مدينة الألف عام والألف مئذنة والألف وجه، تلك هي القاهرة التي عرفت الوفرة في كل شيء، المتوّجة بالمجد والمُتعبة من المآسي والزحام. تمدّدت حسبما شاء لها حكّامها وشعبها من حصن روماني صغير يُسمى "بابليون"، على ضفة النيل المقابلة لعاصمة مصر الفرعونية "منف".
ومنذ أن شيّد عمرو بن العاص (أوّل حاكم عربي لها)، مقرّ حكمه في "الفسطاط"، توالت فصول القاهرة، وتغيّرت أسماؤها وأحيازها. وألهمت في كل أحوالها الرحّالة والمؤرّخين من الجنسيات كلها. فما الجديد الذي يمكن أن يقال عنها اليوم؟
هذا التحدي طرحه د. نزار الصياد، الذي تولى إعداد وتحرير كتاب "القاهرة مؤرّخة" (دار العين)، ويقع في جزأين من سبعمائة صفحة تقريباً. يقرّ الصياد بأن مهمّة الكتابة عن المدينة العتيقة ليست سهلة، وأن كل مؤرّخ يكتب عن "قاهرته"، فهو يكتب عن الأحياء التي عاش فيها، أو يزورها، أو يدرسها، كما تتباين طرق سردها بحسب مرجعية وخبرات كل كاتب.
لا تاريخ بلا مؤرّخين
لذلك اختار نزار ألا يكون للكتاب خطة منضبطة تروي سيرة القاهرة على مرّ الأزمان، كما لم يكتف بدراسات وشهادات المؤرّخين، بل قدّم توليفة مرنة ومتنوّعة جداً تضم الكبار والشباب، المتخصّصين والهواة، من مؤرّخين وجغرافيين وأثريين وصحفيين ومعماريين وأدباء.
وبرّر المحرّر تنوّع المشاركين، وتعدّد الزوايا، بأنه لا يوجد تاريخ بلا مؤرّخين، مع الاعتراف بتحيزاتهم ومحدودية المنهج أحياناً، كما يشير إلى إمكانية إعادة الكتابة اللاحقة على العصر، وما تمنحه من إضاءات وتفسيرات قد تكون أقل تحيّزاً، وأكثر شمولاً.
وركّز المشاركون جميعاً على حالة القاهرة من منظورَين، الأوّل تاريخي والثاني تمثيلي، وعدم الاكتفاء بسرد الأحداث، وإنما تفاعل البشر والجماعات معها وتعبيرهم عنها.
صحيح أن الكتاب لا يلتزم بصرامة التتابع التاريخي، لكنه يقدّم لمحات مهمّة لفهم روح المدينة وتطوّرها، بدءاً من الفسطاط (قاهرة عمرو بن العاص) ثم القطائع، وقاهرة صلاح الدين (صاحب القلعة)، والقاهرة الفاطمية (الأزهر وشارع المعز وما حولهما)، ثم القاهرة المملوكية، ثم الخديوية (قاهرة محمد علي وأبناؤه)، وصولاً إلى القاهرة الراهنة وامتدادها المتسارع في الصحراء الشرقية.
غياب السور
يتناول عبد الرحمن الطويل "الفسطاط" باعتبارها بذرة المدينة ونواتها الأولى، وكيف رغب عمرو بن العاص في اتخاذ الإسكندرية عاصمة للحكم العربي، لكن الخليفة عمرو بن الخطاب، رفض أن يكون بينها وبين المسلمين "ماء"، وركز الطويل على فكرة عدم تسوير العاصمة؛ لأن العرب في عصر الفتوحات الأولى، تعاملوا مع المدن كمعسكرات لتثبيت نتائج الفتوحات مثل البصرة والكوفة.
كما أنهم في جاهليتهم لم يعرفوا المدن المسوّرة إلا في استثناءات قليلة، كذلك ظلت الفسطاط عاصمة لأكثر من قرنين، لكن لم تحكمها أسرة واحدة تهتم بتحصينها، فضلاً عن أن نشوئها على ساحل النيل، جعلها ميناء تجارياً مفتوحاً.
نستنتج من دراسة الطويل وإشارته إلى مصطلح "محرس" (بالراء المفتوحة)، الذي يشير إلى حصن صغير للحراسة، بأنه أصل التسمية الشائعة "مصر المحروسة". وقد ساهم عدم التسوير في اتساع المدينة ووضع خطط تسكين القبائل العربية الأولى، وحين أتت جيوش العباسيين لمطاردة آخر خلفاء بني أمية، عسكروا في فضاء شمال الفسطاط، فنشأت "العسكر" كمدينة جديدة وامتداد للقديمة. وبفضل الفسطاط، نشأت مقابلها على الضفة الغربية للنيل مدينة "الجيزة".
وتحت عنوان لافت "زيارة للمدينة المفقودة قبل القاهرة"، يتحدّث المؤرخ طارق سويلم عن "القطائع" التي أنشأها أحمد بن طولون، وقد أهدى المشاركون الكتاب إلى سويلم الذي رحل قبل طباعته.
لتشييد دولة قوية سيطر ابن طولون على الخزانة، ونظام البريد، ثم أنشأ القطائع في الشمال الشرقي للفسطاط والعسكر، وخصص كل منطقة لقبيلة من القبائل التي أتت معه من سامراء، وكان هذا سبب التسمية، وهي تعني "الأحياء"، وكل حي ينقسم إلى سكك وأزقة بها مساجد وحمامات ومخابز، كما خصصت أحياء لخدم القصر والعبيد، إضافة إلى بناء القناطر، والبيمارستان للمرضى، والقصر الملكي وأرض العرض المفتوح للجند.
صفائح الذهب
ولأن خماوريه نجل أحمد بن طولون، لم يكن مثل أبيه، فقد انغمس في الملذّات، وملأ المدينة بالبساتين والأشجار المثمرة، وأمر أن تغطى جذوع الشجر بألواح النحاس المطلي بالذهب، كما زيّن جدران قصره بصفائح الذهب، وربما لم يبلغ حاكم آخر ما بلغه من ترف وملذّات، إلى أن وصل القائد العباسي محمد بن سليمان، فدمّر المدينة وسوّيت مبانيها الفخمة بالأرض، وغلب البؤس عليها لتلحق بكل من الفسطاط والعسكر.
ظاهر وباطن
في رحلة إلى القاهرة الفاطمية، يكتب حسن حافظ عن "مدينة الظاهر والباطن"، ويقدّم قراءة جديدة وشائقة للمدينة التي بناها أتباع المذهب الإسماعيلي، وما زالت إلى اليوم تحتفظ بروحانية مدهشة، حيث تضمّ الجامع الأزهر ومسجد الإمام الحسين، وشارع المعز، وخان الخليلي والغورية.
رأى حافظ أن القاهرة الفاطمية تميّزت بطبيعة مزدوجة، وثنائية مدهشة، حكمت استمرارها، فهي بحسب الظاهر مدينة الحكم ومقرّ ملكي للخلفاء الفاطميين، وفي الباطن مقر مقدّس للدعوة الإسماعيلية.
وتعدّ أول مدينة مسوّرة في تاريخ مصر الإسلامية منحت اسم "القاهرة"، وقسّمت إلى حارات منعزلة، ذات طبيعة طبقية ما بين الحاشية والجند والتجار حول القصر الملكي، ثم بدأت تفقد طابعها العسكري في عهد العزيز بالله، الذي شيّد أماكن ومناظر للّهو على الخليج، مثل منظر اللؤلؤة، والغزالة، والسُكرة، والدكة والمقس.
بينما بلغ أقصى طموح لمنح المدينة قداستها على يد الحاكم بأمر الله، الذي سعى لتغيير الخريطة الدينية للعالم الإسلامي، قبل أن يُقتل في ظروف غامضة.
وعلى الرغم من ازدهار القاهرة الفاطمية، حافظت الفسطاط القديمة على حضورها كمركز تجاري ومسكن لعامّة الشعب، إلى أن عانت المدينتان من الشدّة المستنصرية التي تجلّت في الخراب والحرب الأهلية والمجاعة.
تلك هي القاهرة التي تنهض دائمًا من الرماد، فمع وصول صلاح الدين الأيوبي باني القلعة، أضعف الملمح الباطني لقاهرة الفاطميين، وجعل الأزهر أكبر مؤسسة للمذهب السني آنذاك، عبر تقوية مذهب الإمام الشافعي. وصولًا إلى قاهرة المماليك التي تحدثت عنها أمنية عبد البر، والتي استمر نفوذها قرابة ثلاثمائة عام. لم يكن ثمّة إدارة خاصة توجّه عملية التشييد، لكنها ركّزت على معاني التقوى والفضيلة من خلال عمارة المساجد والتكايا، وكذلك على التعليم.
بدوره يواصل ناصر رباط تحليل العمارة المملوكية، وحرص المماليك على البناء وتوريث أبنائهم.
الأقباط تاريخياً
وعلى الرغم من الطابع الإسلامي المهيمن طوال قرون على القاهرة، يركز حامد محمد حامد على الأقباط ومعاناتهم إبان حكم المماليك، بينما يعود معاذ لافي إلى فكرة الثنائية، ليس بين الظاهر والباطن وفق قراءة حسن حافظ، وإنما بين القاهرة الإسلامية العتيقة، والقاهرة الخديوية الحديثة، واختلاف نمط البيوت والخدمات. ومع تدهور بعض الأحياء اعتاد البكوات وأبناء الطبقة الأرستقراطية الانتقال إلى أحياء أفضل.
بينما يتناول محمد حسام دور إبراهيم باشا وأبنائه في تسهيل المرور وتعمير غرب المدينة، في جزيرة الروضة وما يعرف الآن بـ"جاردن سيتي"، أحد أكثر الأحياء القديمة رقياً حتى اليوم. وفي اتجاه مقارب يدرس خالد فهمي نشأة نظام الشرطة مع الدولة المصرية الحديثة، واهتمام الأمن بالدولة والحاكم وليس بالمواطن.
ويخصّص الكتاب الفصل الحادي عشر لقاهرة القرن التاسع عشر، وتأثير الاحتلال الفرنسي من خلال دراسة عمرو عصام، ليختتم الجزء الأوّل بدراسة عاطف معتمد، عن قاهرة القرن الحادي والعشرين، وكيف تجاوزت الطوبوغرافيا القديمة، وامتدّت نحو الصحراء الشرقية على محورَي طريقي السويس والإسماعيلية، وتشييد العاصمة الإدارية الجديدة.
الجزء الثاني.. حضور ثقافي
إذا كان الجزء الأوّل من الكتاب انشغل بفصول القاهرة التاريخية وجغرافيتها السكانية، فإن الجزء الثاني ركز أكثر على حضورها الثقافي، حيث أشار المحرر الرئيسي نزار الصياد إلى لقطات من ثقافة المدينة وتمثيلها في الأدب والفن، ووجود العديد من "القاهرات" المزدهرة بجوار العشوائية، والجيوب العمرانية للعمّال والمغتربين.
لقد نشأت أسطورتان عن المدينة: الأولى بوصفها مقبرة، مدينة، ميتة، ومفرطة في السلبية تتكوّن من سكان منقادين، والأسطورة الثانية بوصفها قنبلة على وشك الانفجار، تتميّز بالتناقضات الصارخة من شغب وإرهاب ديني وتلوّث.
بعيداً عن هذين التصوّرين السلبيين والمبالغ فيهما، ما زال للقاهرة وجهها الحضاري كمدينة للثقافة والفنون والعمارة المتنوّعة، وملتقى الشعراء والأدباء والرحّالة من الجنسيات كلها، وهو ما انعكس في نصوص أدبية فريدة ولوحات تشكيلية وصور نادرة وأفلام.
وتذهب دوريس أبو سيف إلى الصور النادرة للقاهرة ولوحات الفنانين قبل الحملة الفرنسية، بينما يستعين عاطف معتمد بتاريخ الجبرتي لإظهار الجوانب التي دمّرت إبان الحملة، منها أحياء المدابغ وبولاق والحسينية، وتحوّل خليج القاهرة إلى مكب للنفايات.
وتلخّص رضوى زكي القاهرة عبر عيون القنصل الفرنسي بنوا دي ماتييه، وكيف استشعر جماليات الفنون الإسلامية، علماً أن مذكراته كتبت قبل كتاب "وصف مصر" الشهير، الذي أعدّه علماء الحملة.
فيما تواصل كندة السمارة تحليل المكوّن الثقافي والأدبي، وكيف تمّ النظر إلى باريس بوصفها أيقونة الحداثة والقاهرة كتقليد لها. بينما يناقش مجيب أبو عامر تمثيل القاهرة في المعارض الدولية.
ولأنه يستحيل قراءة القاهرة من دون المرور على أديبها الأكبر نجيب محفوظ، يحلل محمد سلامة ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، كرواية أجيال عن أهل القاهرة. فهي ليست مجرد رواية عن نساء مقهورات ورجال مستبدّين، بل قصّة مدينة بكل أساطيرها وشوارعها ونبض الحياة فيها.
وبموازة الأدب، يقرأ نزار صياد المدينة عبر مئة عام من السينما، فلا يمكن النظر إلى الأفلام كوثيقة خيالية، لأنها قدّمت بالفعل أحياء وشوارع وبشراً. أما كريم بدر، فيقدّم مقالًا تحليلياً عن تحوّلات المدينة عبر الزمن، وتعقيدات صورها البانورامية.
وبالفعل يخلص أحمد الخولي إلى أنها مدينة معقّدة متعددة الطبقات، لكن لم تحظ ثقافتها غير الملموسة بالاهتمام. وأخيراً يذكّرنا عبد العظيم فهمي، بأن كل حيّ، وكل شارع في القاهرة، لا بد أن يضم أثراً ما، شاهداً على آلاف السنين من السقوط والنهوض، ولا بد لكل شارع من حكاية شعبية تتوارثها الأجيال.