
تمكن فريق من الباحثين بجامعة ولاية نورث كارولينا الأميركية، بعد سنوات من البحث المكثف، من فك لغز تاريخي بشأن المصدر الحقيقي للعامل المسبب لما يُعرف بـ"طاعون البطاطس" الذي تسبب في مجاعة إيرلندا الكبرى؛ إحدى الكوارث التي شكلت ملامح التاريخ الأوروبي.
وأفادت الدراسة المنشورة في دورية "بلوس وان"، بأن طاعون البطاطس الإيرلندي وباء فطري اجتاح إيرلندا في منتصف القرن التاسع عشر، مسبباً خسائر فادحة في محصول البطاطس، ما أدى إلى مجاعة كبرى راح ضحيتها مئات الآلاف.
بدأ الطاعون في إيرلندا عام 1845، عندما ظهرت علامات الفساد والذبول على نباتات البطاطس، التي كانت تشكل المصدر الأساسي للغذاء في البلاد، وسرعان ما انتشر المرض في جميع أنحاء البلاد، وأدى إلى تدمير المحصول بشكل كامل تقريباً في السنوات التالية.
كارثة إنسانية
كانت البطاطس تُشكل الغذاء الأساسي لشريحة واسعة من الفقراء في إيرلندا، وعندما ضرب الوباء المحصول وتسبب في تلفه، وجد الملايين أنفسهم أمام شبح الجوع، وأودت الكارثة بحياة نحو مليون إيرلندي، وأجبر مليون آخرون على الهجرة إلى الخارج، ما أدى إلى تراجع كبير في تعداد السكان.
ويُعتقد أن المرض نجم عن فطر يسمى "اللفحة المتأخرة"، وهو فطر مائي يسبب مرض التفحم المتأخر في البطاطس.
وقال الباحثون في الدراسة، إن الفطر ظهر لأول مرة في جبال الأنديز في أميركا الجنوبية، حيث كان الفطر يتفاعل مع أنواع محلية من البطاطس والطماطم التي تطورت معها على مر العصور، وكان الفطر مستوطناً في المنطقة ويعيش بشكل طبيعي في التربة الرطبة.
وقبل أن يصل الفطر إلى إيرلندا مر بعدة مراحل من التحور، إذ انتقل من الأنديز إلى المكسيك، حيث تفاعل مع أنواع أخرى من البطاطس، وأظهرت الدراسات أن هناك "تدفقاً جينياً" بين الفطر في الأنديز والمكسيك، ما يعني حدوث تبادل بين الأنواع في تلك الفترة.
ومن خلال دراسة جينية موسعة للمادة الوراثية الموجودة في الفطر، بالإضافة إلى بعض الأنواع القريبة منه، قدم الباحثون أدلة إضافية على أن "اللفحة المتأخرة" انتقل من أميركا الجنوبية إلى أميركا الشمالية قبل أن يُسبب كارثة في إيرلندا خلال أربعينيات القرن التاسع عشر.
وفي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كان هناك تبادلاً تجارياً مكثفاً بين أميركا اللاتينية وأوروبا، بما في ذلك إيرلندا، التي كانت تحت الحكم البريطاني في ذلك الوقت.
وأصبحت البطاطس محصولاً زراعياً أساسياً في أوروبا، بعد أن جلبها الإسبان من أميركا في القرن السادس عشر، ولذلك كان من الطبيعي استيراد أنواع جديدة من البطاطس من أميركا الجنوبية إلى أوروبا.
رحلة الفطر
ورجحت الدراسة أن الفطر انتقل إلى إيرلندا عبر شحنات البطاطس المستوردة من أميركا الوسطى أو الجنوبية، حيث كانت البطاطس المصابة بالفطر تُستورد إلى بريطانيا وإيرلندا من مناطق مثل المكسيك أو بيرو، وعند زراعة البطاطس المصابة في الأراضي الإيرلندية، بدأ الفطر ينتشر بشكل تدريجي.
وحتى الآن؛ لا يزال فطر اللفحة المتأخر يؤثر على نباتات البطاطس والطماطم في مختلف أنحاء العالم، ما يجعل هذه الدراسة ذات أهمية خاصة في فهم كيفية انتشار المرض والتهديدات المستقبلية المحتملة.
تتمثل أبرز نتائج الدراسة في مقارنة الجينوم الكامل لـ"اللفحة المتأخرة" مع الجينومات الخاصة بأنواع أخرى قريبة منه توجد فقط في أميركا الجنوبية.
وأظهرت النتائج أن هذه الأنواع الثلاثة تتمتع بتشابه كبير في المادة الوراثية، مما يشير إلى أن جبال الأنديز كانت نقطة نشوء لهذه الأنواع المسببة للأمراض.
أنماط الهجرة
وقالت المؤلفة الأولى للدراسة "جان ريستانو"، أستاذة أمراض النبات بجامعة ولاية نورث كارولينا والمعدة الرئيسية، إن الدراسة "أحد أكبر الدراسات الجينية الكاملة لـذلك الفطر بالإضافة إلى الأنواع المتفرعة المرتبطة به".
ومن خلال تسلسل هذه الجينومات وفهم العلاقات التطورية وأنماط الهجرة، أثبت الباحثون أن منطقة الأنديز تمثل نقطة ساخنة للتنوع البيولوجي، حيث تنشأ الأنواع الجديدة أو تتفرع إلى أنواع متعددة.
في العقود الأخيرة، كانت هناك خلافات بين العلماء بشأن المكان الذي نشأ فيه "اللفحة المتأخرة"؛ إذ كان بعض العلماء يعتقدون أن المنشأ كان في المكسيك، وأظهرت الدراسة الحديثة فروقات جينية واضحة بين الفطر المسبب لوباء إيرلندا والأنواع الموجودة في المكسيك.
تحديات بيئية
تطرقت الدراسة إلى التحديات البيئية التي ربما تؤثر على مستقبل أبحاث مقاومة ذلك الفطر للمبيدات الزراعية. فمع التغيرات المناخية وزيادة الجفاف في المرتفعات الأنديزية، ربما يخسر المزارعون بعض أنواع البطاطس البرية قبل أن يتمكنوا من معرفة ما إذا كانت مصابة بـ"اللفحة المتأخرة".
أظهرت الدراسة، أن هناك تحركات جينية أكبر للعامل المسبب للمرض بين أميركا الجنوبية والمناطق الأخرى مقارنة بالمكسيك. وعلى الرغم من وجود تفاعل جيني بين الأنديز والمكسيك في العصر الحديث بسبب برامج تربية البطاطس المكسيكية، إلا أن الهجرة التاريخية للمرض كانت في الاتجاه المعاكس، أي من الأنديز إلى المكسيك.
وأظهرت البيانات، أن هناك تدفقات جينية من الأنديز إلى المكسيك، وكذلك العكس، ولكن في الماضي كانت التحركات في الاتجاه المعاكس.
وتسلط الدراسة الضوء على كيفية انتشار "اللفحة المتأخرة"، كما تسلط الضوء أيضاً على أهمية دراسة المناطق الأصلية للمرض بشكل أعمق، من أجل تحديد طرق أكثر فاعلية لمكافحة المرض والحد من تأثيراته.
وأظهرت النتائج أن أنماط الهجرة التاريخية للمرض عبر القارات تساهم بشكل كبير في انتشار هذا الفطر، الذي لا يزال يشكل تهديداً كبيراً للزراعة في جميع أنحاء العالم.