اكتشاف عظام أقدم إنسان بدائي في أوروبا الغربية

time reading iconدقائق القراءة - 11
فريق من الباحثين يعلن اكتشاف أقدم عظام وجه لإنسان بدائي في أوروبا وفق دراسة حديثة نشرتها دورية Nature - Nature
فريق من الباحثين يعلن اكتشاف أقدم عظام وجه لإنسان بدائي في أوروبا وفق دراسة حديثة نشرتها دورية Nature - Nature
القاهرة -محمد منصور

أعلن فريق من الباحثين اكتشاف أقدم عظام وجه لإنسان بدائي في أوروبا، يعود تاريخها إلى ما بين 1.4 و1.1 مليون سنة، وبحسب الدراسة، المنشورة في دورية "نيتشر" (Nature) تم العثور على الأحافير في موقع "سيما ديل إلفانتي" الواقع في شمال إسبانيا، ما يوفر أدلة جديدة حول أوائل البشر الذين استوطنوا القارة الأوروبية.

تشير الأدلة العلمية إلى أن أوراسيا -الكتلة القارية التي تضم قارتي أوروبا وآسيا معاً، وتعتبر أكبر تجمع بري متصل على سطح الأرض- شهدت أولى موجات استيطان البشر منذ ما لا يقل عن 1.8 مليون سنة. 

ومع ذلك، فإن الأدلة الأحفورية في أوروبا الغربية كانت محدودة للغاية، وتقتصر على عينات متفرقة من شبه الجزيرة الإيبيرية، مما جعل من الصعب تحديد مظهر هذه المجموعات البشرية المبكرة وتصنيفها.

نوع بشري مبكر

في السابق، تم العثور على أحافير في موقع إسباني يعود تاريخها إلى حوالي 850 ألف سنة، وتم تصنيفها على أنها تعود إلى نوع يُسمى "هومو أنتيكسيسور" Homo antecessor، وهو نوع بشري مبكر يتمتع بوجه متوسط نحيف يشبه البشر المعاصرين. 

وفي عام 2007، تم اكتشاف فك سفلي لإنسان بدائي -يُعرف باسم فك ATE9-1- في موقع "سيما ديل إلفانتي" بشمال إسبانيا، وفي عام 2022، اكتشفت عالمة الأنثروبولوجيا روزا هيوجيت، وفريقها بقايا جزئية لوجه إنسان بدائي في نفس الموقع.

يقع موقع "سيما ديل إليفانتي" في سلسلة جبال أتابويركا الإسبانية، وهو كهف يحتوي على تسلسل جيولوجي معقد بارتفاع 25 متراً، ويتكون الموقع من 16 وحدة جيولوجية، حيث تم العثور على الأدوات الحجرية، وعظام الحيوانات في العديد من المستويات الطبقية.

وتتكون هذه البقايا -التي أُطلق عليها اسم ATE7-1- من جزء كبير من الفك العلوي، والعظم الوجني من الجانب الأيسر لشخص بالغ، وقد استخدم الفريق تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد لإعادة بناء هذه البقايا، وتقدير عمرها ما بين 1.4 و1.1 مليون سنة.

رغم أن عمر هذه الأحفورة الجديدة لا يختلف عن عمر الفك السفلي (ATE9-1) الذي اكتٌشف سابقاً، إلا أن الأحفورة ATE7-1 عُثر عليها على عمق أكبر بمترين، مما دفع الفريق إلى افتراض أنها أقدم، وبالإضافة إلى ذلك، عُثر على أدوات حجرية وعظام حيوانات بها علامات قطع، مما يوفر نظرة ثاقبة عن البيئة التي عاش فيها هذا الإنسان القديم، وأسلوب حياته.

إنسان "هومو أنتيكسيسور" Homo antecessor

"هومو أنتيكسيسور" Homo antecessor، نوع منقرض من جنس "هومو" عاش خلال العصر البليستوسيني المبكر، ويُعتقد أنه أحد أسلاف الإنسان الحديث، وقد تم اكتشاف أحافيره لأول مرة في موقع "غران دولينا" بسلسلة جبال أتابويركا في إسبانيا، ويُقدَّر عمره بين 900 ألف و800 ألف سنة. 

ويُعتبر هذا النوع من أقدم البشر المعروفين في أوروبا، وربما كان حلقة انتقالية بين "هومو أريكتوس"، والأنواع البشرية اللاحقة مثل "هومو هايدلبيرجنسيس".

ويتميز "هومو أنتيكسيسور" بخصائص تشريحية فريدة تجمع بين السمات البدائية والحديثة؛ إذ كان يمتلك جمجمة طويلة ومنخفضة، مثل "هومو أريكتوس"، لكن وجهه كان أكثر تطوراً، حيث أظهر ملامح حديثة شبيهة بوجه الإنسان الحالي، بما في ذلك عظام خدِّ بارزة، وأسنان أمامية صغيرة نسبياً، وتشير هذه الميزات إلى أنه قد يكون أحد أسلاف Homo sapiens، أو على الأقل نوعاً قريباً منه في شجرة التطور البشري.

و"هومو أريكتوس" أحد أقدم الأنواع البشرية التي عاشت على وجه الأرض، وظهر منذ حوالي 1.9 مليون سنة واستمر في الوجود حتى حوالي 110,000 سنة مضت. 

يُعتبر هذا النوع من البشر من أقدم الأجداد الذين يشترك معهم البشر المعاصرون في العديد من السمات الجسدية والسلوكية، ما يجعله أحد الركائز الأساسية في دراسة تطور الإنسان.

تطور ملامح الوجه البشري

وتشير الأدلة الأحفورية إلى أن "هومو أنتيكسيسور" كان صياداً، وجامعاً للطعام، حيث اعتمد على اللحوم والنباتات في غذائه، وأظهرت بعض العظام المكتشفة في موقع "غران دولينا" علامات قطع، مما يشير إلى ممارسات متعلقة بأكل لحوم البشر، سواء لأغراض غذائية، أو طقسية، كما عُثر على أدوات حجرية بدائية استخدمها هذا النوع في معالجة الطعام، وصنع الأدوات.

يُعتبر "هومو أنتيكسيسور" من أكثر الأنواع البشرية إثارة للجدل في علم الحفريات، إذ تختلف الآراء حول علاقته المباشرة بالإنسان الحديث، ويعتقد بعض العلماء أنه سلف مشترك لكل من "هومو سايبينس" Homo sapiens، و"هومو نايندرتال" Homo neanderthalensis، بينما يرى آخرون أنه فرع تطوري منفصل لم يساهم في تطور الإنسان الحديث.

عُثر على معظم حفريات "هومو أنتيكسيسور" في موقع "غران دولينا"، حيث تم اكتشاف بقايا 11 فرداً، تشمل أجزاءً من الجماجم، وعظام الفك والأسنان، ومن أبرز هذه البقايا، الوجه الأحفوري لطفل يبلغ من العمر حوالي 10 سنوات، والذي يعتبر من أقدم الأدلة على تطور ملامح الوجه البشري الحديث.

وقد لاحظ الباحثون أن البقايا المكتَشفة مؤخراً لا تُظهر السمات "الحديثة" للوجه الأوسط التي تميز أحافير "هومو أنتيكسيسور"، كما أن هذه البقايا تشبه إلى حد ما سلالة "هومو أريكتوس" أو "الإنسان المنتصب"، لكن لا يمكن تصنيفها بشكل قاطع ضمن هذه المجموعة أيضاً.

لذلك، صنَّف الفريق الأحفورة بشكل مؤقت على أنها ترتبط بـ"هومو أريكتوس" H. aff. erectus، مما يشير إلى وجود صلة قرابة مع Homo erectus، مع انتظار المزيد من الأدلة لتأكيد ذلك.

ماذا يعني التصنيف المؤقت؟

عند تصنيف الأحافير البشرية، يلجأ العلماء أحياناً إلى استخدام مصطلحات تصنيفية مؤقتة، عندما لا تكون الأدلة كافية لتحديد النوع بدقة. 

أحد هذه المصطلحات هو "الارتباط" .Homo aff، والذي يشير إلى أن الأحفورة تُشبه "هومو أريكتوس" ولكنها ليس متطابقة تماماً معه، وبالتالي لا يمكن تأكيد انتمائه لهذا النوع بشكل قاطع.

وكلمة ".aff" هي اختصار للكلمة اللاتينية "affinis"، والتي تعني "مرتبط بـ" أو "مشابه لـ"، وتُستخدم هذه الصيغة عندما يلاحظ العلماء أن الأحفور يحمل بعض الصفات المميزة لنوع معين، لكنه يختلف عنه في جوانب أخرى، مما يجعل تصنيفه النهائي غير مؤكد.

وبالتالي، فتلك الفئة ليست نوعاً معترفاً به رسمياً، بل هي تصنيف مؤقت يشير إلى أفراد يحملون بعض خصائص "الإنسان المنتصب"، لكن لديهم اختلافات تجعل من الصعب تأكيد انتمائهم لهذا النوع، أو تصنيفهم ضمن نوع جديد تماماً.

العلاقة التطورية

وتحمل الأحفورة المكتَشفة (ATE7-1) بعض ملامح "هومو أريكتوس"، لكنها تفتقد بعض السمات التشريحية التي تميّز هذا النوع بشكل قاطع، كما أنها لا تتطابق مع الذي عُثر عليه لاحقاً في موقع "غران دولينا" القريب، لذا، لجأ العلماء إلى استخدام التصنيف المؤقت حتى يتم العثور على أدلة إضافية توضح علاقته التطورية بشكل أدق.

يشير هذا الاكتشاف إلى أن أوروبا الغربية ربما كانت مأهولة بنوعين على الأقل من البشر خلال العصر البليستوسيني المبكر، ولا يزال هناك حاجة إلى مزيد من البحث والعينات الأحفورية لفهم العلاقة بين هذه المجموعات البشرية وتصنيفها بدقة أكبر.

ويعزز هذا الاكتشاف الفرضية القائلة بأن أوروبا الغربية ربما كانت مأهولة بأكثر من نوع بشري خلال العصر البليستوسيني المبكر؛ فبدلاً من أن يكون هناك نوع واحد فقط استوطن المنطقة، تشير الأدلة إلى وجود تسلسل زمني معقد لأنواع مختلفة من البشر البدائيين الذين ربما تعايشوا، أو تعاقبوا في فترات زمنية مختلفة.

موجات انتشار الجنس البشري

وقالت المؤلفة الأولى للدراسة ماريا مارتينون توريس، الباحثة في المركز الوطني للبحث في تطور الإنسان بإسبانيا في تصريحات خلال مؤتمر صحافي حضرته "الشرق" إن أوائل البشر وصلوا إلى أوروبا عبر هجرات تدريجية من إفريقيا ضمن أولى موجات انتشار الجنس البشري خارج موطنه الأصلي.

وأشارت إلى أن هذه الهجرات لم تحدث دفعة واحدة، بل جرت على مدى مئات الآلاف من السنين، إذ سلكت المجموعات البشرية عدة مسارات رئيسية للوصول إلى القارة الأوروبية.

ويُعتقد أن البشر الأوائل غادروا إفريقيا عبر شبه جزيرة سيناء، ثم انتقلوا شمالاً عبر الشرق الأوسط باتجاه آسيا وأوروبا، إذ كانت تلك المنطقة بمثابة ممر طبيعي يربط بين إفريقيا وأوراسيا، وساعدهم مناخها المعتدل، وتوافر الموارد الغذائية على الاستقرار والانتشار تدريجياً.

كما تشير الحفريات المكتشفة في موقع دمنيسي بجورجيا، التي يعود تاريخها إلى 1.8 مليون سنة، إلى أن بعض المجموعات البشرية المبكرة ربما دخلت أوروبا عبر منطقة القوقاز، إذ كانت هذه المنطقة بمثابة ممر طبيعي بين آسيا وأوروبا، ما سمح للحيوانات والبشر بالتحرك بين القارتين بسهولة نسبياً.

من إفريقيا إلى أوروبا

رغم قلة الأدلة، هناك نظريات تشير إلى أن بعض البشر الأوائل ربما استخدموا الجزر المتوسطية كجسور عبور، أو حتى تمكَّنوا من التنقل عبر البحر بوسائل بدائية، كما أن مضيق جبل طارق قد يكون أحد المسارات المحتملة لعبور مجموعات صغيرة من إفريقيا إلى جنوب أوروبا.

تشير الأدلة الأحفورية إلى أن البشر الأوائل غادروا إفريقيا قبل 1.8 مليون سنة، كما تثبت حفريات "دمنيسي" في جورجيا، أما في أوروبا الغربية، فتعود أقدم الحفريات إلى ما بين 1.4 و1.1 مليون سنة، كما في مواقع الحفريات الإسبانية، وتدل هذه الأدلة على أن أوروبا لم تُستعمر بشرياً دفعة واحدة، بل استغرق انتشار البشر فيها مئات الآلاف من السنين.

فيما يتعلق بالحفرية الجديدة، قالت توريس إنها تعتقد أنها تخص مجموعة بشرية هاجرت من شرق أوروبا أو آسيا "إلا أن ذلك الاعتقاد يحتاج إلى مزيد من الأدلة"، بحسب تعبيرها، مشيرة إلى أن البشر في ذلك الوقت "كانوا خارج إفريقيا على الأرجح".

خطوة كبيرة

يمثل اكتشاف حفرية ATE7-1 في "سيما ديل إليفانتي" خطوة كبيرة نحو فهم أصول الإنسان في أوروبا الغربية، إذ يُظهر هذا الاكتشاف أن أول البشر في المنطقة كانوا يحملون صفات بدائية، لكنهم ربما كانوا أيضاً في مسار تطوري معقد أدى في النهاية إلى ظهور أنواع أكثر تطوراً مثل "هومو أنتيكسيسور". 

ورغم قلة الأدلة الأحفورية، فإن الدراسات المستمرة في أتابويركا، والمواقع المجاورة، قد تساهم في رسم صورة أوضح عن كيفية انتشار البشر الأوائل في أوروبا الغربية، وكيفية تكيفهم مع بيئاتها المختلفة.

تصنيفات

قصص قد تهمك