ليس سراً أن نظام مترو الأنفاق في مدينة نيويورك يعاني من مشكلات تتعلق بالسلامة، إذ أدت زيادة الجرائم إلى تراجع ثقة الجمهور وتعريض سلامتهم للخطر، ما دفع بالسلطات الأمنية في المدينة إلى نشر قوات الحرس الوطني للتخفيف من حدة الأزمة، حسبما أشار مقال رأي نشرته مجلة Newsweek الأميركية.
ورصد المقال رأي صاحبه كوستا بيفين باباس، كشخص يعيش بين مدينتي نيويورك والقاهرة، أوجه التشابه بين المدينتين اللتين لا تنامان أبداً، ويطرح سؤاله حول ما يمكن أن يتعلمه عمدة مدينة نيويورك، إريك آدامز، من منظومة مترو القاهرة.
الإجراءات الأمنية
في البداية، يشير باباس إلى أن "فحص الحقائب" يمثل "ملمحاً روتينياً" في نظام مترو القاهرة، وأنه في الآونة الأخيرة تم الدمج بين أجهزة فحص الحقائب في المحطات التي تُعد مزدحمة، ما اعتبره "إجراءً فاشلاً" في معالجة حقيقة أن الجرائم يمكن أن تقع أو تبدأ بغض النظر عن الحركة داخل المحطة.
ويستدعي الكاتب من ذاكرته رحلة قام بها في مترو الأنفاق في غير ساعات الذروة في الصيف الماضي، عندما نسي راكب كان يجلس إلى جواره إخراج سكين من جيبه، ما أدى إلى إصابة ساقه بجرح غائر بسبب النصل، واليوم "لم يعد يُرى أجهزة فحص حقائب في تلك المحطة".
وبالإضافة إلى فحص الحقائب، تستخدم القاهرة أجهزة الكشف عن المعادن، وهو إجراء سريع ومقبول، إذ "لا يبدو أنه يعوق حركة الركاب المشغولين أثناء تنقلاتهم".
وفي النهاية، فإن منظومة مترو الأنفاق في مدينة نيويورك كانت تخدم 3.2 مليون راكب في عام 2022، وهو عدد أقل من 3.5 مليون راكب كانت تخدمهم منظومة مترو القاهرة في ذاك الوقت.
العربات المخصصة للنساء.
وإلى جانب الإجراءات الأمنية، يشير الكاتب إلى "الفارق الرئيسي الذي وجدته في قطارات مترو الأنفاق في مصر"، والذي يتمثل في العربات المخصصة للنساء.
وبينما ينتقد بعض الزائرين هذه العربات بسبب "الفصل"، إلا أن هذه النظرة الغربية الناقدة تتجاهل، من وجهة نظر باباس، حقيقة أن العربات المخصصة للنساء في مصر، والتي توجد أيضاً في المكسيك واليابان والهند، "ليست إلزامية"، ولكنها فقط تخلق مساحة لراحة المرأة سواء على المستوى الثقافي أو الديني أو حتى كإجراء يتعلق بالسلامة.
وكإجراء للسلامة، فإن العربات المخصصة للنساء لا تقتصر فائدتها فقط على كونها "أشبه بإجراء إسعافات الأولية" في الخطاب العالمي الأوسع نطاقاً حول التحرش، وسائر أشكال العنف ضد المرأة، ولكنها يمكن أن تكون مفيدة أيضاً للدعوة الفورية إلى العمل من جانب العمدة آدامز.
الفشل في التطور
وعلاوة على ذلك، اعتبر باباس أن افتقار منظومة مترو الأنفاق إلى الإبداع والنمو في نيويورك جعلها "عرضة للفشل"، فبدلاً من أن تدور عجلة تطوير هذه المنظومة مع المشهد الحضري في المدينة الملقبة بـ"التفاحة الكبيرة"، بات مترو الأنفاق أشبه بـ"كبسولة زمنية" لبنية فارغة لم تعد تخدم المجتمع.
على الجانب الآخر، وفقاً لباباس، استمر مترو القاهرة، وهو الأول في إفريقيا والشرق الأوسط، في النمو منذ افتتاحه في عام 1987، حيث أدى تطوير خطوطه الجديدة إلى توفير آلاف فرص العمل، وتعيين سائقات لمكافحة ثقافة الهيمنة الذكورية في وسائل النقل.
وعلى الجانب الآخر، فشل مترو أنفاق نيويورك في النمو وزيادة إمكانية الوصول في غير ساعات الذروة، بل وعانى من مشكلات في التوظيف في ولاية الحاكم السابق أندرو كومو.
ويرى الكاتب أن نجاح منظومة مترو أنفاق القاهرة يفتح الباب أمام "حوار أرحب حول ثقافة نيويورك التي سمحت بهذا القصور في النظافة والسلامة لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم".
وبينما تحاول وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة تشويه سمعة نيويورك باعتبارها مدينة ليبرالية على طراز مدينة "جوثام" الخيالية التي يقطنها مواطنون ينتهكون القانون، يرى الكاتب أنه من الضروري "إعادة صياغة هذه السردية والبحث عن الأشخاص أو الأسباب التي أسهمت في خلق هذه البيئة".
ففي حين يمتلك العمدة آدامز "تاريخاً عريضاً في إلقاء اللائمة على الآخرين"، إلا أنه قال مؤخراً إن جذور أزمة مترو الأنفاق تكمن في "العودة إلى الجريمة"، ولكنه فشل في الاعتراف بسلطته، أو إيجاد سبل لتصحيح نظام مترو الأنفاق.
ووفقاً لمقال باباس، فإن العمدة آدامز ليس سوى "حلقة أخيرة في سلسلة طويلة" من رؤساء البلديات والمسؤولين في نيويورك الذين أسهموا جميعاً في التجذير لثقافة اللامبالاة، حيث تمثل احتياجات 1% الأهمية القصوى والأولوية الأولى بل والوحيدة.
تجربة الركاب.. الأفضلية لمصر
أما أكبر الفروق التي لاحظها باباس بين وسائل النقل العام في نيويورك ونظيرتها في القاهرة فتتمثل في "العقلية الموجهة من قبل المجتمع" التي تشيع في القاهرة، والتي تتمثل في توقيع بروتوكولات جديدة لضمان وصول أفضل لذوي الاحتياجات الخاصة وتوفير مقاعد لكبار السن وتقليص دائرة التدخين وغير ذلك.
واعتبر الكاتب أن تجربة الركاب "عادة ما تحوز الأفضلية في مصر، لأن وزارة النقل والمسؤولين هناك يعملون من أجل مساعدة المجتمع، فيما يُعد الغضب الذي يشعر به ركاب مترو نيويورك تمثيلاً لمدينة نيويورك ذاتها، حيث لا يبدي المسؤولون أي اهتمام بالاستثمار في سلامة أو رفاهة المجتمع المحلي.
وصفة علاجية
ويرى باباس أنه "من الخطأ وصف مترو أنفاق نيويورك بأنه أعجوبة رائدة"، إذ اتسمت شبكات مترو الأنفاق عبر التاريخ بتفشي الظلام، ما انعكس بجلاء في حالات الوفاة والحوادث الناجمة عن الإدارة القاصرة في السنوات الأولى، مثل حادث تصادم شارع مالبون في عام 1918، والذي أسفر عن سقوط 93 شخصاً.
ولكن، بينما تتولد الثقة والتوقعات لدى ركاب نيويورك في إيجاد حلول سريعة لمشكلات السلامة، عندما يتعلق الأمر بالجانب الميكانيكي، فإن هذه الثقة تنعدم، على الجانب الآخر، في إيجاد حلول لارتفاع معدلات الجريمة في وسائل النقل.
وبدلاً من محاولة تكرار نفس الإجراءات، تحتاج نيويورك إلى "النظر إلى تجربة بلدان أخرى" طبقت إجراءات ناجحة في منظومة النقل العام، أثبتت فعلياً جدارتها في خدمة المجتمع.
وتأتي القاهرة، من وجهة نظر باباس، كواحدة من مدن عديدة أبدعت نماذج فريدة في مجال النقل، ويخلص إلى أن الحرس الوطني لن يستطيع إنقاذ "التفاحة الكبيرة"، ولكن يبقى تطبيق مقاربة جديدة "الوسيلة الوحيدة التي يمكنها ذلك".
الغطرسة الأميركية الوهمية
أما التناقض الأكثر وضوحاً الذي لاحظه باباس بين نيويورك والقاهرة، أو في السياق الثقافي الأرحب، بين الولايات المتحدة ومصر، فيكمن في "الغطرسة الأميركية الوهمية" التي تقوم على كون الولايات المتحدة "إحدى دول العالم الأول" ومن ثَم، فإنه لا يوجد في السياق العالمي الكثير لتتعلم منه.
ولفت باباس إلى أن الإبداع الذي يمكن أن تتقلده نيويورك يتمثل حقيقة في "الاعتراف بأوجه القصور"، بدءاً من بنيتها النقلية إلى ما تقدمه من خدمات في مجال الصحة العقلية، والنظر في تجارب البلدان الأخرى للاسترشاد بها.
عندئذ فقط قد تكون سياسات العمدة آدامز "رائدة حقاً"، وتعمل فعلياً على إعادة بناء نظام المدينة العتيق الذي تجاوز بكثير تاريخ انتهاء صلاحيته.