"تكوين" الثقافية.. تأسيس متعثر وبوادر انشقاق

time reading iconدقائق القراءة - 12
انطلاق "تكوين" في المتحف المصري الكبير. 4 مايو 2024. - taqueen.com
انطلاق "تكوين" في المتحف المصري الكبير. 4 مايو 2024. - taqueen.com
القاهرة-شريف صالح

لا حديث الآن في الوسط الثقافي المصري إلا عن مؤسسة "تكوين الفكر العربي". فما هي، ومن هم مجلس الأمناء، ومن يموّلها؟

 أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات لها في ظل السجال الدائر حالياً، بين معسكر المحافظين، وشيوخ ينتمون إلى المؤسسة الأزهرية، وجماعة "التنويريين".

من يُلقي نظرة على الموقع الرسمي، سيعرف أن المؤسسة تعمل في صمت منذ فترة، ولديها قناة نشيطة على "اليوتيوب". وبالفعل ذكرت الكاتبة فاطمة ناعوت بأنها أنشئت قبل أكثر من عامين، وكان الهدف جمع المحاولات الفردية المعزولة، تحت مظلة مشتركة لخدمة مستقبل الثقافة العربية.

لكن لم يحدث السجال حول "تكوين"، إلا مع إقامة مؤتمرها السنوي الأوّل مطلع مايو، في المتحف المصري الكبير.

مصادر التمويل

اعتبر البعض أن مكان الاحتفال وأسماء الحضور يدلّان على سخاء الإنفاق، ما لفت أنظار معلّقين، سألوا عن "مصادر التمويل".

 وردّ الكاتب يوسف زيدان، عضو مجلس الأمناء على هذه النقطة، بأن الاجتماعات كانت تُعقد في بيوتهم، وكل ما يدفع للضيوف في برامجهم نحو مئة دولار"، نافياً بشكل غير مباشر "وجود تمويل سخي" لهم.

في حين أن زميله في مجلس الأمناء إسلام بحيري، صرّح في برنامج "الحكاية"، أن المؤسسة "ولدت عملاقة وتموّل من خلال تحالف يضم رجال أعمال مصريين وغير مصريين، لدعم كل أشكال الثقافة والفنون"، وذلك على عكس ما أعلنه زيدان.

من جانبه علّق الشاعر والمؤرّخ الثقافي شعبان يوسف في حديثه لـ "الشرق"  قائلًا: "لابد أن يكون المموّل معلناً حتى تتبيّن الأغراض نبيلة أو غير ذلك.. أما الأهم فلا بد أن تكون هناك بعض الشروط التي تجعل الإنفاق على تلك المجموعة لا غيرها".

أضاف: "هناك تمويل عادي نعرف بعضاً من توجّهاته، ولكن هناك ذلك التمويل المتوحّش الذي يريد خلق مناخ ما، وفرض أيديولوجيا لصالحه، ربما يصل الهدف إلى محاولات لغسيل الدماغ  ومحو القومية، وهذا كلام افتراضي وعام يتطلّب من "تكوين"، إيضاح مصادر تمويلها بشفافية، كي تكتسب مصداقية الوسط الثقافي".

وفق تعريفها على موقعها الإلكتروني: "تعمل المؤسسة على تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلّمات الفكرية". 

ويؤكد التعريف بأنها: "مؤسسة عربية تنادى إلى تأسيسها مجموعة من المفكّرين والباحثين العرب"، وبالفعل ضمّت أسماء متنوعة في "مجلس الأمناء" مثل: فراس السواح (سوريا)، يوسف زيدان، إسلام بحيري، إبراهيم عيسى (مصر)، نائلة أبي نادر (لبنان)، وألفة يوسف (تونس).

وضمّ الإعلان أسماء كُتّاب في الموقع مثل: وجيه قانصو، وصابر مولاي أحمد، وهاجر خنيفر، وزينب التوجاني، وكارول الخوري، وعبد الجواد ياسين، والكاتبة فاطمة ناعوت التي تقدّم "بودكاست". 

حول أسماء المؤسسين سأل شعبان يوسف: "هل الجماعة الذين يقودون "تكوين" ينالون القبول الطبيعي؟ الإجابة أن معظم مجلس الأمناء هم أصحاب خلافات حادّة مع غالبية الناس".

وبسبب شهرة المشاركين بإثارة الجدل، وصفهم الكاتب أشرف الخمايسي في تعليقه بأنهم "شخصيات لم تعد تستطيع العيش خارج وهج الترند".

الملاحظة المهمّة حول الأسماء، أن المؤسسة برغم تأكيد مظلتها العربية، لكن الملاحظ أن معظم الجدل بشأنها يجعلها ذات طابع مصري خالص.

غضب أزهري

هاجم "تكوين" أسماء تنتمي إلى مؤسسات الأزهر والقضاء وأعضاء البرلمان. ومن أبرز هؤلاء عباس شومان وكيل الأزهر السابق، الذي أعلن متابعة ما تنشره مؤسسة "تكوين" عن كثب.

لكن لم يصحّ ما انتشر في "السوشيال ميديا" عن تأسيس الأزهر لكيان مضاد لها. فليس ثمة موقف رسمي واضح حتى الآن.

 الشيخ عبد الله رشدي، وهو من أبرز نشطاء "السوشيال ميديا"، هاجم المؤسسة وأصحابها أيضاً، واعتبرهم "غير مؤهّلين للقيام بأي دور ديني".

 وحذّر من "ضرب الثوابت الدينية تحت مسمّى إعادة الدراسة وإعادة النظر في التراث، والتشكيك في المسلمات الدينية، مثل السُنّة النبوية والفقه الإسلامي وأئمة الإسلام".

 كما شن خطيب الجامع الأزهر هجوماً على "المشكّكين في تراث الإسلام وثوابته".

من الشخصيات العامة التي دخلت على خط الأزمة، علاء مبارك، نجل الرئيس الراحل. وعلى الرغم من قبوله الأهداف المعلنة، مثل نشر التنوير ونقد الأفكار الدينية المتطرّفة، إلا أنه ترك الأفكار وانتقد "الأشخاص"، لأنهم برأيه "من أصحاب الأهواء الذين يشكّكون أساساً في السُنّة النبوية والعقيدة".

 واعتبر مبارك "أن الأزهر وحده المسؤول عن تجديد الخطاب الديني". وردّ عليه زيدان بأسلوب ساخر في مقطع فيديو.

 

تلك المسألة ردّت عليها  أيضاً فاطمة ناعوت، إذ وصفت ما يحدث بأنه هجوم استباقي من "تجّار الدين"، لأن الانتقادات توجّه إلى "الأعضاء" وليس إلى الأفكار المطروحة.

 وبرغم تأكيدها على أن الأزهر نفسه "مؤسسة تنويرية"، لكن ناعوت انتقدت بعض المناهج التي لا يقبلها عقل، لكنها تدرّس وتتسبّب في تخريج متطرّفين.

اللافت في كلام ناعوت عن التطرّف وإقصاء الآخرين من قِبل التيار الإسلامي، فالكاتب أشرف الخمايسي اتهمهم بأنهم "إقصائيون لدرجة مريعة، ويمثّلون الوجه المدني المتطرّف المقابل للمتطرّفين دينياً".

اتساع السجال

سرعان ما اتّسع السجال بين الطرفين إلى  الجمهور، وإطلاق وسم يطالب بإغلاق المؤسسة، فضلاً عن توجّه بعض المحامين ببلاغات إلى النيابة العامة، كما نشرت وسائل إعلام مصرية، أن النائب في البرلمان هشام الجاهل، تقدّم بطلب إحاطة لمجلس الوزراء والأزهر الشريف حول الموضوع. 

هذه سمة أساسية في "الترندات الشعبية المثيرة للجدل". ولو جُمعت السجالات والبلاغات إلى النيابة العامة والأحكام القضائية، فإنها توفّر سجلاً ضخماً وكاشفاً عن حدّة الاستقطاب بين التنويريين والمحافظين.

أخذاً في الاعتبار أن القانون المصري، يتضمّن توصيفات مثل "إثارة الفتنة"، و"ازدراء الأديان السماوية"، تكفي لمقاضاة أي شخص وسجنه لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى خمس سنوات، وسبق لإسلام البحيري نفسه أن عوقب بالسجن بهذه التهم.

تكوين ليست مبنى

عضو مجلس الأمناء الكاتب يوسف زيدان، ردّ على الأقاويل المثارة في صفحته على فيسبوك، ونفى الزعم "بأن النائب العام أغلق "تكوين"، وأكد أنها "مبادرة للتثقيف وليست مبنى كي يتم إغلاقه".

 ولفت إلى أنها "تنطلق برعاية الدولة المصرية، لإطفاء حرائق الكراهية المقيتة، وهي لا تستهدف إطلاقاً معاداة الدين الإسلامي أو الأزهر أو الكنيسة أو المعابد الهندوسية. ولا تنوي الدخول في مهاترات المجادلة مع الذين يتكسّبون بالعقائد الخرافية. ويخدعون بخبث البسطاء من الناس في بلادنا".

 ترند طه حسين

لعل أكثر ما أثار صخباً في "السوشيال ميديا" حوار يوسف زيدان وفراس السواح، وما فهم منه بأنهما "أفضل من طه حسين". هذا الكلام أغضب كثيرين ومنهم شعبان يوسف الذي قال: "ما أزعجني في تدشين هذا الكيان، هو النيل من طه حسين، وهو ليس مقدّساً، لكنه من ثوابت الثقافة المصرية والعربية كالنشيد والعلم".

لكن زيدان أوضح أن الكلام جاء في إطار الفكاهة، وأوضح في فيديو مطوّل أن حواره مع السواح "جاء بمعنى أنه يتاح لهما الآن وسائط انتشار وتأثير لم تكن متاحة في عصر طه حسين".

نسخة جديدة للتنوير

ليست المعركة بجديدة بين المحافظين والتنويريين .. عاشها طه حسين نفسه وفُصل من الجامعة، مثلما عانى نجيب محفوظ من فتاوى متشدّدة، وبسببها تعرّض لمحاولة قتل.

 كما سبق لمثقفين أن سعوا إلى إنشاء مؤسسات وكيانات ثقافية خصوصاً في الفترة الملكية الليبرالية، مثل جماعة "أبولو" أو "الخبز والحرية".

ولا يخفى أن هذه الكيانات كانت تتسم بالثورية وتوجيه النقد بقسوة في مسارات ثلاثة: ضدّ قيم وأفكار المجتمع، ضدّ السلطة القائمة ومنها الاحتلال آنذاك، وضدّ قيم جمالية راسخة تمرداً عليها.

لذلك كانت تلك التوجّهات تكتسب الشباب. وأشهر هذه المؤسسات في العقود الأخيرة "جمعية تضامن المرأة العربية"، التي أنشأتها الكاتبة الراحلة نوال السعداوي عام 1982، وتعرّضت لتهديدات بالقتل استوجبت تخصيص حراسة رسمية لها.

 بينما كان المفكر الراحل فرج فودة، أسوأ حظاً، إذ انتهت مواجهاته مع تيار الإسلام السياسي وتأسيسه "الجمعية المصرية للتنوير"، بقتله في الشارع أمام عيني ابنه.

مزاج المصريين

هل مزاج المصريين لا يميل إلى مؤسسات ثقافية ذات طابع تنويري، ولماذا لا تستمر طويلاً بل تنتهي إلى مآلات حزينة؟

طرحنا هذه الأسئلة على الأكاديمي وأستاذ النقد الأدبي في جامعة قناة السويس محمود الضبع، فقال لـ "الشرق": "مبدئياً لا يمكن أن يحدث أي تطوّر مجتمعي في سياق ثقافة التكفير ورفض الآخر أو التشهير به، أياً كانت طبيعة هذا الآخر".

أضاف: "هناك طريق آخر دلّت عليه التجربة مع "الإخوان"، عندما اشتبك فكرهم مع الشارع والواقع، وسرعان ما اكتشف المصريون خديعة ارتداء ثوب الدين، وكشف للمصريين أنفسهم مفهوم "الإسلام السياسي"، الذي لم يكن يعرفه الكثيرون من قبل".

واعتبر الضبع أنه "بناء على ذلك، فإن أي مؤسسة فكرية سواء "تكوين" أو غيرها، من الأفضل لها إتاحة البيئة الفكرية والثقافية، التي تسمح لها بأن تسهم في تطوير الخطاب الفكري العام الذي نحن بالفعل في حاجة إليه".

وأكد أن أي عالِم لا ينكر بأن الثقافة العربية تمرّ بمرحلة تراجع واضمحلال وجمود، تشبه ما كان يحدث أواخر العصر العثماني، عندما لم يكن هناك إنتاج فكري ولا ثقافي، وعندما أوقف الفكر الفلسفي في القرن السادس عشر الميلادي، وما ترتّب عليه من تأخّر الوطن العربي حتى مطلع القرن العشرين".

 تابع: "إذا كنا نريد لهذه الأمّة أن تتطوّر على أسس علمية، علينا أن نتبنى في مؤسساتنا التعليمية ثقافة الاختلاف أولًا، والفكر الآخر ثانياً. وأما ما عدا ذلك، فإني أخشى أن تتدهور الأمور أكثر باتجاه نفي الآخر، الذي قد يصل إلى التناحر والفتنة، والأمّة العربية لا تحتمل ذلك".

وختم الضبع: "ما يهمني هو الدفاع عن مبدأ حرية الرأي وحرية التفكير العلمي والفلسفي، وهو في صميم مشروعي الذي أعمل عليه منذ سنوات بعنوان "رهانات المستقبل في الثقافة العربية"، وهو مشروع يستقرئ ويستخلص ما تملكه الثقافة العربية، ويصلح لإعادة إنتاجه الآن بمعطيات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومفاهيم صناعة المحتوى العالمية، ويستشرف الأدوار الغائبة وما يمكن صناعته من معرفة على أرض الواقع، كي تتحوّل ثقافتنا من كونها رفاهية إلى كونها إنتاجاً".

بوادر انشقاق

بعد "تبيان1" ومقطع فيديو، نشر يوسف زيدان "تبيان 2"، وردّ بأنه "ليس من مهام المؤسسة عقد مناظرات"، في إشارة إلى إعلان مناظرة بين الباحث إسلام بحيري، عضو مجلس أمناء مبادرة "تكوين"، والشيخ عبدالله رشدي باحث الدعوة في وزارة الأوقاف، مع عمرو أديب.

 وهدّد زيدان قائلًا: "إذا أقيمت هذه المناظرة المعلن عنها لأي سبب، فسوف أنسحب من عضوية مجلس الأمناء وأقطع صلتي بها". كما نفى أن يكون الكاتب عصام الزهيري أو فاطمة ناعوت، أعضاء في مجلس الأمناء أو متحدّثين باسم المؤسسة.

قد يُفهم من تهديد زيدان، بأن ثمّة بوادر انشقاق أو على الأقل لا يوجد تنسيق كاف بين المؤسسين. بينما لاذ أعضاء مجلس الأمناء العرب بالصمت التام. ومازال السجال دائراً والأسئلة تبحث عن إجابة.

فهل سيُكتب للمؤسسة الاستمرار أم ستنتهي سريعاً كما حدث مع مثيلاتها؟ هل سينفّذ يوسف زيدان تهديده؟ هل سيقبل المجتمع المصري المحافظ ما يطرحه المؤسسون لـ "تكوين"، أم سوف تثير أسئلتهم المحرّمة جراحاً تؤدي إلى إغلاقها عاجلاً أو آجلاً؟

تصنيفات

قصص قد تهمك