تطير الخفافيش بكفاءة وفعالية في الهواء، إذ تُولد أجنحتها قوة رفع كبيرة تُمكنها من البقاء والتقدم بحرية وفعالية في الهواء الطلق. وتُعد تلك الكائنات هي الثدييات الوحيدة اللي يُمكنها الطيران بشكل حر.
إلا أن بعض أنواع الثدييات الأخرى؛ من ضمنها بعض السناجب، يُمكنها التحليق في الهواء لفترات طويلة عبر استخدام أجنحة مُخصصة تسمى "الباتاجيوم" تُشبه تلك التي يستخدمها الإنسان حين يرتدي بدلة الطيران؛ المعروفة باسم "بدلة السنجاب".
لكن كيف طورت بعض أنواع السنجاب "الباتاجيوم"؟ شكلت الإجابة على ذلك التساؤل لغزاً استمر طيلة سنوات. والآن تكشف دراسة أجراها باحثون من جامعة برينستون، الأساس الجينومي للغشاء الجلدي الرقيق "الباتاجيوم"، الذي يسمح لبعض أنواع الثدييات بالتحليق في الهواء.
ما هو الباتاجيوم؟
الباتاجيوم هو هيكل غشائي يمتد بين الأطراف أو على طول جانبي الجسم لتوليد قوة رفع تمكن الحيوان من الحركة في الهواء. وهو غشاء رقيق ومرن، وغالباً ما يكون مدعوماً بإطار من العظام أو الغضاريف، مما يوفر الخصائص الديناميكية الهوائية اللازمة للانزلاق الفعال.
يساعد الباتاجيوم على زيادة مساحة السطح، وبالتالي زيادة الرفع والسماح للحيوان بالبقاء عالياً لفترات طويلة، كما يوفر الاستقرار والتحكم أثناء الطيران، مما يتيح للحيوان المنزلق المناورة عبر الهواء بدقة.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة "ريكاردو مالارينو"، وهو أستاذ علم الأحياء الجزيئية في جامعة برينستون الأميركية، إن العلماء لا يفهمون على وجه الدقة الكيفية التي نشأ بها ذلك الغشاء "لذا حاولوا دراسة تلك المشكلة".
لفهم تطور "الباتاجيوم" بشكل أفضل؛ ركز الفريق على الجرابيات (مجموعة من الحيوانات تحمل أكياساً أو جراباً في بطونها)، إذ توفر تلك الكائنات، بمجموعتها المتنوعة من الأنواع والعلاقات التطورية، مصدراً غنياً للبيانات لاستكشاف كيفية تطور التغيرات التشريحية المرتبطة بالطيران الشراعي مع مرور الوقت.
الأبوسوم القندي الطيار
أحد الأمثلة البارزة على الانزلاق ضمن النسب الجرابي، هو "الأبوسوم القندي الطيار"، وهو حيوان ليلى يُشبه وله القدرة على الطيران مثل السناجب الطائرة وتستخدم نفس التقنية؛ الباتاجيوم.
وعلى الرغم من صغر حجمها، يمتلك ذلك الحيوان قدرة رائعة على الانزلاق عبر مظلة الغابة بدقة ورشاقة، مما يوضح الإمكانات التطورية داخل الأنواع الجرابيات.
قام العلماء بعمل تسلسل الجينوم لـ15 نوعاً من الجرابيات، وحدَّد تسلسل الحمض النووي في كل من الأنواع المنزلقة وأقاربها غير المنزلقة. وكشفت مقارنة تلك التسلسلات عن تطور متسارع بالقرب من جين يسمى Emx2.
يُعد ذلك الجين أحد أهم الجينات الموجودة لدى الفقاريات. إذ يُساهم تطور الجهاز العصبي، وخاصة في الدماغ الجنيني. وهو ينتمي إلى عائلة الجينات التي تشفر عوامل النسخ التي تلعب أدواراً رئيسية في تنظيم التعبير عن الجينات الأخرى أثناء التطور.
وأظهرت الأبحاث السابقة أن الطفرات أو الاضطرابات في جين Emx2 قد تؤدي إلى تشوهات في نمو الدماغ، بما في ذلك تغيرات في حجم وشكل مناطق الدماغ وعيوب في ترتيب الخلايا العصبية.
لكن الأمر المثير للاهتمام هو أن تسلسل الجين نفسه لا يبدو أنه المكان الذي تحدث فيه التغييرات الأكثر صلة بعملية الانزلاق والتحليق في الهواء.
وبدلاً من ذلك، فإن التغييرات الرئيسية تكون في تسلسلات قصيرة من الحمض النووي تسمى “المعززات”، والتي تقع بالقرب من الجينوم نفسه.
خطة وراثية
خلافاً للافتراضات السابقة، فإن التغييرات الأكثر أهمية التي تدفع هذا التكيف لا تحدث مباشرة داخل الجين نفسه، إذ حدد الباحثون تسلسلات الحمض النووي القصيرة، المعروفة باسم "المعززات"، والتي تقع بالقرب من الجينوم، باعتبارها المحركات الأساسية لهذه العملية التطورية.
تعمل هذه المعززات كمفاتيح جينية، تتحكم في متى وأين يصبح جين Emx2 نشطاً داخل الجسم. ومن خلال تعديل نشاط Emx2، تلعب هذه المعززات دوراً محورياً في تشكيل تطور الهياكل المتخصصة اللازمة للانزلاق، مثل الباتاجيوم.
ويلقي هذا الفهم الجديد الضوء على الآليات الجزيئية المعقدة الكامنة وراء تطور هذه السمة الاستثنائية.
ويقول المؤلف المشارك في الدراسة، إيريز ليبرمان أيدن، وهو أستاذ علم الوراثة الجزيئي والبشري ومدير مركز هندسة الجينوم إن "تلك المعززات المتغيرة هي التي تغير كيفية ومكان نشاط Emx2 في الجسم، وهذا يدفع تطور عملية التحليق في الهواء".
ووجد الباحثون أن جين Emx2 الذي يساعد في تكوين الباتاجيوم يقوم باستخدام "خطة وراثية" يمكن العثور عليها في جميع الثدييات. على سبيل المثال، يكون ذلك الجين نشطاً في الجلد على جانبي كل من الفئران و"الأبوسوم القندي الطيار"، ولكنه يبقى نشطاً لفترة أطول عند "الأبوسوم".