"الحرب الافتراضية" في العالم.. توازن رعب و"سياسة المستقبل"

time reading iconدقائق القراءة - 12
شعار جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي معكوساً في عين - 4 أكتوبر 2018  - REUTERS
شعار جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي معكوساً في عين - 4 أكتوبر 2018 - REUTERS
دبي – إيلي هيدموس

بعد السيف، الرشاشات، الدبابات والمقاتلات، وصل العالم إلى الحرب الافتراضية، التي يمكن ألا تقتل أحداً، لكنها تسبّب خسائر ضخمة وتخريباً في البنى التحتية، كما تتيح لمنفذيها الاستيلاء على معلومات قيّمة، يمكن استخدامها لتحقيق مآرب سياسية أو غايات مالية واقتصادية.

القرصنة ملعب مفتوح للجميع، ولاعبوها متفاوتو الأحجام، وقدراتهم العسكرية غير متكافئة، لكنها تمكّن الطرف "الأضعف"، أقلّه نظرياً، من تحقيق "توازن رعب"، ولو ظرفياً، في ما يشبه حرباً موازية، أو بالوكالة، تتوسّل تفادي مواجهة شاملة.

وإذا كانت القرصنة من فعل أفراد أو جماعات غامضة، تتلطّى وراء تسميات متعددة، فإنها غالباً محسوبة على دولٍ، أو أطراف حكومية، وإن لم تعترف بذلك، وهذا بديهي. وثمة حكومات تستخدم تلك الجماعات لتنفيذ أهدافها، أو لتوجيه رسائل ضمنية إلى "ضحايا" الهجمات الإلكترونية، سواء في إطار مساومات سياسية، أو تصفية حسابات.

وقد تستهدف تلك الهجمات الأطراف المعنية بشكل مباشر، أو عبر "وكلاء" لها، كما حصل مع "حزب الله" اللبناني، بعدما أعلن قراصنة إنترنت، يطلقون على أنفسهم اسم "SpiderZ"، اختراق أنظمة جمعية "القرض الحسن"، معتبرين أنها "مصرف غير شرعي" للحزب، الذي اتهموه بالمساهمة في "انهيار الاقتصاد اللبناني".

ولهذا الأمر أهميته الآن، إذ يؤجّج شكوكاً بدور سلبي يؤديه الحزب، في خضم معاناة اللبنانيين، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة والقيود المفروضة على الودائع المصرفية، ومأساة انفجار مرفأ بيروت، فضلاً عن فيروس كورونا المستجد.

روسيا و"اختراق" أميركا

جاء ذلك بعد نحو أسبوع على اختراق واسع لمؤسسات حكومية وخاصة في الولايات المتحدة، دفع الأخيرة إلى تأسيس وحدة لتنسيق الأمن السيبراني. واتُهمت مجموعة "الدب الدافئ" بتنفيذ القرصنة، علماً أنها تُعتبر ذراعاً للحكومة الروسية.

يأتي الهجوم في وقت تشهد الولايات المتحدة إرباكاً، بعد رفض الرئيس دونالد ترمب الإقرار بفوز خصمه الديمقراطي جو بايدن بانتخابات الرئاسة، قبل أسابيع من تنصيب الأخير. وقد تسعى موسكو بذلك إلى اختبار بايدن مبكراً، الذي يُرجّح أن ينأى عن النهج "المرن" لسلفه إزاء روسيا، ورئيسها فلاديمير بوتين، ولا سيّما أن ثمة ملفات ساخنة تنتظر الجانبين، أوّلها تمديد معاهدة "ستارت الجديدة" للحدّ من الأسلحة النووية.

واعتبرت وكالة "بلومبرغ"، أن الهجوم الإلكتروني الذي استهدف الولايات المتحدة أخيراً يسهم في تعزيز صورة بوتين في روسيا، بوصفه "زعيماً قوياً غير خائف من مواجهة العدوّ السابق في الحرب الباردة".

ونقلت عن أندريه كورتونوف، رئيس "المجلس الروسي للشؤون الدولية" الذي أسّسه الكرملين، قوله: "داخل البلاد، يعزّز ذلك هيبة السلطات. خارج روسيا، يؤدي ذلك إلى تعميق عدم الثقة، وهذا يثير أخطاراً" من خلال تأجيج العداء لموسكو، في واشنطن وعواصم غربية أخرى.

لكن ألكسندر دينكين، رئيس "معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية"، الذي يقدّم المشورة للكرملين، رأى في الهجوم السيبراني "محاولة لضخّ مزيد من السلبية ورفع حدة الخطاب المعادي لروسيا، لتخريب مبادرات إيجابية محدودة لبايدن".

وكان روبرت مولر، الذي تولّى التحقيق في ملف "تدخل" موسكو في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، اتهم 12 روسياً بالتورط، جميعهم أعضاء في جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي.

وتُتهم موسكو باعتماد الأسلوب ذاته مع دول أخرى، مثل أوكرانيا، التي استُهدفت في عام 2017 بهجوم من خلال فيروس "NotPetya"، الذي "شلّ حركة" الجمهورية السوفييتية السابقة، إذ "مسح 10% من أجهزة الكمبيوتر في البلاد، معطلاً أجهزة الصرّاف الآلي وشبكات الهاتف والمصارف"، كما أوردت مجلة "ذي أتلانتيك". وتدعم روسيا "انفصاليين" في شرق أوكرانيا، كما ضمّت شبه جزيرة القرم التابعة لتلك الدولة.

الصين وأميركا وأستراليا

وإذا كان ترمب قلّل من أهمية دور موسكو في الهجوم الإلكتروني الذي استهدف الولايات المتحدة أخيراً، متهماً بكين بتنفيذه، فإن الأخيرة تسعى غالباً إلى "سرقة ملكية فكرية وخنق الحرية"، كما نقلت "بلومبرغ" عن جيفري روزين، نائب وزير العدل الأميركي، قوله في سبتمبر الماضي، لدى توجيه الوزارة اتهامات إلى 5 صينيين باختراق أكثر من 100 مؤسسة وشركة، في الولايات المتحدة وخارجها.

وأشار مايكل شيروين، القائم بأعمال المدعي العام في مقاطعة كولومبيا، إلى أن المتهمين كانوا يعملون بوصفهم "وكلاء" لبكين، وفق "بلومبرغ".

وتثير علاقات شائكة بين كانبيرا وبكين، اتهامات للأخيرة بشنّ هجمات إلكترونية واسعة، استهدفت مؤسسات حكومية وخاصة في أستراليا، كما بثت شبكة "إي بي سي" الأسترالية في يونيو الماضي.

وفي عام 2019، أفادت وكالة "رويترز" بأن أجهزة الاستخبارات الأسترالية حمّلت وزارة أمن الدولة الصينية، مسؤولية هجوم إلكتروني استهدف البرلمان وثلاثة أحزاب سياسية كبرى، قبل الانتخابات النيابية التي نظمتها أستراليا في مايو من العام ذاته.

وتُعتبر الصين أبرز شريك تجاري لأستراليا، لكن الأخيرة كثفت في السنوات الأخيرة جهودها لتقويض "نفوذ" صيني متنامٍ على أراضيها، ما أثار احتكاكات بين الجانبين.

إيران وأميركا

ومع اقتراب الذكرى الأولى لمقتل قائد "فيلق القدس" التابع لـ "الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني، بهجوم نفذته واشنطن في بغداد مطلع عام 2020، تتحسّب الأخيرة لعمليات انتقامية تشنّها طهران، أو حلفاؤها، سواء في العراق، حيث تُستهدف السفارة الأميركية بصواريخ، أو عبر هجمات سايبرية تطاول الولايات المتحدة، علماً أن مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جون راتكليف اتهم طهران بتنفيذ حملة لتضليل الناخبين خلال الانتخابات التي نظمتها بلاده أخيراً.

ونقلت "بلومبرغ" عن سنام وكيل، نائبة مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد "تشاتام هاوس" (مقرّه لندن)، قولها إن إيران "سعيدة بأن تشهد الولايات المتحدة فوضى واضطرابات".

وأوردت صحيفة "نيويورك تايمز" أن قراصنة يدعمون "الحرس الثوري" الإيراني "شوّهوا مواقع إلكترونية" لمدينتَي مينيابوليس وتولسا في ولاية أوكلاهوما، إذ وضعوا عليها صوراً لسليماني. كما أن "متسللين يزعمون ارتباطهم بإيران، أبدلوا الصفحة الرئيسة لبرنامج مكتبة الإيداع الفيدرالي، وهو جزء من مكتب النشر الحكومي، بصورة مزيّفة للرئيس ترمب ملطخاً بالدماء، وهو يتعرّض للكمات في وجهه".

وأفادت "بلومبرغ" بأن قراصنة إيرانيين شنّوا، في عام 2011، هجمات استمرّت أشهراً على مواقع إلكترونية لمؤسسات أميركية، بينها "بنك أوف أميركا"، فيما اتُهم "قراصنة ترعاهم دولة" بمهاجمة شركة "أرامكو" السعودية، في عام 2012، وكازينو بمدينة لاس فيغاس في عام 2014، وأماكن أخرى في الولايات المتحدة.

فيروس "ستاكسنت"

جاء ذلك بعدما سبّب فيروس "ستاكسنت"، الذي اكتُشف للمرة الأولى في عام 2010، أضراراً هائلة في منشأة نظنز الإيرانية لتخصيب اليورانيوم. ونسبت وسائل إعلام الهجوم، إلى الولايات المتحدة وإسرائيل.

"الحرب الإلكترونية" بين طهران وواشنطن لم تقتصر على ذلك، إذ شنّت الأخيرة هجمات سايبرية على قاعدة بيانات لـ "الحرس الثوري"، في عام 2019، بعدما أسقطت إيران طائرة استطلاع أميركية فوق مياه الخليج، واتُهِمت بشنّ هجوم صاروخي على منشأتين نفطيتين سعوديتين، وفق موقع "إيران بريمير".

في المقابل، تبنّت مجموعة تُطلق على نفسها "الجيش السيبراني الإيراني"، هجوماً استهدفت موقع "تويتر" أواخر عام 2019، وعلى مواقع تابعة لجماعات معارضة للنظام الإيراني. جاء ذلك بعد احتجاجات شهدتها إيران، أسفرت عن قتلى وآلاف المعتقلين. وكانت طهران اتُهمت بشنّ هجوم سايبري على أنظمة التحكّم في سدّ شمال نيويورك، في عام 2013.

ونقلت صحيفة "كريستشان ساينس مونيتور" عن جيمس لويس، وهو خبير بالأمن السيبراني في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" بواشنطن، قوله: "هذه مجرد سياسة المستقبل".

تركيا

في مطلع عام 2020، أفادت "رويترز" بأن متسللين هاجموا 30 منظمة على الأقلّ، في أوروبا والشرق الأوسط، بما في ذلك وزارات حكومية وسفارات وأجهزة أمنية، طاولت الحكومتين القبرصية واليونانية، ومستشار الأمن القومي في العراق. ونقلت الوكالة عن مسؤولَين بريطانيَين ومسؤول أميركي، إن الهجمات "تحمل بصمات عملية تجسس إلكتروني مدعومة من دولة، نُفذت لتعزيز المصالح التركية".

وتخوض أنقرة صراعاً مع أثينا ونيقوسيا بشأن مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط، كما أن علاقاتها شائكة مع بغداد.

وكانت شبكة "سي أن بي سي" بثت أن ناشطين أتراكاً "استولوا" على حسابات في مواقع للتواصل الاجتماعي، تابعة لصحافيين في "بلومبرغ" و"نيويورك تايمز" و"فوكس نيوز"، واستخدموها لنشر رسائل تشيد بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

كوريا الشمالية

وثمة لاعب آخر في حلبة النزال الإلكتروني، هي كوريا الشمالية التي اتُهم قراصنة تدعمهم، بشنّ هجوم "دمّر خوادم" شركة "سوني" اليابانية، بعد إنتاجها فيلماً سينمائياً "يسخر" من الزعيم كيم جونغ أون، وفق شركة "أفاست" لأمن المعلومات.

ونقلت "نيويورك تايمز" عن منشق كوري شمالي بارز، يُدعى كيم هيونغ كوانغ، قوله إن الزعيم السابق كيم جونغ إيل حذر جيشه، بعدما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، قائلاً: "إذا كانت الحرب تتمحور حول الرصاص والنفط حتى الآن، فإنها تتمحور حول المعلومات في القرن الحادي والعشرين".

وأشارت الصحيفة إلى أن بيونغ يانغ تعتمد على قراصنة يعملون في الخارج، ويستخدمون غالباً البنية التحتية الصينية. ونسبت إلى كيم جونغ أون قوله: "الحرب الإلكترونية، إلى جانب الأسلحة والصواريخ النووية، هي سيف متعدد الأغراض، تضمن قدرة جيشنا على الضرب بلا هوادة".

"حرب هجينة"

"الاشتباكات" الإلكترونية هي من أدوات "الحرب الهجينة"، لكنها ليست بديلاً عن الحرب التقليدية، بل مكمّل لها.

واعتبر موقع "ذي كونفرسيشن" أنها "تعيد صوغ قواعد الحرب الحديثة"، مستدركاً أنها تثير "مشكلة إسناد قانونية، إذ إن القانون الدولي لا يُحمِّل الدول بشكل عام، مسؤولية أفعال جهات غير حكومية". وتابع: "لن تُنسب المسؤولية، إلا إذا اعترفت الدولة وتبنّت سلوك الفاعل غير الحكومي، بوصفه سلوكها، أو إذا كانت الدولة توجّه أو تسيطر على الفاعل من غير الدول".

أما "مجلس العلاقات الخارجية" فرأى "خطوطاً غير واضحة بين الجهات الحكومية وغير الحكومية"، مضيفاً أن "طابع هذه النشاطات الثانوية يُعقّد فهمنا لخطوط السيطرة، بين الجهات الفاعلة المهدِّدة، والدول الراعية" لها.