"الأدب هو الذي قادني نحو الحرية، وليس العكس، ولم يكن عندي أدنى شك بذلك.. أعطاني الأدب كل ما أملك، الشجاعةوالمقاومة والسعادة والأمل، وعرفت الأدب قبل أن أعرف الحرية".
استطاع الأديب الألباني إسماعيل كاداريه، الذي غادرنا عن عمر ناهز 88 عاماً (1936 -2024)، تحقيق هدفه الأول والأخير في الحياة، الكتابة الأدبية، وتجنّب كل ما يعوقها بصلابة، اكتسبها من جغرافية مسقط رأسه الجبلي، جيروكاستر، أو مدينة الحجر كما سمّاها، "الوحيدة التي تستطيع فيها تعليق قبّعتك على طرف مئذنة".
حاول كاداريه تحقيق حرية الإبداعية في غياب الحريات العامّة في بلده الصغير، ألبانيا، الذي عرف كل أنواع الاحتلالات، ونظام سياسي شيوعي مغلق، وقال في حوار صريح: "يمكن للكُتّاب أن يكونوا أحراراً في الأسر، ويمكن أن يكونوا مستعبَدين في الحرية".
أضاف: "يتطوّر الأدب ويعيش بشكل مستقل عن الحياة بمعنى ما، وإلا مصيره الموت والنسيان".
كافكا في عباءة هوميروس
هكذا تمكّن كاداريه من بناء عوالمه الروائية المتعددة في 80 رواية وقصّة نشرها، إذ نجد النفس الميثولوجي لهوميروس في الموروث الشعبي الألباني القريب من اليونان، وحضور الجنّيات والإنسان جنباً إلى جنب في الحبكة الدقيقة لمسرحيات شكسبير، وروح الدعابة الساخرة لسيرفانتس، وأخيراً التركيبة العبثية المثيرة لسؤال الوجود لدى كافكا.
منحه خياله الخصب شخصياته الغريبة ووقائع غريبة أيضاً، خلال فترة الوجود العثماني ببلاده، وسياسة كتم الأنفاس في نظام عبادة الزعيم، ومذابح الحروب الإقليمية والعالمية التي شهدتها منطقة البلقان.
برّرت لجنة التحكيم قرارها بمنحه جائزة "بوكر " العالمية سنة 2005، "بأنه كاتب عالمي بتقليد سردي يعود إلى هوميروس".
منذ روايته الأولى والأشهر على الإطلاق بعنوان "جنرال جيش الموتى" (1963)، كتبها وهو في عمر الخامسة والعشرين، اجتاز باب الأدب العالمي بعد ترجمتها إلى الفرنسية عام 1970.
"سياسة ألبانيا لا علاقة لها بإلهام هذا الروائي الشاب، الذي يرتقي بهذا الكتاب المدهش والمليء بالسحر إلى أعلى مستوى على الصعيد الأوروبي، ولا يجب التردد في قول ذلك." علّق الكاتب الفرنسي ألان بوسكي في "لوموند" إثر صدور الرواية (04/04/ 1970).
تعتمد الرواية فكرة كافكاوية بامتياز: البحث من قِبل جنرال إيطالي وراهب عن بقايا عظام الجنود في أجواء ماطرة وتحت الثلج، بهدف إعادة الموتى إلى بلدهم الأصلي، وتشريفهم بمآثم تليق بهم.
لكن الجنرال وجنوده الميتين كانوا غزوا البلد (ألبانيا) وذاقوا هزيمة من نوع خاص، معنوية هذه المرة وليست مادية، قاسية ولا تشريف فيها.
في الترجمة الفرنسية لرواية "القلعة" (1971)، أو "طبول المطر"، يحاصر قائد جيش تركي عثماني جرار قلعة تحصّن بها ألبان، للدفاع عن رمز "النسر" الذي يعلو فوق جدارها، وتعويضه بالهلال.
مصادرة الأحلام
يوظّف العبث كفلسفة وموضوعاً للكتابة، في الرواية الجميلة "قصر الأحلام" (1981)، مركزاً على هوس الأنظمة الشمولية بتعقّب المعارضين، من خلال تكليف أحد موظفي الدولة الكبار بجمع الأحلام من كل مناطق البلاد، ووضعها في مكان واحد، كي يتم تصنيفها وتفسيرها.
نتابع الواقع نفسه في روايته "الجسر ذو الأقواس الثلاثة" (1978)، فيها تتداخل الأسطورة بالواقع من خلال الاستعارة، لإخفاء جريمة على خلفية وقائع بداية احتلال الأتراك لبلده.
وتيرة انشغالاته الأدبية لا تهدأ في رواية "أبريل المكسور" (1980)، و"وقائع من مدينة الحجر" (1971)، و"من أعاد دورونتين" (1980) "الدمية"، حيث يضع والدته المسالمة في صلب الأحداث مع طفولته وعلاقته مع الأدب والكتابة.
خدمت الأدب وشعبي
تشكّل روايات كاداريه نماذج من الأدب الرفيع الذي المنبثق من المجتمع المحلي، هذا البلد الذي أحبّه، حتى بعد أن عاش في باريس منذ سنة 1990، لاجئاً بالقرب من حديقة لوكسمبورغ، إذ منحته فرنسا جنسيتها تقديراً لمكانته الأدبية، وليس لأنه معارض أو منشق.
أبدع كاداريه في ظروف وصفها بالآتي: "ليس أمام الكاتب الكبير المعزول سوى خيار انتظار أن يُرسل مباشرة إلى القبر. لم يعد أمامه الآن سوى تخيّل نوع الموت الذي تعدّه له الدكتاتورية: السم في فنجان القهوة، حادث سيارة، سكين يغرزها سكّير مفترض على سلالم مظلمة." (ليبيراسيون عدد 01/07/2024).
نال الكاتب الألباني مكانة عالمية ككاتب لا مفرّ من قراءة أعماله، حتى لا تنقص القارئ لحظة أدبية فاصلة في القرن العشرين وما تلاه، تجوب به آفاق البحث عن الحرية في طرق سردية آسرة، وهو الذي قال: "خدمت الأدب وخدمت شعبي".