبل، نحو 7 مليارات دولار، أو ما يعادل 4% من ناتجها الاقتصادي السنوي، في الأشهر الثلاثة الماضية، لدعم جميع فواتير الطاقة في البلاد.

ولتمويل معظم هذا الإنفاق، فرضت أثينا بالفعل ضريبة على فائض إيرادات شركات الطاقة التي تستخدم مصادر بخلاف الغاز الطبيعي.

والأحد، دفعت الضغوط الحكومة التشيكية إلى الإعلان عن تدابير دعم تكاليف الكهرباء بعد أن نجت بأعجوبة من تصويت بحجب الثقة.

مؤشر على الاضطرابات

وفي مؤشر مبكر على اضطرابات نطاق أوسع يمكن أن تتمخض عنها الأزمة الاقتصادية الخانقة، خرج عشرات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع في العاصمة التشيكية براج، نهاية الأسبوع الماضي، في مظاهرات موسعة، بدت أنها تحت قيادة مجموعات متطرفة، احتجاجاً على عضوية البلاد في منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ودعمها لأوكرانيا.

وأكدت الصحيفة أنه "بعيداً عن المساعدات النقدية والدعم، لا تزال عمليات التدخل في السوق جارية على قدم وساق".
 
ونقلت عن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، قولها، الأسبوع الماضي، إن "سوق الكهرباء لم يعد سوقاً عاماً، لأن هناك فاعلاً واحداً، وهو (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، يُحاول التلاعب به وتدميره بشكل منهجي".



وأضافت فون دير لاين: "لذلك يجب علينا حقاً الرد على ذلك. وهذا هو السبب في أننا نسعى الآن إلى بناء سوق كهرباء".

"تغيير حتمي"

وفيما يصر قادة الاتحاد الأوروبي على أن هذا التحول مؤقت، رأت الصحيفة أن عملية التغيير تبقى "حتمية"، إذ "تجاوز متوسط العجز في دول الاتحاد ضعف الحد المسموح به، واقترب متوسط الدين من 90% من الناتج الاقتصادي".

ونحت ألمانيا التي تمثل الاقتصاد الأكبر في الكتلة، وثقلها المالي، التي ينص دستورها على خفض الديون، هذا الأمر جانباً في الوقت الحالي، إذ تخرق قواعد الاتحاد الأوروبي (المعطلة الآن)، ولا تبدو قلقة حيال ذلك.

وأشار كبار صانعي السياسات في الاتحاد الأوروبي إلى "ضرورة تغيير هذه القواعد إلى الأبد"، فيما قد يصبح "إحدى أهم المراجعات" خلال هذا الجيل للسياسة الاقتصادية الليبرالية السائدة في الغرب، ما سيترك تداعيات عميقة على السياسة والمجتمع.

والأربعاء، قال كبير المسؤولين الاقتصاديين في الاتحاد الأوروبي باولو جينتيلوني، إن "جائحة كورونا خلفت إرثاً من مستويات الدين العام والخاص بالغة الارتفاع، ما جعل الحاجة إلى إعادة بناء هوامش أمان مالي مُلحة".

واستدرك قائلاً: "ولكن استراتيجيات خفض الديون يجب أن تتحلى بالواقعية لضمان الاستقرار ودعم النمو"، محذراً من أن "الاتحاد قد ينزلق إلى نفق الركود".

وقال إن الاتحاد الأوروبي سيبدأ بحث إجراء تغييرات على قواعده المالية الصارمة لجعلها أكثر مرونة، وأكثر انسجاماً مع الدورة الاقتصادية". وأضاف: "لقد حان الوقت للمضي قدماً، مخلفين وراء ظهورنا الانقسام التقليدي".

أما بالنسبة للاقتصاديين اليساريين الذين يعارضون التقشف منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية وحقبة التقشف التي أطلقتها، فتمثل هذه اللحظة، وفقاً لـ"نيويورك تايمز"، "انتصاراً أيديولوجياً باهظ الثمن في أحسن الأحوال".

في هذا السياق، وصف فرانك فان ليرفن، كبير الاقتصاديين في مؤسسة الأبحاث البريطانية "نيو إيكونوميكس فاونديشن"، الوضع بأنه "مأساوي حقاً".

وقال إنه "على مدى السنوات العشر الأخيرة وأكثر، قالوا لنا إنه على العاملين والمتقاعدين والشباب جميعاً أن يضحوا، وإنه يجب علينا أن نحيا بطريقتنا حتى صرنا نعاني من بنية تحتية متهالكة ونظام صحي متداعٍ".

واختتم حديثه قائلاً: "كان كل ذلك عبثاً. لقد تجلت هذه العقيدة بوضوح كأيديولوجية سياسية ضيقة الأفق، وخالية من التفكير في الاقتصاد الكلي، وسلاح لخدمة أهداف سياسية ضيقة".

اقرأ أيضاً:

 

تصنيفات