تصاعد الصراع في أوكرانيا بين القوى الغربية التي تسعى لاندماج أكبر مع كييف، وروسيا التي تحاول استعادة نفوذها السياسي في المستعمرة السوفيتية السابقة، إلى مستوى أصبح ينذر باندلاع حرب شاملة.
أوكرانيا التي نالت استقلالها مع تفكك الاتحاد السوفيتي، عام 1991، تحوّلت فيما بعد إلى محور صراع جديد بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة أخرى، خاصة أنها تقع على خط تماس بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، بحسب موسوعة "بريتانيكا".
بدأت الأزمة تتشكل بانفتاح أوكرانيا التدريجي على الغرب، خصوصاً بعد "الثورة البرتقالية" عامي 2004 و2005، التي أطاحت بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش، ودفعت بالمعارض الموالي للغرب فيكتور أندريوفيتش إلى السلطة.
إثر ذلك، سادت روح التقارب بين الدول الغربية وأوكرانيا، فيما كانت روسيا تمارس ضغوطاً على اقتصاد كييف، إذ لجأت إلى عراقيل جمركية من أجل تأخير الصادرات الأوكرانية إلى روسيا، ومنع استيراد البضائع الأوكرانية.
وفي عام 2012، فاز حزب فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا بالانتخابات البرلمانية، وعاد مجدداً لرئاسة أوكرانيا.
وفي الأول من نوفمبر 2013، أعلن يانوكوفيتش بشكل مفاجئ قراره التخلي عن محادثات كانت جارية لإبرام اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي واختار التعاون بشكل وثيق مع روسيا، الأمر الذي فجّر موجة من الاحتجاجات دعمتها الدول الغربية، واستمرت لشهور.
وبعد أسابيع قليلة من الاضطرابات في الشارع، صوّت البرلمان الأوكراني في 22 فبراير 2014 لصالح عزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي لجأ إلى روسيا وتم تشكيل حكومة انتقالية، فيما ندد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعزل واعتبره "انقلاباً". كما حذر من أنه يحتفظ بالحق في استخدام كل الخيارات المتاحة بما فيها الخيار العسكري كحل أخير.
أزمة القرم
لم تمر سوى أسابيع قليلة على عزل الرئيس الأوكراني، حتى اندلعت مواجهات بين مساندين ومناهضين لروسيا في سيمفروبول عاصمة شبه جزيرة القرم التي أصبحت أوكرانية منذ 60 عاماً فقط.
موسكو وصفت المواجهات آنذاك في شبه الجزيرة بـ"الانتفاضة الداخلية"، قائلة إنها جاءت "رداً على الانتفاضة التي شهدتها كييف"، وأدت إلى الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من روسيا، بحسب وكالة "رويترز".
والقرم هو الجزء الوحيد من أوكرانيا الذي توجد فيه أغلبية عرقية روسية، وشهد في التسعينات مطالبات متكررة باستقلاله، خاصة في الفترات التي شهدت توتراً في العلاقات بين كييف وموسكو. وحمّلت واشنطن وكييف روسيا مسؤولية إثارة هذه النعرات.
وفي 16 مارس 2014، صوّت الناخبون في القرم لصالح الانضمام إلى روسيا، في استفتاء وصفته أوروبا والولايات المتحدة بغير القانوني.
وبعد يومين من ذلك، أعلن بوتين رسمياً ضم إقليم القرم إلى روسيا، فيما ردت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بفرض عقوبات على روسيا.
الاندماج مع الاتحاد الأوروبي
وفي 27 يونيو 2014، وقعت أوكرانيا اتفاقية للتجارة الحرة والتعاون السياسي مع الاتحاد الأوروبي، بعدما تراجع عن الاتفاق الرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفيتش.
ويلتزم طرفا الاتفاقية بموجبها بإقامة "علاقات وثيقة طويلة المدى في المجالات كافة"، بالإضافة إلى استحداث منطقة تجارة حرة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، كما تسهل الاتفاقية دخول المنتجات الأوروبية إلى الأسواق الأوكرانية.
وأعلن الاتحاد الأوروبي في يوليو 2017 رسمياً تصديقه على اتفاق الشراكة مع أوكرانيا، وقرر أن يدخل حيز التنفيذ في الأول من سبتمبر من نفس العام.
وقال بيان للاتحاد الأوروبي عقب التصديق إن "اتفاق الشراكة هو الأداة الرئيسية للتقريب بين أوكرانيا ودول التكتل، ويروّج لعلاقات سياسية أعمق وعلاقات اقتصادية أقوى ولاحترام القيم المشتركة".
حرب في الشرق
وبالتزامن مع ضم روسيا شبه جزيرة القرم، برزت جبهة صراع جديدة في الصراع بين كييف وموسكو، باندلاع مظاهرات انفصاليين مؤيدين لروسيا في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا.
وكانت هذه التظاهرات جزءاً من مجموعة واسعة من الاحتجاجات المتزامنة الموالية لروسيا في جنوب أوكرانيا وشرقها، وتصاعدت لتتحول إلى نزاع مسلح بين القوات الانفصالية والحكومة الأوكرانية.
وبدأت الحرب أوائل مارس 2014، عندما خرجت تظاهرات من قبل الجماعات الانفصالية في ولايتي دانيتسك ولوهانسك في أوكرانيا، والتي تسمى مجتمعة منطقة دونباس.
كانت الاحتجاجات الأولية إلى حد كبير تعبيرات محلية عن السخط من الحكومة الأوكرانية الجديدة، لكن استغلتها روسيا لإطلاق حملة سياسية وعسكرية منسقة ضد أوكرانيا، وفقاً لرواية كييف.
وتقول الرواية الأوكرانية ذاتها إن مواطنين روساً قادوا الحركة الانفصالية في دانيتسك من أبريل حتى أغسطس 2014، وكانوا مدعومين بمتطوعين وعتاد من موسكو.
في أبريل 2014 شنت أوكرانيا هجوماً عسكرياً مضاداً ضد القوات الموالية لروسيا، تمكن بحلول أواخر أغسطس من تقليص الأراضي الواقعة تحت سيطرة القوات الموالية لموسكو إلى حد كبير، واقتربت من استعادة السيطرة على الحدود الروسية الأوكرانية.
ورداً على ذلك بدأت روسيا غزواً لدونباس بالمدفعية والأفراد، تحت مسمى "قافلة إنسانية". ونتيجة للغزو، استعادت القوات الانفصالية الكثير من الأراضي التي فقدتها خلال الهجوم العسكري السابق للحكومة الأوكرانية.
ومع تصاعد الصراع في مايو 2014، نشرت روسيا مقاتلين غير نظاميين وقوات روسية نظامية ودعماً عسكرياً تقليدياً لدونباس.
ووفقاً للحكومة الأوكرانية، فإن القوات شبه العسكرية الروسية شكّلت ما بين 15% إلى 80% من المقاتلين في ذروة الصراع، صيف 2014.
وقف إطلاق النار
في 5 سبتمبر 2014، وقعت أوكرانيا وروسيا و"جمهورية دانيتسك ولوهانسك" اتفاقية لوقف إطلاق النار، سميت "بروتوكول مينسك"، لكن وقف إطلاق النار انتُهك مراراً من قبل الجانبين، قبل أن ينهار تماماً في يناير 2015. ثم وافقت الأطراف المعنية على وقف إطلاق نار جديد، سمّي "مينسك 2"، في 12 فبراير 2015.
وفور توقيع الاتفاق، شنّت القوات الانفصالية هجوماً على مدينة دبالتسيف وأجبرت القوات الأوكرانية على الانسحاب منها.
وفي الأشهر التي أعقبت سقوط دبالتسيف، استمرت المناوشات الصغيرة على طول خط التماس، لكن لم تحدث تغييرات على الأرض، ما أدى إلى وصف الحرب بأنها "نزاع مجمّد".
وبحلول نهاية عام 2017، كانت بعثة المراقبة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا قد سجلت قرابة 30 ألف فرد يرتدون لباساً عسكرياً يعبرون من روسيا إلى دونباس، عند نقطتي التفتيش الحدوديتين المسموح لها بمراقبتهما.
كما وثقت المنظمة عدة حالات لعبور قوافل عسكرية من روسيا إلى المناطق الانفصالية، على طرق ترابية بعيداً عن المعابر الحدودية الرسمية، وعادة في الليل.
وتُجري روسيا في ديسمبر الحالي مناورات عسكرية في منطقة روسية على الحدود مع دونباس، ومناورات أخرى في شبه جزيرة القرم، كما أنها نشرت آلاف الجنود قرب الحدود مع أوكرانيا قبل أسابيع، وهو ما يدفع كييف وحلفاءها الغربيين إلى القلق من احتمال غزو.
من وجهة نظر موسكو، فإن الهدف من تحركاتها العسكرية الحالية على الحدود مع أوكرانيا ليس إلحاق هزيمة بكييف أو احتلال أوكرانيا، بل إنها تبتغي إقناع الغرب بأن روسيا "مستعدة" لبدء حرب شاملة على أوكرانيا، ما لم يتم فعل شيء حيال الوضع القائم حول انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو".
دور الناتو
في يوليو 2017، أعلنت كييف أن "الناتو" قبل بدء مشاورات لانضمام أوكرانيا إلى الحلف، في خطوة زادت من قلق موسكو.
وأقرت أوكرانيا تعديلات دستورية، في فبراير 2019، تؤكد التمسك "بسياسة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي".
وفي الشهر ذاته، صادق البرلمان الأوكراني على الطلب الموجه إلى حلف الناتو ببدء الإجراءات فوراً لقبول البلاد في الحلف.
ويدعو الطلب الذي وجهته كييف إلى حلف الناتو والجمعية البرلمانية للناتو وبرلمانات الدول الأعضاء في الحلف، إلى بدء إجراءات رسمية ملزمة قانونياً لمنح أوكرانيا العضوية في حلف شمال الأطلسي.
وتتعامل موسكو بحذر شديد مع فكرة توسع "الناتو" في شرق أوروبا ليشمل أوكرانيا، وتعتبره بما في ذلك المناورات العسكرية التي يجريها مع أوكرانيا مشروعاً يهدف إلى تطويقها.
وفي المقابل يقول الحلف إنه مصمم على تعزيز أمن الدول الأعضاء القريبة من روسيا، لا سيما في ضوء التدخلات العسكرية التي حدثت في أوكرانيا.
وأوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مراراً وبشكل صريح ما يريده في أوكرانيا والمدى الذي يجعله مستعداً لتحقيق أهدافه، إذ قال في وقت سابق إنه يريد "صفقة لمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، وتعهداً غربياً بعدم نشر البنية التحتية العسكرية للناتو في أوكرانيا أبداً"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
واستشهد بوتين بقاذفات الصواريخ الأميركية MK-41 الموجودة في رومانيا لتوضيح ما يقلقه، قائلاً: "سأكرر مرة أخرى أن القضية تتعلق بالنشر المحتمل لأنظمة الصواريخ في أوكرانيا مع زمن لا يتعدى الـ10دقائق لتصل إلى موسكو، أو 5 دقائق في حال استخدام الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت".
وبحسب موقع "آسيا تايمز"، فإن أوكرانيا بالنسبة لروسيا تعد "عنصراً وجودياً لبقائها القومي"، ولطالما نظر القادة الروس إلى أوكرانيا بالطريقة نفسها التي نظر بها العديد من القادة الأميركيين إلى المكسيك أو كندا، باعتبارها "منطقة عازلة أساسية تحمي قلب دولتهم من قوى أكثر عدوانية خارج أراضيهم".
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن أوكرانيا تعد "رمزاً للمقاومة الديمقراطية للاستبداد"، وإضافة مربحة إلى الاتحاد الأوروبي المتعثر، وقاعدة جديدة محتملة لوضع الأصول العسكرية لـ"الناتو" بالقرب من روسيا.
هل يدافع الغرب عن أوكرانيا عسكرياً؟
أفادت مجلة "ذي إيكونيميست" البريطانية بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يطمح للانضمام إلى "الناتو"، ما من شأنه أن يلزم أميركا و29 دولة أخرى بالدفاع عن أوكرانيا، حال تعرضها لهجوم من قبل روسيا.
وبينما عبّرت الولايات المتحدة على لسان البيت الأبيض ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن دعمها لانضمام أوكرانيا إلى الناتو، فإن الحلف لا يريد التزاماً واضحاً بالدفاع عن دولة هاجمتها روسيا بالفعل، ومع ذلك، فإن كييف تعد قواتها للعمل مع الحلف على أي حال، إذ أصبحت التمارين المشتركة شائعة ومستمرة، بحسب مجلة "فورين أفيرز".
ولفتت المجلة إلى أن الولايات المتحدة مستمرة في تقديم مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، فيما يساهم الناتو في تدريب الجيش الأوكراني.
ووفق المجلة، فإنه على الرغم من أن وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، وصفت في 18 نوفمبر الماضي التزام الولايات المتحدة بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها بأنه التزام "صارم" وهي أيضاً لغة الحلفاء في الناتو، إلا أن واشنطن لا تقدم أي التزامات أمنية رسمية لأوكرانيا.
وهذا الأمر أكده الرئيس الأميركي جو بايدن علانية، الأربعاء، حين قال إن نشر قوات أميركية في أوكرانيا لردع غزو روسي محتمل أمر "غير مطروح"، وإنه يأمل عقد اجتماع مع موسكو ودول أعضاء في حلف شمال الأطلسي بحلول الجمعة المقبلة.
وقال بايدن للصحافيين لدى مغادرته البيت الأبيض، إنه أوضح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثناء الاجتماع الذي عقد عبر الإنترنت واستمر قرابة ساعتين الثلاثاء، أنه ستكون هناك تداعيات اقتصادية غير مسبوقة لو أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، وأنه على يقين من أن بوتين فهم الرسالة.
وقال بايدن إن على الولايات المتحدة التزاماً "أخلاقياً وقانونياً" للدفاع عن حلفائها في حلف شمال الأطلسي حال تعرضهم لهجوم، لكن ذلك الالتزام "لا يمتد إلى أوكرانيا".
وأوضح الرئيس الأميركي أنه يأمل أن يكون هناك إعلان بحلول الجمعة عن عقد اجتماعات على مستويات عليا مع روسيا و4 دول على الأقل من الأعضاء الكبار في الناتو، "لمناقشة مستقبل مخاوف روسيا المتعلقة بحلف شمال الأطلسي على نطاق واسع"، وما إذا من الممكن عمل مواءمات أم لا، إذ إنها تتعلق "بخفض درجة التوتر على طول الجبهة الشرقية".
وبحسب مجلة "فورين أفيرز"، فإن هدف موسكو من الأزمة الحالية هو استعادة منظومة إقليمية، يملك فيها كل من روسيا والغرب القول الفصل بدرجة متساوية حيال الأمن في أوروبا.
ومن غير المرجح، بحسب المجلة، أن يعتقد بوتين إمكانية تحقيق تسوية كتلك عبر الإقناع أو الدبلوماسية التقليدية.
أما التحرك العسكري الروسي، تضيف المجلة، فيُمكِنه أن يُخيف الدول الأوروبية الكبرى بما يكفي لكي تقبل اتفاقاً جديداً مع موسكو، لا سيما أن بعض تلك الدول ترى نفسها وقد تبوأت مقعداً من الدرجة الثانية في الاستراتيجية الأميركية التي تركز على مواجهة الصين.