في لحظة بوح مفعمة بالألم المكتوم وحيرة التعري الداخلي، نشاهد أم البنات "ألفة" وصورتها تنعكس بين مرآة جانبية، تبدو من زاويتين مختلفتين كأنها امرأتان، ثم في المشهد التالي نرى الممثلة هند صبري، وهي تعيد تقديم شخصية "ألفة" في أزمتها مع بناتها وقت تكوينهن الأول، ومراحل نموه النفسي والعقلي، لندرك أن جوهر سردية الفيلم قائم على تفتيت أزمة الازدواجية لدى هذه المرأة، أو طرحها بالصورة التي تجعلها مفتاحاً لقراءة ما حدث.
في ليلة توزيع جوائز الأعمال الفائزة بالدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، الخميس، حصل فيلم "بنات ألفة" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، والمشارك في مسابقة "روائع عربية" على جائزة "قناة الشرق الوثائقية" كأفضل وثائقي عُرض في دورة هذا العام (30 نوفمبر - 9 ديسمبر) بمدينة جدة السعودية.
وكان الفيلم قد حقق مؤخراً جائزة جديدة، حيث فاز كأفضل وثائقي في حفل جوائز جوثام، وهي واحدة من ألمع الجوائز العالمية التي تكرم السينما المستقلة، بالإضافة لكونه ترشيح تونس الرسمي لجوائز الأوسكار، وقد شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي ضمن المسابقة الرسمية، استقبالاً لافتاً.
الفيلم من إنتاج تونسي فرنسي ألماني سعودي مشترك، ومستوحى من قصة حقيقية لسيدة تونسية اسمها "ألفة"، لديها 4 بنات، عضها الفقر وقت حكم بن علي، وأكلت سباع الزواج الفاشل قلبها، ثم نهشها سوء اختيار بديل للأب المغادر، فتركت بناتها يعانين وطأة وضع أسري شاذ وغير مفهوم، وشُغلت بالعمل من أجل المال في غربة صريحة، مما أدى إلى انزلاق اثنتين من بناتها في وحل التطرف الديني، لينتهي بهما المطاف إلى السجن؛ بسبب هروبهما إلى ليبيا، وانضمامهما إلى تنظيم داعش.
وثائقي بطعم الدراما
يمكن أن نبدأ تفكيك الفيلم، بسؤال عن سبب وجود الممثلة هند صبري في تجربة وثائقية؟، بل وتقوم بدور السيدة التي يتمحور الفيلم حول أزمتها وبناتها، وفي نفس الحيز المكاني والزمني الذي تتواجد فيه "ألفة" نفسها!.
بالطبع لا توجد إجابة صريحة وواضحة، بل إن الإجابة تستدعي العودة إلى تجربة كوثر الأولى "شلاط تونس"، قبل 10 سنوات، والتي قدمت من خلاله هذا اللون الذي يمزج بين التسجيلي الصريح والدرامي المموه، فقد كان الفيلم يرصد ظاهرة التشليط، وهي ضرب الفتيات بآلة حادة من قبل مجهول يدّعي أنه يقيم شرع الله، وهي نفس جدلية فيلم "ألفة" التي يشتبك فيها الاجتماعي بالديني بالسياسي.
إذن فالشكل العابر للأنواع، الذي يحاول أن يصيغ تركيبته من رأسي كائنين مختلفين (وثائقي ودرامي) ليس بجديد على بن هنية، والتي تعتبر واحدة من أغزر المخرجات العربيات إنتاجاً في العقد الأخير، وتنوعاً في شكل التجارب التي تخوضها، بل وتفاوتاً في مستوى التجارب نفسها على كثرتها.
ما فعلته كوثر هنا، هو أنها استدعت هند صبري لتقديم دور ألفة! رغم أن الفيلم ليس درامياً! واستدعت ممثلتين شابتين هما نور فروي وإشراق مطر، في دور ابنتي ألفة الهاربتين إلى (جنة داعش)، وأخيراً استدعاء الممثل التونسي الشاب مجد مستورة، ليقدم كل الأدوار الرجالية التي يأتي ذكرها في حياة الأسرة الفائرة بالهرمونات الأنثوية، أم و4 بنات شابات.
وقد كتبت كوثر سيناريو الفيلم، وتولت عملية المونتاج بنفسها، وبالتالي صار لها ذلك التحكم المطلق على المستويين التقني والفني في سردية العمل بالشكل الذي اختارته!.
طيب كيف يمكن أن نحسم موقفنا من هذا الشكل؟ خاصة أنه غير اعتيادي بالصورة التقليدية لنوعية الوثائقي التي تعتمد على إعادة بناء المشاهد والتفاصيل والأحداث التي لا يتوافر لها أرشيف مصور أو وثائق دقيقة، وتعتمد في كثير من الأحيان على المروي والمعاد تذكره وحتى المشكوك في حدوثه!.
وقد شهدت مسابقة البحر الأحمر هذا العام، وثائقي ينتمي إلى نوعية إعادة البناء، وهو النرويجي العراقي "إخفاء صدام حسين" للمخرج هلكوت مصطفى، ولكن "بنات ألفة" لا يعيد فقط بناء بعض الذكريات أو الأحداث عبر مجموعة ممثلين، ولكنه يستدعي الشخصيات الحقيقية نفسها لتمثل ما سبق لها وعاشته، بل وتتبادل كل من ألفة وهند القيام بدور قناع ألفة في الماضي.
وتقوم كوثر بتصعيد التركيبة إلى شكل أكثر تعقيداً، وهو ظهور كلا المرأتين الأصلية والقناع في المشهد نفسه، ليس فقط ليعيد بناء ما حدث انطلاقاً من رواية ألفة، ولكن لكسر الإيهام أيضاً، أي تصوير كواليس الحوار بين الممثلة والشخصية الأًصلية، لكي نصل إلى مكنونها ونواة أفكارها وأفعالها، ليس فقط من أجل أن تتعرف الممثلة على ملامح الشخصية التي ستؤديها، ولكن في الأساس، وفي مكر -ومهارة نسبية- لتفتيت حواجز شخصية ألفة التي تحيط بها كتل ذكرياتها المخفية ومواجهتها بحقيقة رهيبة، طالما راوغت في المجاهرة بها منذ بداية الفيلم، وربما منذ بداية الأزمة نفسها، وهي مسؤوليتها شبه الكاملة عن مصير الفتيات الأربعة، سواء من فررن إلى داعش، أو من بقين معها في ظل دكتاتوريتها الأمومية العنيفة أو ازدواجيتها المخفية تحت أسمال الجوع العاطفي، أو الجفاف المادي، أو عقد الطفولة والمراهقة والبلوغ الدموية.
هند والقناع
بعد الساعة الأولى من الفيلم، يمكن أن نبدأ في إدراك أن كوثر لم تستحضر هند صبري من أجل أن تجعلها تمثل دور ألفة، وأن ما تصورنا أنه دور هند في الفيلم –قناع شخصية ألفة- ليس تماماً هو مهمته الحقيقية، بل أن وجود هند هو ربما قناع لكوثر نفسها!.
صحيح أنها تقف خلف الكاميرا وأمام ألفة والبنات، وصحيح أنها حاضرة بصوتها ورؤيتها وتفاصيلها الفنية كمخرجة، ولكن على ما يبدو أنها كانت تريد أكثر من ذلك، كانت تريد من يقف مع ألفة داخل الكادر، أو داخل نفسها، لكي تضمن بشكل أو بآخر أن تنفتح مغاليق قلبها، أو يصبح البوح المطلوب أكثر عمقاً وإيلاماً، فكل بوح بلا ألم لا يعول عليه، خصوصاً لو كان هذا البوح مرتبطاً بشتى أنواع الأفعال التي تصل حد التطرف والهيستريا والشذوذ، وهي الأفعال التي أدت في النهاية للقاع الذي وصل إليه حجر هذه الأسرة.
إن ما فعله وجود هند ملتصقة بشخصية ألفة إلى حد التوحد والوجع الكامل ربما كان هو ما تطمح إليه كوثر في تجربتها مع حكاية هذه المرأة وبناتها، بل ومع حكاية البلد بأكملها، والتي لا يمكن فصل تاريخها الاجتماعي والسياسي والنفسي عن تاريخ ألفة والبنات، بل وبقليل من التبسيط، يسهل أن نعتبر أن ألفة هي المجاز الحي عن تونس بين حقبتي بن علي وما بعده، بكل أشكال التخبط والارتباك والعشوائية، وغياب بوصلة (أبوية) واضحة تسعى لجمع الشمل أو تلمس الطريق أو حتى حماية الشعب/ الأسرة من اندلاق الزمن على قارعة الهدر والتشتت.
ربما لم تكن ألفة وبناتها ليتمكن من ممارسة هذا القدر من البوح والمصارحة الحرة لولا وجود هند بينهن في دور ألفة/الأم، أو لولا قيام مجد مستورة بكل الأدوار الرجالية في الفيلم بداية من الزوج/ الأب السكير القاسي رمز عمود الخيمة المكسور من البداية، مروراً بالعشيق أو الحبيب الذي حل على قلب الأم، وجسد البنات، بعد أن اطمأنت له جدران البيت، فلوثها بمسحوق روحه الملعونة، وصار الأمر أقرب لتحقق قصة بيت من لحم –أشهر قصص المصري يوسف إدريس- في أكثر صورها بشاعة ودونية.
ما شهدناه من بوح يصل إلى حد الصراخ، وحتى مع هبوط الإيقاع في النصف الثاني من الفيلم بصورة محبطة نتيجة التكرار وفقدان التماس مع الصورة العامة والخوض في تفاصيل باهتة شهدتها فترة التحول إلى سواد النقاب والقلب، ما شهدناه ربما هو نتاج لتلك المعادلة التي حاولت كوثر أن تحققها، وبالتالي يمكننا تصور الإجابة عن سؤال الشكل –الوثائقي بطعم الدراما- وعلاقته بسردية العمل الأساسية، فالمسألة لم تكن إذن مجرد مغامرة لافتة يراد بها استغلال هذا الخلط المقصود، بل أن وجود هند صنع ما يمكن أن نتصور أنه عامل محفز لكل عناصر الدراما التي توجد في قصة مكتوبة من قبل الحياة نفسها.
إن المصير الذي شهدته "ألفة" وبناتها، وبناءً على ما بحن به جميعهن، وما نجحت كوثر وهند في استخراجه من أبارهن الباطنية، هو محصلة التشوه النفسي والعاطفي والاجتماعي الذي عاشته ألفة نفسها، وهو التشوه الذي كان دافعها متعدد الأوجه لصياغة حياتها وحياة بناتها بهذا الشكل، حيث القسوة الشديدة في التعامل مع كونهن إناث معرضات للشهوة والأخذ بالقوة أو الانحراف وخمود الضمير، ثم الجوع العاطفي بسبب الحرمان من كائن الرجل في مختلف تجلياته كزوج وأب وراعٍ ومسؤول عن المال والأبناء، وما أدى به هذا من تورط في علاقة نجسة تركت آثارها على أجساد البنات، وأرواحهن التي تعرضت للاغتصاب على يد بديل الأب، وهو ما قادهن في النهاية -مع ردة المجتمع إلى كهوف السلفية- إلى أن يجدن في ارتداء أسود النقاب، حكمة تصف كل ما حدث لهن على اعتبار أنه ابتلاء يمهد الطريق للجنة!.
ولما كانت الأم تعمل بعيداً من أجل الحصول على ما يسد رمق البيت، شهدت غرف البنات كل ما لا يحتمل من تحولات عاصفة، لم يكن وعيهن الصغير بقادر على استيعابها ودحض مجازفاتها المميتة، فذهبن جميعاً إلى (طريق الله) رغبة في التوبة من خطايا غير مفهومة، ولم تعد سوى الصغيرتين ناجيتين من الهوة، بينما لم تتمكن أخواتهن الأكبر سناً سوى أن يهربن من جحيم الأم والبلد والبيت إلى رمضاء داعش الحارقة.
ربما لا يمكن اعتبار قصة "ألفة" وبناتها بالجديدة أو الغالية في طزاجتها، لكن ما قدمته بن هنية في محاولاتها إعادة تشكيل السردية، بما يتيح أكبر قدر من محاكمة الأم في مختلف صورها، وتعرية الأسباب التي أفرزت مثل هذا النموذج المعجون بالتشوه، هو أكثر ما يلفت النظر في التجربة، ويحررها من سياق الميلودراما العائلية الموجهة، إلى استكمال ما بدأته المخرجة قبل سنوات بسؤالها المشتبك مع الأرض (ماذا الذي يحدث في بلادنا؟ ولماذا؟!).
* ناقد فني