سلَّط رحيل الملكة إليزابيث الثانية الضوء مجدداً على قصة الملكية البريطانية، وطبيعة الدور الذي يقوم به الملك والأسرة المالكة في النظام السياسي خاصةً مع امتداد هذا الوضع عدة قرون وسط تكيف الملوك والملكات مع متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ضخمة في الداخل والخارج.
المسؤولون والنواب في المملكة المتحدة يقسمون بالولاء للملك وليس للدولة. فهو حامي "الإيمان" أو "العقيدة المسيحية" بوصفه الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليكية. كل الوثائق الرسمية تصدر باسمه، كما تحمل الطوابع والعملات صورته. أما فيما يتعلق بإدارة البلاد فإن عمل رئيس الوزراء والبرلمان يفوق صلاحيات الملك ويتجاوزها بكثير.
نظرياً، قد يبدو أن الملك يتمتع في المملكة المتحدة بصلاحيات كثيرة، لكنه "يحكم ولا يحكم" كما يقال، فالبرلمان والحكومة يديران البلاد باسمه وبصلاحياته. أما هو وأفراد أسرته فيمثلون تاريخ الدولة، وينسجون علاقاتها الودية مع شعوب ودول العالم، كما يعكسون الوجه الإنساني لها من خلال رعاية الجمعيات والمؤسسات التي تهتم بالإنسان وبيئته وصحته.
الملكية الدستورية التي ورثتها إليزابيث الثانية أفرزتها 800 عام حافلة بالنزاعات بين الشعب والأسرة الملكية، والتي بدأت عام 1100 ميلادية عندما أصدر الملك هنري الأول ميثاق الحريات الذي التزم فيه ببعض القوانين المتعلقة بمعاملة المسؤولين في الكنيسة والنبلاء، وانتهى عندما تحولت الملكية إلى حالة وصفها البعض بـ "الجمهورية السرية"، في إشارة إلى طبيعة النظام السياسي.
الاستشارة والتشجيع والتحذير
الدستور غير المكتوب في المملكة المتحدة منح الملك حق التكليف بتشكيل الحكومة. ولكنه يُكلِف من يرأس الحزب الفائز بالانتخابات البرلمانية أو من تتفق الأحزاب على توليه هذا المنصب. يواظب رئيس الوزراء على لقاء الملك أسبوعياً بغرض التشاور، ولكن الملك لا يستطيع الاعتراض أو إعاقة أي من السياسات والقرارات الحكومية.
للملك وفق القوانين والأعراف المتناقلة عبر عقود أو ربما مئات السنين، ثلاثة حقوق على السلطة التنفيذية، أولها الحق في أن يُستشار، وثانيها الحق على التشجيع، وثالثها الحق في التحذير. ولكن أياً من هذه الحقوق الثلاثة لا يمنحه السلطة للتدخل في توجيه الحكومة نحو إجراء معين، حتى ولو كان قرارها يعارض رغبته ولا يتفق مع رؤيته.
على سبيل المثال لا الحصر، لم تكن الملكة إليزابيث الراحلة مؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ولكنها لم تمنع ذلك. سجلت الملكة اعتراضها في أكثر من موقف، ولكنها قبلت بنتائج الاستفتاء الذي أجري عام 2016، وأيد فيه 52% من البريطانيين "بريكست"، ثم وقع طلاق لندن وبروكسل بشكل نهائي في عام 2020.
الملكة إليزابيث عاصرت 15 رئيس وزراء في بريطانيا، بدايةً من ونستون تشرشل وصولاً إلى ليز ترَس التي كلفتها بتشكيل الحكومة قبل 3 أيام فقط من رحيلها، وذلك مروراً بأول سيدة تسلمت هذا المنصب في تاريخ المملكة المتحدة مارجريت تاتشر عام 1979 التي شهدت العلاقة بينهما احتكاكاً بسيطا من أجل منظمة الكومنولث.
خلال قمة الكومنولث في زامبيا عام 1979، كانت رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر على خلاف مع زعماء المنظمة لرفضها فرض عقوبات على جنوب إفريقيا بسبب نظام الفصل العنصري. إلا أن الملكة ساندت الزعماء وساعدتهم في الوصول إلى صيغة بيان مشترك وقعَّت عليه تاتشر، يضمن وحدة الصف في المنظمة، ويحمل إشارة إلى رفض الفصل العنصري.
في ويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية أيضاً يعين الملك القادة وفقاً للآلية ذاتها المتبعة في بريطانيا. فهم أشخاص ظفرت أحزابهم بالانتخابات، واختارهم الناس لرئاسة الحكومة. وإن كان للملك اعتراض على قرار صادر في أي من الدول الثلاث، فيمكنه الاعتراض عليه أو الطعن فيه عبر القضاء، وليس من خلال إلغائه بشكل شخصي وفردي.
العلاقة مع البرلمان
بالنسبة للعلاقة مع البرلمان، الملك يمتلك حق افتتاحه أو تأجيل بدء عمله. وله الحق أيضاً في حله بطلب من رئيس الوزراء، ومشورة مع الأحزاب السياسية المعنية. صحيح أن القوانين التي يقرها البرلمان تحتاج إلى مصادقة الملك الذي يمكن أن يرفض نظرياً، إلا أن هذا الأمر لم يحدث منذ ما يزيد عن 300 عام، واللجوء إليه لا يمكن حدوثه دون مبرر.
الحقوق السيادية للملك نقلت بالكامل تقريباً إلى البرلمان. ووفقاً لتقرير برلماني صادر عام 2002، لا يجوز للتاج أن يسن حقوقاً جديدة متعلقة بالسيادة، ويحق للبرلمان إصدار قانون بإلغاء أي حق سيادي للملك، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أن المصادقة على الوثائق الرسمية الهامة، بما فيها براءات الاختراع والمراسيم وقرارات الانتخابات، تكون بختم التاج.
نظرياً، يحق للملك إعلان الحرب وقيادة الجنود لأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة. كما يجوز له إبرام التحالفات والتفاوض على الاتفاقيات الدولية والتصديق عليها. هذا بالإضافة إلى أنه من يعتمد السفراء والمفوضين الساميين ويستقبل الدبلوماسيين الأجانب. ولكن عندما يؤثر أي من هذا على قوانين المملكة المتحدة تصبح موافقة البرلمان ضرورية.
واقعياً، تصدر قرارات الحرب والسلام عن البرلمان. ومشاركة المملكة المتحدة في حرب العراق عام 2003 مثال واضح على ذلك. وقد حدثت رغم أن الملك الحالي تشارلز الثالث كان معارضاً لها عندما كان ولياً للعهد. ومن الأمثلة أيضاً رفض مجلس العموم طلب رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون الانخراط في الحرب السورية عام 2013.
اختبارات الملكة إليزابيث
يرى المؤرخ جون ماكهوجو، أن الملكية البريطانية في عهد إليزابيث الثانية مرت بـ 3 اختبارات رئيسية، أولها خلال الخمسينيات والستينيات في القرن الماضي، والثاني بعد وفاة الأميرة ديانا، أما الثالث فهو بعد الفضائح التي طالت الأسرة الملكية منذ بداية الألفية الثالثة، منوهاً إلى أن الملكة الراحلة تمكنت من التعامل بحكمة مع هذه الاختبارات.
يقول ماكهوجو في حديث مع "الشرق"، إنه بعد تسلم الملكة إليزابيث العرش عام 1952، كانت الأسرة الملكية تعيش بعيدة تماماً عن البريطانيين، ما خلق تساؤلات لدى فئات الشعب المختلفة، وجعل حياة الملكة وعائلتها في تلك القصور والقلاع غامضة ومليئة بالألغاز. الأمر الذي خلق ضرورة لصياغة العلاقة مجدداً بين العامة والعائلة الملكية.
ويوضح المؤرخ البريطاني أن إليزابيث الثانية تعاملت مع تململ البريطانيين من الملكية على مستويين مختلفين، الأول تمثل في ممارسة الأسرة المالكة دوراً أكبر في الحياة العامة فظهر أفراد العائلة أكثر تفاعلاً وحيوية. وكان للفيلم الوثائقي الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية عام 1969، دوراً حاسماً في قبول الشعب للعائلة الملكية كأسرة تشبه في حياتها وممارساتها الكثير من العائلات البريطانية في الدول الأربعة للمملكة المتحدة.
الاختبار الثاني، كان مرتبطاً بالعلاقة بين دول الكومنولث بعد تفكك الإمبراطورية البريطانية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذ بذلت الملكة الراحلة جهداً كبيراً لتشجيع الحوار والتعاون بين دول المنظمة التي تتكون من أعضاء الأقاليم السابقة التي كانت خاضعة لسيطرة التاج البريطاني.
وزارت الملكة إليزابيث الثانية جميع دول المنظمة مرة واحدة على الأقل. ورسخت تقليد دعوة زعماء الكومنولث لإجراء محادثات ثنائية غير رسمية معها على هامش مؤتمرات المنظمة.
وبحسب سوني رامفال سكرتير عام منظمة الكومنولث في الفترة بين 1975 و1990، التقت الملكة جميع رؤساء حكومات الكومنولث لمدد تتراوح بين 20 و30 دقيقة في جلسات خاصة.
ويقول المؤرخ ماكهوجو، إن الجهد الكبير الذي بذلته الملكة إليزابيث الثانية على مستوى منظمة الكومنولث "حفظ بشكل كبير ديمومة الأسرة الملكية البريطانية في دول المنظمة حتى اليوم"، مشيراً إلى أن "جميع هذه الدول تكن احتراماً وتقديراً كبيرين للملكة، وإكراماً لها أعلن زعماء الكومنولث رسمياً اختيار الملك تشارلز رئيساً جديداَ للمنظمة في عام 2018".
و"الحضور الخارجي الجيد للأسرة الملكية في دول الكومنولث انعكس على الداخل"، وفقاً للمؤرخ ماكهوجو.
وقد استمرت هذه الحقبة بإيجابياتها سنوات عدة حتى وفاة الأميرة ديانا، الزوجة السابقة للملك تشارلز الثالث، وإلقاء البريطانيين اللوم على الأسرة الملكية في هذه الحادثة. وهنا دخلت الأسرة الملكية في "مواجهة" جديدة مع الداخل البريطاني.
العائلة المالكة تواجه انتقادات
عقب مصرع الأميرة ديانا عام 1997، تعرضت الملكة لانتقادات واسعة لأنها لم تعد إلى لندن وفضلت البقاء مع حفيديها بعيداً عن الأضواء في قلعة بالمورال في اسكتلندا. ولكن بعد أن شنت الصحف المحلية حملة عنيفة على موقفها هذا، عادت الملكة إلى العاصمة البريطانية، وألقت خطاباً مؤثراً عبر التلفزيون أشادت فيه بطليقة ابنها.
برأي الباحثة في الشأن البريطاني ملفين روف، أصغت الملكة جيداً إلى النصائح التي قدمت لها في تلك الأزمة. وأوضحت ملفين في حديث مع "الشرق" أن رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت توني بلير، إضافة إلى عدد من الساسة والمسؤولين والمستشارين حينها، لعبوا دوراً كبيراً في تجاوز الأسرة الملكية لتداعيات موت الأميرة ديانا.
وتقول الباحثة روف إن الكلمة التي ألقتها الملكة في وداع ديانا كانت مؤثرة جداً، وقد أثنت فيها على مشاعر طليقة ابنها ووالدة حفيديها، ومدحت مساهمتها في حياة المجتمع. وعند مرور جنازة ديانا أمام قصر باكنجهام، أحنت الملكة رأسها احتراماً للأميرة. ومن خلال خطوات دقيقة نجحت إليزابيث الثانية في إنقاذ الملكية من السقوط.
بعد أزمة الأميرة ديانا، مرت العائلة الملكية البريطانية ببعض المنعطفات الحساسة أيضاً. أبرزها كانت أزمة الأمير هاري الذي تزوج من الممثلة الأمريكية ميجان ماركل، ولكن زواجهما لم يجد أصداء إيجابية لدى أسرته، فقرر التنازل عن واجباته الملكية ورحل مع زوجته إلى أميركا الشمالية ليعيشا بعيداً عن القصر بكل مكتسباته وواجباته.
هاري وزوجته اتهما الأسرة الملكية بممارسات عنصرية بحق ميجان، ولكن الملكة الراحلة والملك تشارلز الثالث وولي العهد الجديد، وقفوا ضد التصريحات التي تفوه بها الزوجان خلال مقابلة تلفزيونية أجرياها مع المذيعة الأميركية أوبرا وينفري. وبعد ذلك، ومرة أخرى نجحت الأسرة الملكية في تجاوز محك جديد مع البريطانيين.
بعد مشكلة هاري وميجان، واجه الأمير أندرو، ثاني أبناء الملكة الراحلة، دعوى قضائية في نيويورك من قبل فيرجينيا جوفري، تزعم فيها أن الأمير ارتكب بحقها جريمة اعتداء جنسي عندما كانت تبلغ 17 عاماً. الأمر الذي تسبب في كثير من الإحراج للعائلة الملكية، ودفع بالملكة إلى تجريده من ألقابه العسكرية وأدواره المدنية.
تاريخ الملكية البريطانية
مع تزايد الاحتجاجات على صلاحيات الملك اللا محدودة، وتعاظم نفوذه من قبل البارونات والنبلاء، اضطر ملك إنجلترا جون لاكلاند إلى التنازل عن بعض صلاحياته والتوقيع على "الوثيقة العظمى للحريات" (الماجنا كارتا) في عام 1215. وقد استمر العمل بهذه الوثيقة حتى عهد هنري الثامن الذي نصّب نفسَه قائداً روحياً لبريطانيا في عام 1534.
اتَّبع 6 ملوك جاءوا على حكم إنجلترا بعد هنري الثامن سياسته الاستبدادية ذاتها. من بينهم الملكة ماري الأولى، التي عرفت بحكم استبدادي ومطلق. وعندما تولى تشارلز الأول اندلعت حرب أهلية طاحنة في البلاد عام 1649، وانتهت بمقتل الملك وانتصار خصومه، بقيادة اللورد أولفيير كرومويل الذي قُتل لاحقاً عام 1658.
بعد انهيار حكم اللورد كرومويل، خلفه ابنه ريتشارد، لكن سرعان ما عاد الحكم مرة ثانية لعائلة ستيورات وتولى العرش تشارلز الثاني. وفي عام 1689 توجت ماري الثانية ملكة على إنجلترا، وصادقت على قانون الحريات الذي يقلص صلاحيات الملك بشكل واسع جداً لصالح البرلمان، لتنتقل بريطانيا بذلك إلى عهد "الملكية البرلمانية".
خلفت ماري الثانية شقيقتها آن التي كانت آخر ملوك عائلة ستيورات. وتوالى على العرش بعد ذلك ملوك من عائلة هانوفر، والتي باتت بريطانيا في عهدهم "جمهورية سرية"، كما وصفها البعض. فقد وصلت محدودية صلاحيات الملك إلى الحدّ الذي لم يستطع فيه اختيار رئيس وزرائه، كما حدث مع الملك ويليام الرابع والملكة فيكتوريا.
بعد فيكتوريا، وفي ظل الملكية البرلمانية، عرفت بريطانيا 4 ملوك قبل أن يصل الحكم إلى الملكة إليزابيث الثانية التي جلست على العرش لأطول فترة في تاريخ البلاد. واحتفلت باليوبيل البلاتيني خلال شهر يونيو الماضي. ثم توفيت في 8 سبتمبر 2022، ليخلفها ابنها الملك تشارلز الثالث ويقسم على الاقتداء بمسيرتها ونهجها.
اقرأ أيضاً: