"جزيرة غمام".. سيناريو "استثنائي" على حدود التاريخ والأسطورة

time reading iconدقائق القراءة - 6
الملصق الدعائي لمسلسل "جزيرة غمام" - المكتب الإعلامي لمنصة شاهد
الملصق الدعائي لمسلسل "جزيرة غمام" - المكتب الإعلامي لمنصة شاهد
القاهرة-عصام زكريا*

في موسم شحيح الإبداع مثل مطر الصحراء، يأتي مسلسل "جزيرة غمام" كغيمة محملة بغيث منهمر، يشبع العيون والعقول الظمأى لدراما جيدة وجديدة، تدهش وتنعش.

"جزيرة غمام" ليس فقط أفضل عمل درامي مصري في موسم رمضان 2022 (وفقاً لمعظم استطلاعات الرأي بين المشاهدين والنقاد، ومنهم رأيي المتواضع)، ولكنه واحد من أفضل الأعمال على مر تاريخ هذه الدراما التي يقترب عمرها من ستين عاماً.

وسوف ينضم بالتأكيد إلى قائمة الكلاسيكيات، بجوار أسماء مسلسلات، مثل "الشهد والدموع" و "ليالي الحلمية" و"زينب والعرش"، وغيرها من الأعمال التي تميّزت بعنصرين لا غنى عنهما لأي عمل فني جيّد: النص والممثلين!

سيناريو استثنائي

أوّل ما يقوم عليه "جزيرة غمام" هو السيناريو الاستثنائي في فكرته وعالمه وحبكته وشخصياته وحواراته، وباختصار كل عناصر السيناريو الجيد.

ورغم أن كاتب النص عبد الرحيم كمال، له العديد من الأعمال السابقة المتميزة، ومنها ما أصبح بالفعل ضمن أشهر الكلاسيكيات مثل "الخواجة عبد القادر"، إلا أن "جزيرة غمام" هو أفضل ما كتب، وأكثره ثراء من ناحية الدراما والشخصيات، كما أن عالمه الفريد الذي يقع على حدود التاريخ والأسطورة لا يشبهه، ربما، سوى "الخواجة عبد القادر".

وتدور أحداث "جزيرة غمام"، كما يدل اسمه، على جزيرة مصرية معزولة خلال العقد الثاني من القرن العشرين، حيث يذكر في المسلسل خبر فرض الحماية البريطانية على مصر مع نشوب الحرب العالمية الأولى في 1914.

اختيار المكان والزمان هنا موفق جداً، فنحن أمام عمل تاريخي، ولكنه لا يرتبط بالتاريخ سوى عبر بحر بعيد، ونحن أمام عمل خيالي، ولكن ليس بينه وبين الواقع سوى مساحة من البحر.

معان وأبعاد

هذا المكان والزمان يعطي للعمل معان وأبعاداً متعددة، مثل تلك البطاقات ثلاثية الأبعاد القديمة  التي تحمل صوراً تتغير مع حركة البطاقة. فمن ناحية يمكن قراءة "جزيرة غمام" كعمل تاريخي، أو كعمل رمزي يستخدم التاريخ ليقول أشياء عن الواقع المعاصر، ومن ناحية ثانية يمكن قراءته كحكاية خيالية أسطورية، مستلهمة من القصص الدينية، وخوارق المتصوفين وذوي الكرامات.

يروي "جزيرة غمام" جانباً من تاريخ هذه الجزيرة من خلال حبكة رئيسية، وعدد من الشخصيات النابضة بالحياة، والتي يمثل كل منها واحداً من الكيانات السياسية والاجتماعية، ومن التيارات والأفكار المتصارعة. 

أبرز هذه الشخصيات حاكم أو عمدة الجزيرة الحاج عجمي (رياض الخولي) وحلفاءه وخصومه السياسيون، وثلاثة من تلاميذ الشيخ مدين، الزعيم الروحي الراحل للجزيرة: الشيخ محارب (فتحي عبد الوهاب) الذي يرث السلطة الدينية الرسمية. الشيخ يسري (محمد جمعة) الذي يرث الجانب السحري والخرافي، حيث يعمل في كتابة التعاويذ والأحجبة، وعرفات (أحمد أمين)، الذي يمثل الجانب الصوفي من الدين، ولا يحب أن يطلق عليه شيخاً أو معلماً، ولكنه يملك طاقات روحية هائلة ومذهلة.

الدين والسياسة

الأحداث تبدأ بجريمة قتل غامضة لواحدة من فتيات الجزيرة الجميلات، وموت الشيخ مدين، وهما حدثان يهيئان لحدوث هزّة كبيرة في توازن القوى والاستقرار الاجتماعي على متن الجزيرة الهادئة.

ويتفاقم الاختلال مع وصول مجموعة من الغجر الرحل، الذين يطلق عليهم "طرح البحر"، وعلى رأسهم رجل شيطاني يدعى خلدون (طارق لطفي) وعاهرة فائقة الجمال تدعى "العايقة" (مي عز الدين).

يبدأ خلدون في استغلال نقاط الضعف حوله، بداية من الغرائز الأساسية لرجال الجزيرة، وحتى الصراعات على الثروة والسلطة.

للصراع في "جزيرة غمام" مستوى اجتماعي، يمكن أن نقرأ فيه تاريخ التحالف والتنافس بين السلطتين السياسية والدينية، وصراع كل منهما على عقول وقلوب الناس، وما قد يفعله الغزاة والمستعمرون من تأليب لهذه القوى والتلاعب بها بمنطق "فرق تسد".

وللصراع في "جزيرة غمام" مستوى ديني، وبناء يذكر برائعة "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، حتى أن العمل يمكن قراءته بوضوح كأمثولة مستلهمة من حياة السيد المسيح عليه السلام، الذي يمثله عرفات، ومن هذه التشابهات كونه نجاراً، يبشر برسالة الحب والتسامح، زاهداً في السلطة والثروة والنساء، صاحب معجزات، قادر على السير على الماء واختراق الحواجز والانتقال عبر المكان.

قصته مع "العايقة" تشبه قصة مريم المجدلية، وقصته مع خلدون تشبه صراعه مع الشيطان، والتجارب التي يضعه فيها وانتصاره الروحي عن طريق التضحية بالمادي.

الكثير من أحداث المسلسل تشبه حياة السيد المسيح، مثل دخوله الهيكل وطرده لرجال الدين اللصوص والمرابين والتجار، ومثل قصته مع صيادي السمك المستائين من شح البحر ومباركته لهم وللبحر.. إلى آخر هذه التشابهات التي يبرع عبد الرحيم كمال في استخدامها ونسجها داخل قصة الجزيرة، بحيث تكاد تذوب المستويات المختلفة للعمل داخل بناء واحد لا يشبه أي شئ سوى "جزيرة غمام".

 هذا النص البديع لم يكن له أن يتحول من كلمات إلى جسد، من لحم ودم وعقل وروح دون هؤلاء الممثلين الموهوبين الذين يبدو كل منهم كما لو كان يلعب أهم دور في حياته، أو كأنما خلق كل منهم ليلعب هذا الدور تحديداً!

وبالطبع لم يكن للنص أو الممثلين أن يتجسدا على هذه الصورة البديعة، لولا وجود مخرج موهوب استطاع أن ينفخ في النص روحاً، وأن يعطي للشكل أسلوباً، وأن يدير ممثليه بتمكن واقتدار، ويكمل كل ذلك بتكوينات بصرية وديكورات وموسيقى، تدخل في نسيج العمل وتصبح جزءاً لا يتجزأ منه.

"جزيرة غمام"، باختصار، عمل تشاهده أكثر من مرة، وتقرأه بأكثر من طريقة، ممتع للعين والأذن، ومشبع للعقل والروح، من حقه أن يطير، متجاوزاً موسم رمضان، ليحتل مكانه بين روائع الدراما العربية على مر التاريخ.

* ناقد سينمائي

اقرأ أيضاً:

تصنيفات