غيّب الموت، الثلاثاء، عميد الصحافيين السودانيين محجوب محمد صالح بالعاصمة المصرية القاهرة، بعد أن اقترن اسمه على مدى أكثر من 70 عاماً، بالمجال العام في بلاده.
ورغم أن صالح لم يكن من رجالات السياسية بشكل مباشر، إلا أنه وضع بصمته الخاصة في الكثير من تقلبات السياسة في السودان، إذ كانت الأطراف المتصارعة، تنظر إليه كأحد الوسطاء الباحثين عن "حلول عقلانية".
ولد صالح في 12 أبريل عام 1928 في حلة حمد في الخرطوم بحري، لأسرة امتهنت العمل في النقل النهري، في زمان كان لوسائل النقل هذه في السودان أهمية بالغة إلى جانب السكك الحديدية.
ويروي الصحافي السوداني صديق محيسي، نقلاً عن صالح في مقابلة أجراها مع الراحل محجوب صالح في عام 2009، أن الصحافي السوداني الكبير التحق بالحركة السودانية للتحرر الوطني في آخر عام 1946 ليمارس نشاطاً سياسياً معارضاً للاستعمار البريطاني آنذاك.
وأشار إلى أنه وبعد التحاقه بكلية الآداب في العام الذي يليه، ونظراً لأنشطته السياسية، تم فصله من الجامعة، ليتجه إلى العمل في الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية ثم العربية إلى جانب أحمد يوسف هاشم.
وفي 1953 أنشأ صالح مع الصحافيين بشير محمد سعيد، ومحجوب عثمان، صحيفة "الأيام" إحدى أكثر الإصدارات السودانية عراقة.
قبل ذلك، اُبتعث صالح بواسطة المجلس الثقافي البريطاني إلى لندن في عام 1952 ليبقى هناك متدرباً في الصحافة البريطانية لـ6 أشهر، قائلاً عنها: "عدت من بريطانيا لأطبق ما تعلمته من فنون الصحافة، خاصة الدقة في نشر الخبر وأركانه، والتي لم تكن معروفة في الصحافة السودانية، وبذلك تخلصت من اللغة الإنشائية في صياغة الأخبار معتمداً على المباشرة في الوصول إلى المعنى".
حصل محجوب على جائزة القلم الذهبي لحرية الصحافة التي منحها له الاتحاد العالمي للصحافيين في عام 2005.
وبين رحلته إلى لندن إلى إطلاق جائزة تحمل اسمه في عالم 2017، مسيرة طويلة من العمل الصحافي امتدت لعقود.
عقود من العمل الصحافي
عمل محجوب محمد صالح مراسلاً لوكالة "رويترز"، كما أسس إلى جانب "الأيام"، صحيفة "سودان تايمز" باللغة الإنجليزية مع السياسي من جنوب السودان بونا ملوال.
وبدت حياته مذاك أشبه بحياة خالصة للقلم والكتابة، مكرساً كل جهده ووقته للصحافة، إذ نشأت على يديه أجيالاً من الصحافيين السودانيين الذين وإن لم يعملوا مباشرة إلى جانبه، إلا أنه كان على الدوام "معلماً" لهم.
وكتب وزير الإعلام السوداني السابق فيصل محمد صالح، في وداع عميد الصحافة السودانية، إنه ظل ممسكاً بقلمه بـ"صلابة وقوة" مدافعاً عن قيم الحرية والديمقراطية، ومساهماً في الساحة الوطنية بالرأي، والعمل في المبادرات الوطنية، وممثلاً لـ"الحكمة والموضوعية والوطنية الصادقة".
وأضاف أن محجوب ظل هو وصحيفة "الأيام"، مدرسة يتعلم فيها الصحافيون القيم المهنية والأخلاقية للعمل الصحافي.
وأعربت الصحافية السودانية مشاعر دراج في تصريحات لـ"الشرق"، عن فخرها ببداياتها في صحيفة "الأيام" إلى جانب "هرم الصحافة السودانية"، بحسب وصفها، محجوب محمد صالح، مشيرة إلى أنها وفية لتاريخها في الصحيفة و"لولاها لما بلغت مكانتي الصحفية الحالية".
ولفتت الصحافية السودانية لينا يعقوب لـ"الشرق"، إلى اهتمام صالح بتشجيع الصحافيين الشباب، على المثابرة والتدريب المستمر على الفنون الصحافية.
وأضافت أن تقلب الأنظمة السياسية في السودان، لم تبدل آراءه التي ظلت "ثابتة ومستقلة" عن أي تأثيرات.
الصحافي السوداني ماهر أبو الجوخ، اعتبر في تصريحاته لـ"الشرق"، أن محجوب لطالما مثل قيم الصحافة الحرة، موضحاً أنه كان مؤمناً بوطن تسوده الحرية والسلام والعدالة والديمقراطية.
"الأكثر تأثيراً"
أما نجله وائل، وهو الآخر صحافي عمل إلى جانب والده لسنوات في صحيفة "الأيام"، فقد وصفه بـ"معلم الأجيال" الذي انفطرت قلوب أصدقائه وتلاميذه برحيله.
وكتبت الأكاديمية المصرية أماني الطويل، بأن صالح كان "قلماً سودانياً تميز بالاستنارة والاستقامة"، قبل أن تصفه بأنه كان "الأكثر تأثيراً".
لم يكتف صالح بإطلاق الصحف والكتابة الراتبة فيها ونقل خبرته الصحافية إلى الأجيال الجديدة، فقد ألّف عدداً من الكتب، ومنها "أضواء على قضية جنوب السودان"، و"مستقبل الديمقراطية في السودان"، و"الصحافة السودانية في نصف قرن"، والأخير يعد مرجعاً في الصحافة السودانية وكواليسها.
وانتخب محجوب نائباً في البرلمان السوداني في عام 1965، إبان فترة الحكم الديمقراطي عقب "ثورة أكتوبر" التي أطاحت بحكم الفريق إبراهيم عبود.
ودرج محجوب لعقود على كتابة عمود صحافي في "الأيام"، قدم فيه عصارة تجربته من موقع "مستقل" تماماً عن كل الأطراف السياسية، حاكمة ومعارضة، ما جعل منه "رمانة ميزان" في الرأي السياسي.
"خدمة القضايا الوطنية"
ومنذ لحظة ذيوع خبر وفاته لم يتوقف سيل التعازي فيه من مختلف الأطراف السودانية، فقد وصفه رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بأنه "قلم وطني نذر حياته في خدمة القضايا الوطنية".
أما عضو مجلس السيادة الانتقالي ونائب قائد الجيش الفريق أول شمس الدين كباشي، فقال لـ"الشرق"، إن صالح "كان وطنياً غيوراً صاحب مبادرات وطنية متى ما حل الخلاف، وتعقدت الأمور السياسية بالبلاد".
وتابع: "كان في أصعب الظروف يتحرك بين القوى السياسية والعسكرية لحل الخلافات وبذل النصح. البلاد فقدت رجلاً نذر حياته في خدمة القضايا الوطنية، مهتماً بالشأن العام".
وقال رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في بيان تعزية، إن البلاد فقدت "الرمز القامة محجوب محمد صالح في وقت حرج تتناقص فيه أوتاد وحدتها وسيادتها بفعل الحرب التي اندلعت منذ الخامس عشر من أبريل، والتي دمرت البلاد، وقتلت وشردت أبناءها وبناتها بين منافي النزوح واللجوء".
ونعت وزارة الثقافة والإعلام السودانية في بيان صالح، ووصفته بأنه "رمز من رموز الصحافة السودانية وقلم وطني"، فيما اعتبرت قوى إعلان الحرية والتغيير في بيان، رحيله "في هذا الظرف الوطني العصيب الذي تمر به البلاد، يجدد الأحزان على كل الرموز والقامات السودانية التي رحلت في المنافي والمهاجر خلال فترة حرب أبريل 2023، تاركين خلفهم وطناً لم يبارحوه في أشد التقلبات السياسية بطشاً وقتامةً".