
يلاحظ المتابعون للسياسة التركية، تغييرات متتالية في مقاربة الملفات الشائكة التي رسمت علاقات تركيا بدول الجوار، منذ تخليها عن سياسة "صفر مشاكل"، وانخراطها في لعبة المحاور التي عصفت بالمنطقة.
والآن تحاول أنقرة استخلاص العبر من هذه الملفات، ورسم سياسات جديدة تتلاءم أكثر مع الصورة التي ارتسمت في "قمة شنغهاي للتعاون"، من دون أن يعني ذلك بالضرورة "إعادة تمركز تركية كاملة".
ويرى الباحث في مركز "جسور" للدراسات، المعارض السوري عبد الوهاب العاصي، أن السياق الذي تحدّث عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استعداده للقاء الرئيس السوري بشار الأسد "يحمّل الحكومة السورية مسؤولية استمرار النزاع في سوريا، وما وصلت اليه التطوّرات".
ولكنه أشار في تصريحات لـ"الشرق"، إلى أن "هذا لا ينفي أن لدى تركيا مقاربة جديدة للعلاقة مع النظام السوري بدأتها منذ تصريحات وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو في أغسطس الماضي، تحدث فيها عن لقائه مع وزير خارجية سوريا في قمة عدم الانحياز في تشرين الأول 2021".
وأوضح أن مقاربة تركيا الجديدة "تميل إلى رفع مستوى التواصل الدبلوماسي والأمني، واحتمال إجراء لقاءات أخرى بين الطرفين، أي بين وزيري خارجية البلدين".
ورغم أن مؤشرات الحراك التركي تبدو واضحة من خلال تصريحات أدلى بها أردوغان ووزير خارجيته، أو من خلال التقارير التي أفادت بزيارة مدير الاستخبارات التركية هاكان فيدان إلى دمشق ولقاءه رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك، إلا أن الموقف على المقلب الآخر يبدو ضبابياً، خصوصاً أنه لم يصدر من دمشق أي تسريبات أو إقرار بحدوث هذه الزيارة أو نفيها.
"أفعال لا أقوال"
من جهته، شدد عضو القيادة القطرية لـ"حزب البعث العربي الاشتراكي" ووزير الإعلام السوري السابق مهدي دخل الله على أن "اللقاءات الأمنية تكون ذات طبيعة خاصة، وحتى الآن لم تتحدث أي جهة رسمية سورية عن هذه اللقاءات"، لكنه رأى أن "المهم في الأمر، ما يحصل على المستوى السياسي".
وأشار في تصريحات لـ"الشرق" إلى أن السلطات الرسمية السورية "لم تعط أي تصريح حتى الآن حول هذه الفوضى الإعلامية القادمة من أنقرة"، مضيفاً: "بالتأكيد سوريا دولة تعرف تماماً مصالحها الوطنية، وهي مستعدة لأي تحول إيجابي فعلي في سياسة تركيا".
وشدد على أن "سوريا تريد أفعالاً لا أقوالاً. وأن تركيا ما زالت تحتل الأراضي السورية وتدعم فصائل إرهابية ومرتزقة أكدت قرارات مجلس الأمن على إرهابها، وطالبت الجميع بمواجهتها من خلال القرار 2253 الذي سبق القرار الشهير 2254 (قراران دوليان يتعلقان بآليات مكافحة الارهاب) بيوم واحد، وكان أساساً له".
وتابع أنه "لا يجوز التفاوض مع بلد يحتل أرضاً سورية إن لم يعلن بشكل واضح عن عزمه على الانسحاب وإنهاء الاحتلال والإرهاب، وعن التزامه بالقانون الدولي"، لافتاً إلى أن ما سبق "ليس شرطاً مسبقاً، وإنما ضرورة طبيعية ومنطقية، أي أنها أهم من الشرط المسبق".
تغيير في تركيا؟
ولخص الوزير دخل الله دوافع "التغير الموقف التركي تجاه سوريا" بنقطتين أساسيتين، الأولى تتمثل في حل مسألة اللاجئين السوريين في تركيا، "ليكون هذا الحل عوناً للرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة"، أما النقطة الثانية فهي "خيبة أمل أردوغان من الولايات المتحدة التي وعدته بمركز مهم في ما يسمى (الشرق الأوسط الجديد) القائم على تقسيم سوريا وإضعاف لبنان والقضاء على المقاومة" وفق تحليله.
وفي المقابل، رأى الباحث التركي جاهد توز أن ثمة ركيزتين أساسيتين بالنسبة لتركيا في ما خص الأزمة السورية، الأولى تقول إن "حل الأزمة السورية يتم من خلال استخدام آليات دبلوماسية وسياسية"، أما الثانية فتتمثل بـ"الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. لأن تركيا تعرف أن الأزمة والتقسيم في سوريا، سيؤثران على تركيا بشكل عام، من الناحية الأمنية السياسية والاقتصادية".
وأشار في تصريح لـ"الشرق" إلى أن تركيا "كانت تأخذ تدابيرها من ناحية الأمن القومي، وانطلاقاً من هذا الأمر قامت ببعض العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية ضد المنظمات الإرهابية"، وذلك في إشارة إلى المسلحين الأكراد الذين تدرجهم أنقرة في قوائم الإرهاب، في كل من العراق وسوريا.
وأضاف أن "تركيا حالياً، وانطلاقاً من تصريحات الرئيس التركي وتصريحات وزير الخارجية، مستعدة لبدء هذه الحوارات، أو مشاورات على هذا المستوى بين تركيا وسوريا، لأن كما يقال دوام الحال من المحال"، منبهاً إلى أن "الوضع أصبح سيئاً جداً، والأزمة ليست أزمة سوريا فقط، وإنما أزمة المنطقة كلها، خصوصاً في ظل تغيّرات كبيرة على مستوى العالم ككل"، مشيراً إلى أنه "نحن الآن أمام سياسات جديدة على كل الصعد، ولا سيما على مستوى المنطقة".
أما العاصي، فرأى أن تركيا "تريد أن تستثمر راهناً في الظروف الدولية والانقسام الدولي بين الغرب والشرق، لضمان إنشاء منطقة آمنة أو حزام في الشمال السوري، بغض النظر عن الجهة التي ستكون موجودة في هذه المنطقة"، موضحاً أن "الخلاف يبدو الآن مع روسيا وليس مع النظام السوري حول طبيعة القوات التي ستكون منتشرة في هذه المنطقة، وحجم ومكان الانتشار العسكري التركي".
وقال في تصريحاته لـ"الشرق"، إن استحضار تركيا لخطاب إعادة العلاقات مع سوريا، جاء "بعد تعثّر شن عملية عسكرية جديدة"، مشيراً إلى أن أهداف أنقرة تمثلت في "إنشاء منطقة آمنة لإبعاد حزب العمل الكردستاني عن الشريط الحدودي، وإعادة اللاجئين"، مبيناً أن هاتين القضيتين "تشكلان استحقاقاً عاجلاً قرب الانتخابات الرئاسية في صيف 2023".
وتابع أن أنقرة لم تتمكن من حل القضية الأولى، لذا "اتجهت الى القضية الثانية من خلال التقرب من النظام السوري بدفع وموافقة من روسيا وإيران"، منبهاً إلى وجود "رغبة تركية للانحياز أكثر نحو الشرق، أي روسيا، وبقية الدول التي اجتمعت في قمة شنغهاي".
الدور الروسي
ويشدد الباحث السوري المعارض على أنها "ليست المرة الأولى التي تدفع بها روسيا في اتجاه تحسين العلاقات السورية التركية"، مشيراً إلى أن "مقاربة تركيا تختلف عن مقاربة روسيا وإيران، فهي ترغب بشريط أمني على حدودها، ولا تريد التغيير في أماكن السيطرة السورية، وبالتالي لا تريد سحب الدعم الذي تقدمه للمعارضة، أو سحب سلاحها".
ولا ينكر الباحث التركي "دور روسيا في هذا الأمر". وقال جاهد توز إن "هناك علاقة قوية بين روسيا وتركيا، وتتطور على الصعد كافة، وخصوصاً في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية"، منبهاً إلى أن هذه "المرة الأولى في تاريخ البلدين، التي تصل العلاقات فيها إلى المرحلة الاستراتيجية".
وتابع أن روسيا لديها دور كبير في سوريا، وتريد "بدء العلاقات على مستوى الرؤساء بين تركيا وسوريا، وهي نقطة حضرت خلال لقاءات أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين". مشيراً في الوقت نفسه إلى أن "هناك خطوط حمراء بالنسبة إلى تركيا منها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية"، وفق تعبيره.
من جهته، لفت الوزير دخل الله إلى أن هناك "جهوداً روسية مكثفة لإقناع تركيا بأن إيذاء سوريا ينعكس سلباً عليها ما دامت الدولة السورية أثبتت قوتها في المراحل السابقة".
وأضاف أن موسكو تواجه "مشروع الشرق الأوسط الجديد" من أجل "أمنها القومي، وصراعها لإنهاء نظام القطب الواحد"، مشيراً إلى أن "دفع تركيا باتجاه الانسحاب من المشروع المذكور أمر إيجابي لموسكو.. وسبيل لإحلال السلام بين سوريا وتركيا".
هل من فرص للنجاح؟
واعتبر العاصي من جهته، أن شروط روسيا وإيران "تندرج في إطار حصر الاستجابة لمتطلبات تركيا بالتواصل والتنسيق مع الحكومة السورية، وهو ما ترفضه تركيا، التي تريد المحافظة على الوضع الراهن (على الأرض)، ومناقشة بقية المناطق التي تريد الوصول إليها لإخراج حزب العمال، وإعادة اللاجئين".
ورأى أن قضية الموافقة مرتبطة بطرفين دوليين هما إيران وروسيا، معرباً عن اعتقاده بأنهما "لن يوافقا على الصيغة التي تطرحها تركيا"، ولكنه خلص إلى أن "المسار طويل جداً، وليس بالضرورة أن يكون متعثراً". وتابع أن "المباحثات الأمنية وحتى السياسية ستستمر لفترة طويلة، وقد نشهد بشكل موازٍ مساراً للمباحثات السياسية مختلف عن سابقاته".
المعارضة السورية
وما من شك أن أي تقارب تركي روسي يمكن أن يلقي بظلاله على ملف المعارضة السورية المدعومة من أنقرة.
وفي هذا السياق، رأى العاصي أنه سيترتب على هذا التقارب، "موافقة أو مجاراة لمسار سياسي آخر مواز للمسار الذي كان قائماً في جنيف"، مضيفاً: "يمكن أن يكون هناك الآن مساراً للمصالحة، وليس مساراً لتسوية سياسية".
ولكنه نبّه إلى أنه "يبدو أن هناك مسار مصالحة بشكل يوازي التفاهمات الأمنية والعسكرية التي تريدها تركيا. لكن هذا الأمر يحتاج لإعادة تشكيل أو صياغة المعارضة السورية بما يتوافق مع مباحثات سياسية تختصر الانتقال في حكومة وحدة وطنية، ومفاوضات في دمشق أو دولة أخرى تتفق عليها الدول التي ستنضم".
وفي المقابل يجزم توز بأن السياسة التركية الجديدة "لا تعني التخلي عن المعارضة السورية، وهذا لا يعني تسليم المعارضة إلى الحكومة من دون الحفاظ على حقوقها"، موضحاً أن تركيا تطلب "حل المشكلة هذه من خلال الحوارات السياسية بين الأطراف المعنية في سوريا، أي بين النظام والمعارضة".
اقرأ أيضاً: