ليس الغناء العربي هو أم كلثوم وفيروز فقط، لكنه أيضاً أغاني "الفيديو كليب"، أما كلمات الأغاني فلا تحتاج بالضرورة إلى شعراء بحجم الأخطل الصغير أو أحمد رامي، بل يكفي أن تكون تعابير عفوية وبسيطة، يردّدها الشباب في جلساتهم.
كذلك لن يتطلب الأمر الغناء الجديد تأليفاً موسيقياً مدهشاً، على طريقة الرحابنة أو عبد الوهاب، إذ يكفي اللجوء إلى إيقاعات "الهيب هوب" و"الراب"، وأصوات إلكترونية آلية.
لا يتحدث كتاب "فن الشارع" (دار صفافة) عن إبداعات عفوية لمجهولين، كالرسم على الجدران، بل عن الغناء في مصر وتحوّلاته السريعة والعنيفة في الألفية الجديدة.
ربما اختار مؤلفه سيد عبد الحميد مفردة "الشارع" كعنوان، ليس للدلالة على أغاني يؤدّيها هواة غير معروفين، وإنما بقصد الإشارة إلى عالم موسيقي لا نعرف الكثير عنه، ولا يُتاح له أن يتمثّل في القنوات التلفزيونية الرسمية، وغالباً ما تقف له بالمرصاد المؤسسات ونقابة الموسيقيين.
إنه فن الشارع بمعنى أنه ليس تحت وصاية أحد، وليس خاضعاً لسلطة معيّنة.
المؤلف أضاف عنواناً فرعياً شارحاً هو: "حكايات عن كتابة الراب والموسيقى"، وهذا يعني أنه حدّد موضوعه فيما يُعرف بموسيقى "Underground " أو موسيقى "تحت الأرض"، وهو مصطلح لا يعبّر عن نوع موسيقي محدّد، وإنما عن موجات متنوّعة تتلاقى في شعبيتها وتمرّدها ووجودها، في فضاءات خارج الثقافة الرسمية.
مشاهير الراب في مصر
تجنّب المؤلف التوسّع عالمياً وعربياً في ظاهرة "الراب"، باستثناء إشارات عابرة، مكتفياً برسم خريطة "الراب" في مصر، من دون التطرّق إلى ظواهر تمثّل جذوراً أو إرهاصات تاريخية لها، مثل تجربة أحمد نجم والشيخ إمام، بوصفها فناً احتجاجياً خارج الثقافة الرسمية، أو فِرق "الفرانكو آراب" في سبعينيات القرن الماضي.
ركّز المؤلف على "الراب" في الألفية الجديدة، ووزّعه على 3 موجات: الأولى بين عامي 2003 و2007، والثانية بين 2009 و 2014، وهي حملت ظهوراً متجدداً للروّاد وبروز أسماء جديدة، والموجة الثالثة منذ عام 2017، حيث ازدادت التجربة نضجاً واتساعاً، مستفيدة من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وزيادة المنصّات الموسيقية.
الكتاب ينقسم إلى 7 عناوين رئيسة، من دون اعتماد كلمة "فصول"، يركز فيها المؤلف على أشهر تجارب "الراب" وأبرز المؤدّين مثل: الجوكر، مروان موسى، ويجز، مروان بابلو، شاهين، وأبيوسف.
الملاحظة الأساسية التي تجمع بين هؤلاء بلا استثناء، هي الميل إلى أسماء شهرة غريبة أو مختلفة عن أسمائهم الحقيقية، بل إن بعضهم استخدم أكثر من اسم، كأنه يبني الشهرة ثم يهدمها بكل بساطة.
حالة شبحية
فضلاً عن موجات الظهور والاختفاء والاعتزال، والعودة كأنهم يصرّون على حالة شبحية، تدفع الجمهور للبحث الدائم عنهم، أو ربما يرغبون بولادة جديدة وأفكار جديدة أيضاً. يصف المؤلف ذلك بأنه "لعبة تعدّد الشخصيات"، بهدف التغيير وكسر الملل.
أسماء ربما لا يعرف عنها معظم المثقفين شيئاً، وليست مرتبطة بالذاكرة السمعية، مثل سماع أم كلثوم في هدأة الليل، ولا فيروز مع قهوة الصباح. أسماء لا نعرف صور أصحابها الشخصية، وقلما يكون لهم تصريحات إعلامية، أو تتم استضافتهم في مهرجانات الغناء وحفلات دور الأوبرا.
مع ذلك تحظى تلك الأسماء بملايين المتابعات على "التيك توك" واليوتيوب. وبلغت قوّة تأثيرها لدرجة أن بعض هؤلاء شاركوا كوجه إعلاني في الدعاية لشركات عالمية شهيرة. "ويجز" مثلاً، كان أكثر النجوم استماعاً على تطبيق "سبوتيفاي" عام 2020، ومروان موسى أحيا حفل افتتاح مونديال كرة اليد في مصر.
شِعر ذاتي جديد
من النقاط الجوهرية في الموضوع، أن مؤدّي "الراب" لا يغني فحسب، وإنما يؤلف كلماته، إنه بطريقة ما "شاعر" غير معترف به، ينتمي إلى عالم الأدب وليس النغم فقط، ويعبّر عن ذاته لا عن هموم القبيلة.
قد يكون النص الغنائي أقرب إلى قصة قصيرة، أو حكاية أو دعوة للتحدي مع منافسين. ولا يشترط التزام الكلام بقافية معينة ولا الأوزان الخليلية، فهو كلام عادي جداً، عبارات من الشارع والسوشال ميديا، مختلطة بجمل أدبية حكيمة وأمثال وتعبيرات لا تخلو من إباحية وابتذال أحياناً، يضبطها نغمياً الإيقاع الموسيقي الصاخب.
دائماً يطمح المؤدي إلى صياغة أكبر عدد من الأفكار في جمل أقلّ، لذلك قد يبدو النص مفكّكاً، ولا يثبت على معنى أو شعور محدّد. لكن المعنى الأساسي المتكرّر في معظم أغاني الراب، هو التفاخر بالذات وهجاء الآخرين تلميحاً أو تصريحاً.
هل المسألة مرتبطة بنرجسية الفنان وتضخّم الأنا، أم ذلك الكبرياء الذي يشعر به هؤلاء الشباب برغم الانتماء إلى الهامش الاجتماعي والثقافي؟ أم هو إحساس بقوّة تأثيرهم في واقع صعب، ينفي المواهب ولا يسمح بالتغيير بسهولة؟
وعلى الرغم من الجرأة والتمرّد، يحاول المؤدّون تجنّب الصدام مع المدوّنة الثقافية والاجتماعية لجمهورهم المحافظ نسبياً، أو التورّط مع الرقابة والوقوع تحت وطأة القانون.
هنا "تراك" Track للفنان أبيوسف نقرأ منه:
"قربت جربت بالهمس ماجابش
رميت الطوبة على الشمس ما جاتش
ثاني وثالث فاشل في الحقيقة
وفي الأغاني جامد
وفي الأغاني مش حقيقة
ودا خلاني ساكت.."
مصطلحات خاصة جداً
يُشبع كتاب "فن الشارع" فضول القرّاء أو الثقافة العامة، بشرح مقتضب لبعض المصطلحات الفنية؛ فالراب هو شكل موسيقي متفرّع من "الهيب هوب"، يقال إنه نشأ في أميركا، ويطلق على المؤدّي اسم "الرابر"، ويعتمد على الإيقاع السريع المتلاحق، أو الـ "بِيت" (Beat)، حتى أن كلمة أغنية التي ألِفناها مع أعمال مطربين كبار، لم تعد مستخدمة، بل يقال بديلاً عنها "التراك".
كما تطوّر من "الراب" لون آخر يسمى "التِراب"، يعتمد أكثر على الموسيقى الإلكترونية والمؤثّرات الصوتية والقافية وسهولة الألفاظ. هناك أيضاً مصطلح الـ "Diss" وهو يشير إلى نوع من الهجاء والتحدي للآخرين، ومصطلح الباتِل "Battle"، ويشير إلى معارك "الراب" التي تتطلب النفس الطويل، والقدرة على الإتيان بمصطلحات جديدة، يمدح فيها "الرابر" نفسه ويناكف الآخرين.
الأب الروحي
لكل "رابر" جمهوره الخاص الذي يفسّر تجربته وينتقدها ويذهب متحمّساً إلى حفلاته حيثما كانت. في الغالب هو جمهور واع بهذا اللون الموسيقي ويتابعه في مختلف دول العالم، ويتبنّى الدعاية "الرابر" وتوثيق أعماله ورفعها تطوّعاً.
لكن "الرابر" الذي يعتبر الأب الروحي للتجربة كلها في مصر، وصاحب التاريخ الممتد منذ خمسة عشر عاماً، هو "أبيوسف". واللافت أن الكتاب لم يتحدّث عنه في البداية، بل خصص له الفصل الأخير تحت عنوان "متعدد الوجوه". فعندما سئل عن تغيير شخصياته كثيراً أجاب باقتضاب: "زهق"!
"أبيوسف" ربما هو الأكبر سناً بين هؤلاء الشباب، لأنه مواليد عام 1985، بدأ كعازف درامز وكاتب إعلانات، واعتمد على موهبته في التسويق، وفي أعماله الأولى لم تتوفر له إمكانيات كافية فلجأ إلى سماعة هاتف وخزنة ملابس لتجميع الصوت، وكانت بدايته عام 2009 على "ساوند كلاود"، وتعاون في بدايته مع صديقه الموزع الموسيقي سواج لي.
والملاحظ تعدّد الأسماء الحقيقية وأسماء الشهرة التي تشير إليه، قيل إن اسمه "يوسف محمد الطاي"، وقيل "مازن"، واشتهر بأسماء أخرى منها: بينوكيو، رعد، عزرائيل، عمر حرب.
والغريب أنه يحذف أغلب "تراكاته" أو Tracksمن قناته على اليوتيوب، للحفاظ على مستوى قائمة أغاني مستمعيه، ومع ذلك أصدر أكثر من 400 تراك.
تعبّر تجربة "أبيوسف" عن حالة غضب ضد الاكتئاب أو الانفصال أو الشهرة، لكن المتلقّي يحتاج إلى سماع "التراك" أكثر من مرّة، وذلك بسبب سرعته، لكي يفهم بعض الكلمات، وخصوصاً مع براعته في تشييد معجم خاص به. ومن أشهر أعماله أغنية "الوطواط" التي تصف حالات الفراغ والاكتئاب.
انتماء إلى الهامش
إضافة إلى تجربة "أبيوسف"، قدّم سيد عبد الحميد، فصولاً ممتعة عن أشهر الأسماء في عالم "الراب" المصري، مثل ويجز ومروان بابلو. وعلى الرغم من الفروق بين تجارب هؤلا، لكنها تلتقي في الانتماء إلى الهامش، وهناك أكثر من "رابر" ولد لأسرة متوسطة في الإسكندرية، بعيداً عن مركزية العاصمة، وبعضهم اتجه إلى هذا المجال بدافع اليأس، وهو لا يعرف أين سيصل.
في الواقع، قدّم هؤلاء "فناً" مستقلاً لا يتطلب ميزانيات ضخمة، ولا رعاية مؤسسات رسمية، وشيئاً فشيئاً أصبحت لهم حفلات مصوّرة، وأصبح حضورهم في الجامعات الخاصة والأجنبية فاعلاً، وخصوصاً بين أوساط شباب، يشتركون معهم في الغضب والتمرّد، وتعقّد هوياتهم بين لغات وثقافات مختلفة.
اللافت أن المؤلف وهو شاب مهتم بالأدب والموسيقى، ختم كتابه بالقول: "أطمح لتغيير رأي الناس في لون موسيقي معيّن، وكتابي ليس عن موسيقى غيّرت المشهد الغنائي، ولا عن شباب حلموا بالتغيير، وإنما هو كتاب عن السعي في هزيمة كل شيء قد يسلبك حقك في العيش كما تريد".