
ينطلق فيلم "يونان" من مشهد لرجل يتنفس عبر جهاز لقياس كفاءة الرئة، يسحب نفس عميق ويطلقه كأنه يستجدي الهواء كي يطأ يصدره، يستمر المشهد قليلا حتى يتأكد لنا المعنى، هذا رجل يبدو ان ثمة ما يعوقه أن يعبأ شرايينه بإكسير الحياة! لكنه لا يستطيع! ليس لأنه مريض عضوياً، بل لأن روحه القلقة، تشتعل بالاغتراب والتيه، أو بمعنى أدق تغرق تحت أطنان من ماء العذاب الوجودي الذي يكابده بحثا عن معنى لحياته وغربته!
في عرضه الأول بالشرق الأوسط، انضم الفيلم الثاني في ثلاثية المخرج الجولاني الشاب أمير فخر الدين "يونان" إلى قائمة الأفلام المتنافسة على جوائز اليسر الخاصة بالدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-13 ديسمبر)، وذلك بعد أربع سنوات من انطلاق فيلمه الأول "الغريب" ضمن الثلاثية التي أعلن عن نيته في تقديمها مستعرضاً أزمات الهوية والاغتراب والبحث عن الذات، التي تلدغ الكثير من أبناء جيله اللاجئين والمهاجرين والمطرودين من جنة الوطن المحتل.
"يونان" في الكتاب المقدس هو نفسه نبي الله يونس، أو ذا النون الذي وردت قصته في سورتي يونس والأنبياء، بنفس التفاصيل تقريباً فيما يتعلق بخروجه غاضباً من بلدته "نينوى"، ثم ركوبه السفينة في البحر وإلقائه من قبل البحارة للتخلص من حمولته الزائدة، وابتلاع الحوت له لثلاثة أيام، ثم لفظه إياه على الشاطئ، لتنمو فوق جسده المتسلخ شجرة يقطين بأوارق كبيرة تقي تقرحات جلده حرارة الشمس.
فما الذي ربط في ذهن المخرج بين "يونان" وبين بطل فيلمه منير نور الدين، نلاحظ هنا نوعاً من الجناس الموسيقى بين اسم المخرج أمير فخر الدين، وبين اسم بطل فيلمه، ونلاحظ أيضاً الصفة اللغوية لاسم منير نور الدين البراقة جداً في مقابل حالة الانطفاء الروحي الرهيبة التي تعاني منها شخصيته!
"يونان" هي قصة عن محاولة هرب فاشلة من قوى أكبر وأكثر سيطرة وإحكاماً لقبضتها على القدر والمصير، محاولة تبدأ بالبحر، وتنتهي في بطن حوت ضخم وسط عاصفة مرعبة، وهو ما يبدو أنه نفس خط هرب شخصية منير، الروائي المتعطل، الذي يعيش في ألمانيا – لاجئاً أو مهاجراً- لكن رأسه يطن بالحكاية التي كانت تهدهده بها أمه، حين كان لا يزال صغيراً ينام في حجرها، حكاية الراعي الذي لا فم ولا عين ولا وأذن ولا أحد يعرف اسمه؛ لأنه لم ينطق به يوماً!
يعاني منير من ضيق تنفس لأسباب غير عضوية، ويعاني في نفس الوقت من انحسار خياله عند نقطة واحدة هي بداية القصة الطفولية التي يريد أن يجعلها نواة لروايته التي لا يدري كيف يكملها! ولأن حياته تسير واقفة في مكانها كالمدينة التي يعيش فيها (نسمعه يقول لأخته أنه لا شيء يتحرك في هذه المدينة سوى الغيوم) يقرر أن يركب البحر إلى حيث شبه جزيرة منعزل، لكي يحاول أن يتخذ هناك القرار الأهم؛ هل يكمل الرواية أم ينتحر!
طرح البحر
يتخذ السرد عينا منير وجهة نظر له، لا نكاد نفارق ما يراه ويسمعه ويتخيله، حتى إنه يرى نفسه داخل حكاية الأم/الرواية وهو جالس بشعر حليق يراقب الراعي صاحب العين الواحدة والفم المغرق، وهو يمسك بكرات الصوف من أجل أن تغزلها امرأته الجميلة التي لا تعرف هي نفسها اسمه، دلالة على أن عزلة الراعي هي انعكاس لعزلة منير، ولا شيء أشد عزلة من أن تعيش مع زوجة لا تعرف حتى اسمك!.
يوازي المخرج بين اغتراب الراعي في حياته مع امرأته وهو معزول عن الكلام والسمع والرؤيا، وبين منير الذي لا تتذكر أمه بسبب مرضها – الأم هنا قد تكون الوطن/الأرض الذي لم يعد يذكره- وبالتالي تكتمل عزلة منير وشعوره الحارق بالاغتراب – لا نرى المدينة بالمناسبة، ولا نرى حتى الطبيب الذي يتحدث مع منير في البداية، ويشخص له حالته المرضية بأنها نفسية وليست عضوية- هناك محاولة لأن يبدو وجه منير بمفرده تقريباً في افتتاحية الفيلم، قبل أن يبدأ الفصل الأول بركوبه السفينة ناحية المنتجع البعيد.
يظن منير، ونظن معه أن المكان الذي حط فيه هو جزيرة، ولكنه يعلم فيما بعد من العجوز صاحبة النزل الذي يقيم فيه إلى حين يتخذ قراره الأخير بأنها ليست جزيرة، ولكنها أراض طرح بحر، أي أنها نتاج تراكم للتربة والرمال لحقب طويلة، ولكن لأنها من قلب البحر، فإنه يتوق دوما لاستعادتها وبالتالي تصبح مهددة كل عام بالفيضان الذي يحتاج فيه الماء البيوت والمزارع والحانة الوحيدة التي تسلي الجميع.
تبدو دلالة توظيف جغرافيا طرح البحر أقرب لصنع مجاز يخص الحوت – عقب العاصفة وانسحاب الماء يرى منير بالفعل بعين خياله حوت ضخم ملقى على الشاطئ – بدلاً من يونان نفسه- وكأنهم تبادلا الأدوار، أو كان الحوت ضحى بنفسه من أجل ألا يبتلع يونان.
طرح البحر هي راض قابلة للغمر واستيلاء الماء عليها، وهي نفس دلالة الحوت في القصة التراثية، ولكن منير/يونان الفيلم ينجو من هذا الغرق، ربما لأنه تشبث بالسيدة العجوز وابنها ومجموعة القرية الصغيرة التي هرب إليها، أو لأنه أدرك أن عليه أن يندمج أكثر مع زوجة الراعي في الحكاية حيث نراه يأكل من يدها في مشهد تخيلي بشكل نهم وهو الذي خاصم الطعام منذ جاء إلى القرية البحرية ثم إذ به يمد يده لمسك يد الزوجة كأنه يحثها على أن تتجاوب معه تاركة زوجها الصامت المعزول، الذي هو نفسه تصور منير عن ذاته!
"يونان" فيلم ليس سهل التلقي، إيقاعه الهادئ حاد في بطئه، ولقطاته الطويلة ذات التكوينات الجمالية الممتدة في الزمن لحين التشبع بها، والشعور بما تقدمه من انعاكسات عن حالة شخصية منير وأفكاره، كل هذا لا يجعله مفتوح للتأويل أو الاستيعاب من المشاهدة الأولى.
يمكن أن نشير مثلاً إلى مشهد طويل يقف فيه منير وسط مجموعة أبقار ضخمة في فراغ القرية الأخضر على البحر، مشهد لا يفعل فيه منير سوى التحديق في الأبقار، وهي تحدق فيه، يطول المشهد لنبدأ في التفكير، هل يشعر أنه الراعي الذي يكتب عنه ولكن بدلا من الأغنام ثمة هذه الأبقار الضخمة الراسخة على العشب، أم أنه يتساءل ماذا لو أخلق إنساناً معذبا كما أنا، وخلقت بقرة ترعى في الأخضر من دون هدف سوى الأكل وتربية اللحم، دون أن تدري أنها سوف تساق يوما للذبح!
هذه الأفكار بالطبع لا نخترعها، ولكنها نتاج لما سبق من عرض لحالة منير منذ حتى ان كان في هامبورج، ومنذ أن شاهدنها لا قوى على التنفس، ثم لا يقدر على أن يمارس الجنس مع حبيبته الألمانية التي نراه ينهض من فوقها مهزوما كظل على وشك أن يتلاشى، يرتدي ملابسه في الظلام ساتراً عريه الجسدي والروحي على حد سواء، ثم يمضي دون أن يجيبها على سؤال: هل هناك امرأة أخرى؟
في الحقيقة تبدو زوجة الراعي في الحكاية، والتي لا يكف منير عن تأملها كلما راودته القصة هي المرأة الأخرى التي يسعى إليها منير، لكنه لا يدري كي يمكن أن يصل إليها وهو الغريب يقتحم مشاهدها مع زوجها الصامت، بينما لا تتقدم الحكاية خطوة واحدة عن الوصف الأول الذي قدمته له أمه عن الراعي المغترب والمعزول!
هذه التفاصيل التي مهد بها المخرج وصف حالة منير هي التي تجعلنا نتوقف أمام مشهد الأبقار الطويل ليخطر في بالنا ما سبق وأن أسلفناه عما يدور في رأس منير أو يحيره!
جدلية البطء والطول
منذ أن يغادر منير هامبورج، ويذهب إلى نزل السيدة الألمانية التي تفهم العربية – ندرك فيما بعد حين تقوم بتشغيل دويتو لنجاح سلام وعبد النبي أنه ربما كان في حياتها حبيب عربي؛ ولهذا فهمت منير، وهي يسب بالعربية في أول لقاء بينهم- نقول منذ ان ذهب إلى نزل السيدة مروراً بمحاولة بجولاته في القرية وصولاً إلى العاصفة والتشبث بالجلوس مع السيدة وابنها وصولاً إلى محاولة اندماجه مع أهل القرية بمصارعة الابن والرقص ليلاً في العشاء الجماعي، كل هذا يدور من خلال تراكم زمني خطي من دون قفزات إلى الماضي أو المستقبل.
لكن هذا الخط الزمني يقطعه زمن آخر، هو زمن اعتباري أي ليس زمناً محدداً بالساعات والأيام، بل الزمن الذي يدخل فيه منير إلى رأسه متخيلاً الراعي وزوجته وبيتهم، الذي نرى أمه تجلس في النهاية على إحدى كنباته لتهدهد منير، وتطالبه بأن يتواضع روحياً وذهنياً من أجل أن يتمكن من الاستمرار في الحياة، أي أن ينظر إلى نصف الكوب الملآن، وهو الكوب الذي يرد ذكره في الحكاية الكوب السحري الذي لم يمتلئ أبداً، ولم يفرغ والموضوع على نافذة بيت الراعي، هذا الكوب ما هو إلا مجاز للحياة نفسه، التي لا تمتلئ إلى ثمالتها، ولا تفرغ إلى قاعها، ولكن إلى أي النصفين يمكن أن ينظر منير، أو ننظر نحن من خلاله.
يمثل الزمن الاعتباري عادة أداة سردية معروفة في الدراما التي تتخذ شكلا شعرياً أو تأملياً، فهو زمن مجرد من الحساب، يأتي وقتما يشاء ويقفز إلى خط الزمن التقليدي فيكسره، ليس بالماضي ولا بالمستقبل، هو زمن الأحلام والرؤى والشطحات والتخيلات والهواجس، ربما يسبب ربكة في بعض الأحيان كونه يحمل تفاصيل فوق واقعية في كثير من الأحيان، لكنه يمثل لاوعي الشخصية مكشوفاً ومفتوحاً للتأويل أو الإيهام بمدى الارتباك أو الضبابية التي تعيشها الشخصية في رأسها!
حساسية الزمن الاعتباري تأتي من كونه يوقف انسياب الزمن الأصلي لصالح الأحلام أو الخيالات، ويحتاج إلى دقة في التعامل مع إيقاعه، وبما أن المخرج نفسه هو المونتير فهو ما يجعله المسؤول الأول والأخير عن زمن الفيلم وإيقاعه، وإذا كان الإيقاع البطيء للفيلم مطلوب من أجل التأمل وبث الحالة الشعرية وتشكيل المجازات وفهمها، إلا أن هذا لا يعني أن الفيلم ليس طويلاً.
هناك فارق بالطبع بين البطء والطول، ربما يكون الفيلم بطيئاً في إيقاعه على مستوى زمن اللقطات، وتدور الأحداث وسكون الصراع أو كونه داخلياً غير ظاهر؛ مما يستلزم وقتا أطول في كشفه وإخراجه وصياغة المجازات التي تعبر عنه كما في فيلمنا، ولكن هذا يختلف عن الطول – بالمعنى السلبي- و"يونان" فيلم بطئ وطويل، بطئ الإيقاع لأنه تأملي شعري وهي مسألة تحسب له، لكنه طويل زمنياً وهو ما يحسب عليه!
الطول المقصود هو أن الفيلم، رغم جهده في تشكيل المجاز عبر الصورة والصمت والإيقاع وطبيعة الشخصية الرئيسية والدلالة الخاصة بقصة النبي الهارب، إلا أنه يأتي في الفصل الأخير، ويصاب بالثرثرة غير المفيدة، فجأة وكأن المخرج يشعر أن الشكل الذي قدم به حكاية منير/ يونان قد يكون غامضا أكثر من اللازم، فيقرر أن يشرح بعض من أفكار وأزمات الشخصية على لسان لقاءه بالأم في رأسه داخل منزل الراعي المعزول بالحكاية، ديالوج مسرحي – بين جورج خباز ونضال الأشقر في دور الأم- تشرح لابنها فيه سر أزمته وأسباب معاناته، وتقدم له الحل كلاميا لكي ينظر إلى نصف الكوب الملآن، وهو عرض حواري لا شك أفسد الكثير من زخم الشعر والمجاز الذي احتشدت به فصول الفيلم الأولى والثانية.
ولا يكتفي المخرج بما يمكن أن يمثل نهاية شعرية جميلة عبر لقطة النافذة التي يقف خلفها الراعي وزوجته ينظرون إلى الداخل لحيث منير وأمه، وقد استوعب أشياء كثيرة؛ مما جعلهم يولون البيت ظهورهم ويمضون، بينما يمثل كوب الحياة الأبدي الذي لا يفرغ ولا يمتلئ دلالة نصيحة الأم المباشرة، لكننا نخرج من الزمن الاعتباري للحظة، ونعود للزمن الواقعي في انتكاسة ما بعد الذروة Anticlimax لنرى منير يغادر النزل، ويقص شعره ثم يدخل بنا في حالة من المناجاة الداخلية مع ذاته تستدعي روح قصيدة درويش المعتقة (تنسى كأن لم تكن) وكأن أمير يريد أن يؤكد إلى ثمالة الفيلم على حالة الاغتراب والعزلة وفقدان بوصلة الذات، والتي هي أساس صراع البطل من بداية الفيلم، ولا يمثل المونولوج الداخلي الأخير سوى إعادة تأكيد عليها بشكل مبالغ فيه يذكرنا بخوف المخرجين في أعمالهم الأولى من عدم استيعاب الجمهور لكامل الأفكار أو التفاصيل!
هنا يطول الفيلم بالفعل، يطول لأنه لا يقول جديداً، ولا يحقق ذروة مختلفة من باب تعدد الذرى لتصبح شعرية بمشهد الأم وواقعية بمشهد مناجاة منير الداخلية لذاته! بل تتكرر نفس الأفكار والمشاعر عبر كلمات مرسلة أقرب لموضوع تعبير مدرسي، لا توازي بالطبع حجم الجهد الإبداعي المبذول بصرياً طوال الفيلم، ولا ترقى لأن تكون مبارزة شعرية أو استلهام لأطياف قصيدة درويش الأسطورية.
جورج
لا يمكن إخفاء حجم الأثر الكبير الذي يتركه أداء جورج خباز اللبناني المخضرم كوميديا واجتماعيا لشخصية منير! هذا ممثل معتق كنبيذ حي، ولولا أمير فخر الدين الذي ينسب إليه الفضل في استدعاء وتوجيهه لما تفجر من داخله هذا الكم من الانفعال الداخلي بشكل ينطق به الوجه والجسد دون كلمة واحدة، عيون تدربت على أن تمنح انطباعات طريفة أو ابتسامة طيبة تتحول إلى ساحتين يحتلهما شقاء الصمت والاغتراب، وجسد متكلس، كأن أعضاءه محشورة في بعضها وكأن قامته صارت فجأة أقصر من الطبيعي تحت وطأة هذا الكم من الضغوط الداخلية.
من يعرف خباز كممثل كوميدي سوف يكون أكثر انبهاراً بشخصية منير، ومن يعرفه كمؤدي لأدوار الدراما الاجتماعية سوف يدرك أن لدى هذا الرجل مخزن مشاعر سري، ومفاعل حسي احتفظ على مدار سنوات الخبرة بحجم هائل من الانفعالات التي جاء أمير فخر، وعرف كيف يعيد إنتاج طاقة الأداء المختلف والحميمي والشعري منها.
هذا منافس شرس على جائزة أفضل ممثل في أي مسابقة يدخلها الفيلم، وشخصية سوف تظل علامة في تاريخ الرجل لا تشبهها أي من شخصياته العديدة التي سوف تستبقيه في ذاكرة الجمهور.
تبقى الإشارة إلى أن منير أو يونان ربما هو نفسه "الغريب" من فيلم أمير فخر الأول، الذي قدمه قبل أربعة أعوام، ولكنه الغريب عندما يخرج من الجولان – مسقط رأس أمير- أي ان الرابط بين الفيلمين الأول والثاني في الثلاثية ليس فقط أفكار العزلة والاغتراب وأزمة الهوية الروحية، ولكنها أيضاً فرضية أنه ماذا لو ان بطل الغريب (ذهب مغاضبا) مثل يونان في القصة الأصلية!
* ناقد فني











