بعد نحو شهرين على سقوط نظام بشار الأسد، أعلنت الإدارة السورية الجديدة حل جميع الفصائل المسلحة، وذلك خلال مؤتمر في العاصمة دمشق، بمشاركة عشرات القادة العسكريين، إلا أن هذا القرار، على أهميته في ضبط فوضى السلاح، لكنه يبقى في الإطار النظري، إذ لا تزال هناك قوى مسلحة وازنة ترفض الاعتراف بالسلطة الجديدة، فضلاً عن أن آليات حل الفصائل لا تزال غير واضحة.
وشهد المؤتمر تعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا في المرحلة الانتقالية، بمباركة وتأييد قادة جميع الفصائل التي حضرت بزي عسكري موحد، وملأت قاعة المؤتمرات في القصر الرئاسي، إلا أن الاجتماع غاب عنه الضباط المنشقون، وممثلون عن القوات الكردية وفصائل الجنوب.
ورغم الإعلان الرسمي عن حل الفصائل، بما في ذلك "هيئة تحرير الشام"، لكن على أرض الواقع تبدو المهمة أصعب مما يمكن تصوره، فبينما ترفض قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، الفكرة من الأساس، تضع فصائل في درعا والسويداء شروطاً صارمة للانضمام إلى المؤسسة العسكرية، إلى جانب تعقيدات تتعلق باختلاف توجهات الفصائل ومصادر تمويلها ومناطق انتشارها.
"جيش وطني" جديد
منذ وصوله دمشق بعد فرار بشار الأسد إلى موسكو، وحل الجيش السوري، أكد رئيس سوريا الانتقالي أحمد الشرع، أنه سيعمل على تأسيس "جيش وطني" جديد، تنضوي تحته كافة فصائل المعارضة، موضحاً أن العملية ستشمل تفكيك كل القوى العسكرية وتسليم سلاحها وإدماجها، وقال إن "هيئة تحرير الشام" ستكون أول من يعلن حل نفسه، بالتزامن مع انعقاد المؤتمر الوطني الذي لم يُحدد موعده بعد.
وخلال الأسابيع الماضية، عقد الشرع ووزير دفاعه، اجتماعات مع قادة العديد من الفصائل، لمناقشة آلية الانخراط في الجيش الجديد، لكن حتى الآن لا يوجد خطوات عملية على الأرض تُشير إلى أن الولاء والتبعية أصبحت للإدارة الجديدة.
وينتشر في سوريا أكثر من 60 فصيلاً مسلحاً في مختلف مناطق البلاد، ما يزيد على نصفها ينضوي تحت مظلة "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، والذي يضم 80 ألف مقاتل على الأقل، تتمثل مهمتهم الرئيسية في قتال "قوات سوريا الديمقراطية"، بينما تعمل بقية الفصائل ضمن تحالفات أو بشكل مستقل. كما تختلف توجهات هذه الفصائل بين المعتدلة وذات التوجه الديني، فضلاً عن جهات الدعم المتنوعة.
وفي لقاء مع مجلة "المجلة" قال وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، إنه خدم في القوات المسلحة السورية قبل 2011، برتبة ضابط مجند اختصاص مدفعية، مشيراً إلى أن لديه معرف كبيرة في هذا الميدان. وفضلاً عن الخبرة الميدانية التي اكتسبها على مدى الصراع المسلح خلال العقد الماضي.
وذكرت إدارة العمليات العسكرية، أن أبو قصرة أجرى 47 جلسة شملت قادة وضباط من مختلف الفصائل، مضيفة أنه تم الاتفاق على انخراط جميع التشكيلات العسكرية التي شاركت بالاجتماعات ضمن الإدارة الجديدة.
وفي إطار ترقيات شملت منح رتب عسكرية لعشرات القادة نهاية العام الفائت، حصل أبو قصرة على رتبة لواء، وتولى حقيبة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة. وهو مهندس زراعي شغل منصب قائد الجناح العسكري في "هيئة تحرير الشام"، وتولى قيادة العمليات العسكرية خلال معركة "ردع العدوان" التي أطاحت بنظام الأسد خلال 11 يوماً.
كما يُعتبر من الشخصيات التي تحظى بثقة أحمد الشرع، وحتى وقت قريب كان يُعرف بألقاب عديدة، منها "أبو حسن 600"، و"أبو حسن الحموي"، نسبة إلى محافظة حماة التي تعود جذوره إليها.
المقاتلون الأجانب
في 29 ديسمبر الماضي، أصدر الشرع قراراً بمنح 49 شخصاً من الدائرة المقربة له، رتباً عسكرية رفيعة، تنوعت بين "لواء، وعميد، وعقيد"، معظم من تم التعرف عليهم ينتمون إلى "هيئة تحرير الشام".
وكان اللافت والمثير للجدل في آن واحد، وجود 6 أجانب في القائمة، منهم 3 ينتمون إلى أقلية "الأويجور" الذين تعود أصولهم إلى شرق آسيا، وهم عبد العزيز داوود خدابردي (عميد)، ومولان ترسون عبد الصمد، وعبد السلام ياسين أحمد (عقيد)، إضافة إلى التركي عمر محمد جفشتي، والأردني عبد الرحمن حسين الخطيب (عميد)، والمصري علاء محمد عبد الباقي (عقيد).
أثارت تلك التعيينات انتقادات ومخاوف محلية، إذ اعتبر الكثيرون أن هذه الخطوة "غير قانونية أساساً"، على اعتبار أن المقاتلين الأجانب لا يحملون الجنسية السورية، وبعضهم مطلوب في بلدانهم الأصلية بتهم تتعلق بـ"الإرهاب"، بالتالي، وفق هذا الرأي، لا مبرر لاختيار هؤلاء في ظل وجود آلاف الضباط السوريين المنشقين من أصحاب خبرة.
في الوقت نفسه، أبدت العديد من الدول تحفظها على الخطوة، إذ رأت فيها تهديداً أمنياً وإشارات غير مطمئنة من القيادة السورية الجديدة، وبحسب تقرير لـ"رويترز"، حذّر مبعوثون أميركيون وفرنسيون وألمان، حكام دمشق من أن تعيينهم لـ"جهاديين أجانب" في مناصب عسكرية عليا، يُمثل "مصدر قلق أمني، ويسيء لصورتهم"، في وقت يحاولون الحصول على شرعية دولية.
في المقابل، اعتبرت "هيئة تحرير الشام" أن هذه التعيينات رمزية، وتأتي تقديراً لتضحيات "المقاتلين الأجانب" في الصراع ضد نظام الأسد.
ومنذ عام 2011، دخل سوريا آلاف الأجانب للقتال ضد نظام الأسد، غالبيتهم يحملون أيديولوجيات دينية، أُطلق عليهم اسم "المهاجرون"، وينتمون إلى جنسيات وعرقيات متنوعة، من بينهم عرب وأوزبك وأتراك وشيشان وألبان وأذريون، إضافة إلى مقاتلين جاءوا من الولايات المتحدة وبلدان أوروبية، ومع تطور الصراع في سوريا استقرت معظم تلك الجماعات شمال غربي البلاد.
وعندما قدم من العراق إلى سوريا في الربع الأخير من عام 2011، لتأسيس فرع لتنظيم "داعش" في العراق، الذي كان يتزعمه آنذاك أبو بكر البغدادي، رافق أحمد الشرع الذي كان يُعرف بـ"أبو محمد الجولاني"، مجموعة صغيرة تنتمي إلى جنسيات متعددة، ومع نمو تنظيم "جبهة النصرة" الذي أعلن تأسيسه في 2012، انضم له آلاف المقاتلين المحليين والأجانب.
وخلال السنوات الخمس الماضية، استطاعت "هيئة تحرير الشام" القضاء على أو إقصاء العديد من الفصائل التي تضم مهاجرين، مثل "حراس الدين" (فرع القاعدة)، و"جند الشام" بقيادة "أبو مسلم الشيشاني"، و"كتيبة الغرباء" الفرنسية، إضافة إلى بقايا تنظيم "داعش"، تارة بحجة أنهم "غلاة ومتشددون"، وتارة أخرى بهدف إنهاء الحالة الفصائلية، وفي بعض الأحيان استقطبت "الهيئة" عناصر من تلك الجماعات إلى صفوفها.
ويُعد "الحزب التركستاني الإسلامي" الذي يضم مقاتلين من الأويجور، تعود أصولهم إلى إقليم شينجيانج الصيني المعروف أيضاً باسم "تركستان الشرقية"، حليفاً لـ"هيئة تحرير الشام".
وعندما بدأت الهيئة التحول في نهجها قبل نحو 5 سنوات، بدأت تظهر ملامح تنافس بين قادتها، إذ استطاع الشرع إزاحة بعضهم عن المشهد، على غرار "أبو يقظان المصري"، و"أبو مالك التلي"، وغيرهم، وبدأ باستقطاب شخصيات أصغر سناً لتُشكّل الدائرة المقربة له، أبرزهم مرهف أبو قصرة (مواليد 1984) وزير الدفاع الحالي، وعلي نور الدين النعسان رئيس أركان الجيش، الذي الذي مُنح رتبة لواء في التعيينات الأخيرة، وأنس خطاب رئيس جهاز الاستخبارات (1987)، إضافة إلى وزير الخارجية الحالي أسعد الشيباني (مواليد 1987).
وقد تكون دوافع الشرع في اختيار بعض قادة الجيش الجديد، قائمة على أساس الولاء والثقة، وذلك وسط محيط مليء بالخصوم والفصائل التي كانت يوماً ما في حالة عداء وحرب أحياناً مع "هيئة تحرير الشام"، أما بقية الأسماء التي منحها رتباً عليا، ربما تُمثل حالة من المحاصصة للحفاظ على توازن القوة داخل الجماعة التي يتزعمها.
من آسيا الوسطى إلى إدلب
"أبو يحيى" هو شاب يبلغ من العمر 30 عاماً، انتقل إلى سوريا قادماً من آسيا الوسطى في عام 2015 استجابة كما ما وصفه في تصريحات لـ"الشرق" بـ"دعوة المسلمين".
المقاتل في "هيئة تحرير الشام"، الذي يتقن العربية المحكية، متزوج من امرأة سورية ولديه أطفال، ويعيش بشكل رئيسي في إدلب، وإضافة إلى مهمات القتال يتولى عملية تدريب المقاتلين على استخدام بعض أنواع الأسلحة، وكان قد شارك في معركة "ردع العدوان"، وبعد الإطاحة بنظام الأسد، لم يطلب أحد منه مغادرة سوريا، مشيراً في تصريحاته لـ"الشرق" أنه "لا يرغب بذلك أساساً"، نظراً لكونه مطلوباً في بلده الأم بسبب انخراطه في "جماعة جهادية"، فضلاً عن أنه يرى نفسه مندمجاً مع المجتمع المحلي.
ويُثير وجود المقاتلين الأجانب، مخاوف بعض السوريين الذين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة النظام، لكن "أبو يحيى"، يرى ألا داعي للخوف "لقد استقبلنا الناس بحفاوة في كل مكان. نحن مجرد مسلمين عاديين. ليس لدينا مشكلة مع الطوائف السورية، فهم عاشوا هنا منذ زمن بعيد. لم نأتِ للاستيلاء على أراضي أحد، بل جئنا فقط لمساعدة المظلومين، ونجحنا. نحن لسنا قتلة، أو مجانين، أو إرهابيين. العالم رأى من هو الإرهابي الحقيقي بعد صيدنايا".
وأوضح أنه لا مشكلة لديه بإلقاء السلاح إذا طلبت الإدارة السورية ذلك، لافتاً إلى أن"هيئة تحرير الشام" لم تعد مجرد تنظيم، لأنها تمثل اليوم وزارة الدفاع"، وتابع: "إذا تم منحنا شرف حماية شعب سوريا، سنحميهم بغض النظر عن انتماءاتهم".
وبشأن إمكانية منحه وغيره من المقاتلين الأجانب، الجنسية السورية، أشار "أبو يحيى" إلى أنه لم يتم إعلامهم بأي شيء عن هذا الأمر.
في الآونة الأخيرة بدأت تنتشر أنباء عن انتهاكات يمارسها مقاتلون أجانب في الساحل السوري وريفي حمص وحماة، ما دفع السكان إلى مطالبة الإدارة الجديدة بإبعادهم إلى مناطق أخرى واستبدالهم بمقاتلين محليين.
ولم يقتصر وجود المقاتلين الأجانب على المعارضة السورية فحسب، فقد استعان نظام الأسد بالعديد من الجماعات المتشددة، من إيران وأفغانستان والعراق ولبنان للقتال إلى جانبه خلال سنوات الحرب.
معضلة القوات الكردية
العقبة الأكبر التي تواجه القيادة الجديدة في تشكيل جيش سوري موحد، تتمثل في قوات سوريا الديمقراطية، إذ ترفض هذه الأخيرة فكرة حل نفسها والاندماج في مؤسسة عسكرية تابعة لدمشق. كما أنها غابت عن المؤتمر الذي أعلنت خلاله الإدارة الجديدة حل الفصائل.
وتشكّلت "قسد" عام 2015، بدعم من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، بهدف محاربة تنظيم "داعش"، ورغم وجود فصائل عربية وسريانية في صفوفها، إلا أن الوحدات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي هي العمود الفقري لهذه القوات، وتُشكل النسبة الأكبر من مقاتليها وقادتها.
وحتى في ظل نظام الأسد، كانت قوات سوريا الديمقراطية منفتحة تجاه فكرة الانضمام للجيش السوري، إلا أنها كانت حاسمة بشأن رفض حل نفسها، وفي مقابلة مع "الشرق" خلال ديسمبر 2022، رد مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية على سؤال بشأن تسليم مناطق سيطرته لنظام الأسد وتفكيك قواته "نحن لم نستلم هذه المناطق لنسلمها. لقد حررناها من إرهاب داعش بدماء أبناء وبنات شعبنا. ومن غير الواقعي ولا يمكن عملياً تفكيك قواتنا إلى أفراد".
واليوم بينما يعود الحديث مجدداً عن مصير هذه القوات، يُكرر عبدي الموقف ذاته. وفي مقابلة حديثة مع "الشرق"، قال قائد "قوات سوريا الديمقراطية"، إنهم منفتحون على مقترح الانضواء تحت مظلة الجيش السوري الجديد، لكن على أن "نبقى كتلة عسكرية" مستقلة.
إلا أن هذا المقترح قوبل برفض حاسم من الإدارة السورية الجديدة، واعتبر وزير الدفاع مرهف أبو قصرة في تصريحات صحافية، أن بقاء كتلة عسكرية كبيرة مثل "قسد" داخل وزارة الدفاع ليس خياراً صائباً لبناء الجيش الجديد، مشيراً أن الحل الأفضل هو أن يتم توزيعهم بطريقة عسكرية ضمن هيكلية وزارة الدفاع.
وفي لقاء مع "الشرق"، قال القائد في إدارة العمليات العسكرية أحمد الدالاتي، إنه "إذا أصرت (قسد) على موقفها وهدّدت أمن سوريا ومصالحها العليا سيكون أمامنا الخيار العسكري الذي لا نتمناه".
تُسيطر "قسد" على حوالي 25% من مساحة سوريا، بما في ذلك محافظتي الحسكة والرقة ونصف دير الزور وبعض أجزاء ريف حلب، وتتولى إدارة ذاتية كردية تسيير شؤون هذه المناطق، ولديها اقتصادها الخاص الذي يعتمد بشكل رئيسي على إيرادات معظم حقول النفط السورية شرق وشمال شرق البلاد، والمحاصيل الزراعية وخاصة الحبوب، إضافة إلى الدعم الأميركي.
وهكذا، سيعني إرغام "قسد" بالقوة على الانضمام للجيش الجديد، فتح جبهة لن تكون سهلة أمام الإدارة السورية الجديدة، إذ يبلغ عدد قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لمظلوم عبدي أكثر من 100 ألف مقاتل، وهم مدربون ولديهم أسلحة ثقيلة، ويتمتعون بخبرة كبيرة، لا سيما أنهم كانوا القوة الأبرز في محاربة تنظيم "داعش".
كما أن إدارة الشرع تولي اهتماماً كبيراً في المرحلة الحالية بضبط الأمن في البلاد، ولذلك، فإن شن حرب على "قسد" سيدفعها إلى الاستعانة بمعظم عناصرها التي هي بأمس الحاجة إليها في تنظيم الشؤون الأمنية، إذ لا تزال تقع اشتباكات مع متمردين وعصابات من بقايا نظام الأسد في بعض المناطق.
وحتى لو كانت رغبة الشرع أن يكون الحل مع "قسد" سلمياً، إلا أن تركيا، اللاعب الإقليمي الأبرز في سوريا اليوم، قد تذهب باتجاه حسم هذا الملف عسكرياً، إذ لطالما اعتبرت أنقرة أن قوات سوريا الديمقراطية، تُمثل تهديداً لأمنها القومي، وهدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً بأنه "سيدفن مقاتلي (قسد) مع أسلحتهم" إذا رفضوا تسليمها. و تدفع تركيا بحلفائها من فصائل الجيش الوطني نحو التصعيد على خطوط التماس مع القوات الكردية.
وفي حال عدم التوصل لاتفاق قريب مع "قسد"، ستبقى تبعية "الجيش الوطني السوري" لتركيا، بشكل مستقل عن الإدارة الجديدة، وهذا أيضاً سيُشكل عقبة أمام توحيد الفصائل في مؤسسة عسكرية واحدة. وكان اثنين من أبرز قادة الجيش الوطني حاضرين في مؤتمر الفصائل العسكرية بدمشق، وهما "أبو عمشة" و"أبو بكر" اللذان تفرض عليهما واشنطن عقوبات على خلفية "انتهاكات" في عفرين.
من ناحية أخرى، قد تمنع الولايات المتحدة شن هجوم شامل على حلفائها الأكراد، لا سيما أن هناك ما لا يقل عن 15 ألف سجين من مقاتلي "داعش" في مناطق سيطرة "قسد"، إضافة إلى 40 ألف من عائلاتهم يعيشون في مخيّم "الهول" للاجئين، وقد حاول مسؤولون في "قسد" مراراً التلويح بهذه الورقة، محذرين من أن أي حرب قد تؤدي إلى فرار عناصر التنظيم وعودة نشاطه.
في وقت سابق من الشهر الجاري، التقى مظلوم عبدي مع أحمد الشرع بالعاصمة دمشق، في ما وُصف بأنه تقدم إيجابي في العلاقة بين الجانبين، إلا أن اللقاء لم يُفضِ إلى اتفاق على حل مسألة الانضمام للجيش. وفي ضوء ذلك، سيبقى ملف "قسد" أحد أبرز التحديات أمام دمشق، إلا إذا كان في جعبة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب تصوراً أو خطة لتسوية، تُرضي حلفاءه الأتراك من ناحية، ولا تُهدد مستقبل حلفاءه الأكراد من ناحية ثانية، وتُسهم في استقرار سوريا من ناحية ثالثة.
وشدّد الشرع في تصريحات لوسائل إعلام تركية، على عدم السماح مطلقاً، بتقسيم بلاده أو وجود سلاح خارج سلطة الدولة، وقال إنه "لا يمكن أن نقبل بوجود مقاتلين أجانب في سوريا"، في إشارة إلى عناصر حزب العمال الكردستاني غير السوريين الذين يقاتلون في صفوف "قسد".
الجدير بالذكر أن التعاون الأمني مع الغرب، لا يقتصر على القوات الكردية فحسب، إذ حتى الشرع، وفقاً لمقابلة أجراها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع قناة "فرانس 24" قبل أكثر من شهر، قدّم خلال السنوات الماضية معلومات ساعدت الغرب وأنقرة في محاربة الجماعات المتشددة وعلى رأسها تنظيم "داعش" واستهداف قادتها.
وقبل مدة قصيرة، ذكرت وسائل إعلام أميركية، أن واشنطن زودت القيادة السورية بمعلومات حول مخطط لـ"داعش" بتفجير أحد المراقد الشيعية بالعاصمة دمشق، لتقوم إدارة الأمن العام باعتقال خلية تابعة للتنظيم.
تهميش الضباط المنشقين
بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية في 2011، بدأت حركة الانشقاقات في صفوف الجيش السوري، وانخرط العديد من الضباط وصف الضباط والجنود في كتائب "الجيش الحر"، إلا أن حضورهم انحسر كثيراً في السنوات اللاحقة، بسبب تهميشهم من قبل الدول الداعمة، كما يقول بعضهم، إلى جانب صعود الجماعات الدينية وتصدرها للمشهد.
وينقسم الضباط المنشقون إلى فئتين، إحداها انضمت إلى الجماعات المسلحة ذات التوجه الديني ومن تبقى من فصائل المعارضة، والأخرى اختارت الانكفاء أو أُجبرت على الابتعاد، وهذه الأخيرة تضم آلاف العسكريين الذين يعيشون في مخيمات النازحين أو دول الجوار أو لجأوا إلى أوروبا.
في الفترة الأولى بعد سقوط نظام الأسد، بدأت تُطرح أسئلة حول دور الضباط المنشقين في تأسيس الجيش الجديد، لا سيما بعد التعيينات المثيرة للجدل في وزارة الدفاع، الأمر الذي فُسّر بأنه محاولة لتهميشهم من الإدارة الجديدة، حتى أن الكثيرين انتقدوا عدم استقبال الشرع للعقيد رياض الأسعد مؤسس الجيش الحر وأحد أوائل المنشقين عن نظام الأسد، الذي تعرض لمحاولة اغتيال في عام 2013 بزرع عبوة ناسفة في سيارته، ما أدى إلى حدوث انفجار بُترت ساقه على إثره.
في الأيام الأخيرة، التقى وزير الدفاع مرهف أبو قصرة مع رياض الأسعد وضباط آخرين، وقال في مقابلة لاحقة إن العسكريين المنشقين سيكون لهم دور في تشكيل الجيش السوري، لكن دون الخوض في التفاصيل أو الآلية التي سيتم فيها ذلك.
العقيد عبد الجبار عكيدي، وهو ضابط سوري خدم 41 عاماً في القوى البرية التابعة للجيش السوري، قبل أن ينشق في مطلع عام 2012، حيث تولى لسنوات قيادة المجلس العسكري في حلب التابع للجيش الحر، اعتبر خلال تصريحات لـ"الشرق"، أن قادة وعناصر الفصائل التي قاتلت الأسد حتى فراره، لها الأولوية في الانخراط بالجيش الجديد حتى لو لم يكونوا خريجي كليات حربية، لكنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن "خبرة هؤلاء ميدانية وليست تنظيمية"، ولذلك يعتقد بضرورة مشاركة الضباط المنشقين نظراً إلى خبراتهم في بناء المؤسسة العسكرية.
وأضاف: "قال وزير الدفاع إن الجيش السوري سيكون دون محاصصة فصائلية أو مناطقية أو دينية، وهذا يتطلب ذوبان كافة القوى المسلحة، وإنشاء كليات عسكرية متخصصة، واستغلال خبرات آلاف الضباط المنشقين، فالجيوش تتألف من قوات برية وجوية وبحرية، وكذلك على أساس الأسلحة، بما في ذلك الإشارة والصواريخ والمدرعات والمشاة والحرب الإلكترونية وغيرها".
وحذّر عكيدي من أن تذهب سوريا إلى السماح بوجود فصائل موازية للجيش، على غرار نموذج "الدعم السريع" في السودان، أو ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق، معتبراً أن "الدمج يعد تحدياً كبيراً وليس سهلاً". كما أشار إلى أن منح رتب عليا لأجانب أو أشخاص ليسوا من خلفية عسكرية احترافية، ينطوي على جانب من الاستعجال، فضلاً عن الاعتراضات العربية والدولية.
من جانبه، قال سامر الصالح وهو ضابط سابق اختصاص دفاع جوي، إنه "منذ بداية الثورة كان هناك توجه من الدول والجهات الداعمة نحو تهميش الضباط المنشقين والتعامل مع أشخاص غير عسكريين يمكن السيطرة عليهم ولديهم قابلية للانقياد، وبعضهم تصدر المشهد لاحقاً. كما أن الفصائل الإسلامية كانت جميعها تقريباً ضد وجود الضباط المنشقين".
واعتُقل الصالح في أغسطس 2011، وتنقّّل بين سجني المزة وصيدنايا، قبل أن يُفرج عنه نهاية 2012، ليتوجه بعدها إلى جبل الزاوية شمال سوريا وينضم إلى فصيل "جيش العزة" التابع للجيش الحر، وبقي هناك إلى أن غادر واستقر في تركيا عام 2019.
وفي حديث لـ"الشرق"، انتقد الصالح، عدم استقبال قائد الإدارة السورية الجديدة للعقيد رياض الأسعد مؤسس الجيش الحر، حتى من باب التقدير المعنوي، وفق تعبيره. ورأى أن "ما يحدث اليوم فوضى، ويختلف عن عملية بناء الجيوش الوطنية المحترفة، بل يبدو أشبه بعملية محاصصة وتوزيع مناصب على شكل مكافآت لأشخاص مقربين أو لقادة فصائل"، معتبراً أن "استمرار تجاهل الضباط المنشقين قد يحول دون اعتراف العالم بإدارة الشرع".
وأضاف: "القيادة الجديدة لا تنظر إلينا كضباط خريجي مؤسسة عسكرية، بل كخريجي مؤسسة أسدية. لا مبرر للخشية من المنشقين فنحن لا قوة لنا على الأرض، وكل ما نملكه هو خبراتنا. ولا ننسى أن الضباط هم أول من رفع السلاح لمواجهة النظام والدفاع عن السوريين".
بعد انتقاله إلى تركيا منذ 6 سنوات، اضطر الصالح وضباط آخرين، حسبما أخبر "الشرق"، إلى العمل في الحراسة وبيع الخضار ومهن أخرى، ومع ذلك قال إنه لا يقبل أن يعمل في جيش تحت إمرة "أشخاص دخلاء" على السلك العسكري، لافتاً إلى أنه سيعود إلى سوريا ويبحث عن عمل مثل أي مواطن عادي.
شروط فصائل الجنوب
بعد تأكد مغادرة بشار الأسد إلى روسيا في صباح 8 ديسمبر الماضي، تناقلت وسائل الإعلام مقطع فيديو لمجموعة مقاتلين يخرجون رفقة رئيس الوزراء محمد الجلالي من منزله في دمشق، ثم استقلوا سيارة رباعية الدفع، واتجهوا نحو فندق "فور سيزونس"، وذلك قبل وصول إدارة العمليات العسكرية إلى العاصمة.
أثار ذلك المقطع الاستغراب، نظراً إلى كون هؤلاء المقاتلين ينتمون إلى "اللواء الثامن" العامل في محافظة درعا، وهو فصيل تأسس في عام 2018 في إطار تسوية مع النظام برعاية روسيا، بعد أن ظل لسنوات يقاتل في صفوف المعارضة السورية.
ويُعتبر هذا الفصيل أحد أقوى الجماعات المسلحة في المنطقة الجنوبية، ويقوده أحمد العودة، منذ أن كان كتيبة صغيرة عام 2013، قبل أن تندمج مع نحو 20 فصيلاً عام 2016 تحت اسم "قوات شباب السنة"، والتي تلقّت الدعم آنذاك من مركز العمليات العسكرية Military Operations Center، الذي كانت تديره الولايات والمتحدة بمشاركة دول عربية وأجنبية، وعُرف بـ"غرفة الموك".
وكان العودة أول قائد فصيل يلتقي أحمد الشرع بعد يومين من سقوط نظام الأسد، وهو شخصية يُنظر لها من طرف المعارضة بعين الريبة، وذلك في ضوء تبعيته لروسيا نحو 7 سنوات، ولا تزال تُطرح تساؤلات كثيرة بشأن علاقته مع الإدارة السورية الجديدة ومستقبل قواته.
ورغم أن القائد في إدارة العمليات العسكرية أحمد الدالاتي تحدث لـ"الشرق" عن استعداد فصائل في درعا للانخراط في وزارة الدفاع السورية، إلا أنه لا يوجد أي إعلان رسمي بعد في هذا الإطار، وتحديداً ما يتعلق بـ"اللواء الثامن".
ولم يحضر أحمد العودة مؤتمر دمشق الذي أعلن خلاله حل الفصائل المسلحة، ما يُشير إلى عدم التوصل لاتفاق بشأن مصير اللواء الثامن الذي يتولى قيادته.
ومن التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة أيضاً إصرار الفصائل الدرزية في السويداء جنوبي البلاد على الاحتفاظ بسلاحها، حيث لم تشارك أي منها أيضاً في المؤتمر.
وهذه المجموعات تأسست خلال العقد الماضي في ضوء انتشار الفوضى الأمنية وأعمال الخطف والسلب وغياب سلطة الدولة، شكّلها رجال دين أو زعماء محليون قالوا إنهم اضطروا إلى هذه الخطوة لحماية المنطقة وضمان سلامة سكانها.
وفي ليلة رأس السنة الفائتة، منعت فصائل محلية رتلاً عسكرياً تابعاً لـ"هيئة تحرير الشام" من دخول السويداء، وقالت إنه لم يُنسّق معها من قبل، الأمر الذي عكس حالة من ضعف الثقة بين الطرفين.
وفي حديث لـ"الشرق"، أكدت حركة "رجال الكرامة" أكبر فصائل السويداء، أنها ستحتفظ بسلاحها ولن تسلمه إلى أي جهة، وهو الموقف نفسه الذي أعلنه سابقاً زعيمها الشيخ يحيى الحجار.
وفي ردها على أسئلة بشأن دوافع هذا الموقف، قال المتحدث باسم الحركة، قتيبة عزام: "لقد عانينا في السنوات الماضية من هجمات شنتها تنظيمات متطرفة ضد السويداء. وحتى درعا التي لدينا تنسيق مع بعض فصائلها لم تُسلّم سلاحها حتى الآن للإدارة الجديدة، مثل قوات أحمد العودة".
وفي عام 2018 تعرضت السويداء لمجزرة نفذها تنظيم "داعش"، أسفرت عن مصرع أكثر من 220 شخص واختطاف العشرات، وحمّل الأهالي آنذاك نظام الأسد مسؤولية ما جرى، ذلك أن عناصر التنظيم الذين شنّوا الهجوم كان قد تم نقلهم إثر تسوية قبل ذلك من دمشق إلى الريف الشمالي الشرقي للمحافظة ذات الغالبية الدرزية.
وقال عزام: "سنُسلّم سلاحنا وننضم للجيش عندما يكون هناك دولة مواطنة، ودستور جديد، وقانون يسود على الجميع، وعندما يتم تأسيس جيش غير فئوي لا يكون أداة في يد السلطة، حينها سيكون طريقنا بالتأكيد نحو دمشق، لكن حتى الآن الإشارات ليست جميعها مطمئنة، لا سيما تأسيس وزارة دفاع من لون واحد وضم قادة من جنسيات أجنبية، وهذا النموذج غير مقبول بالنسبة لمعظم السوريين، بما في ذلك السويداء التي لم يُفسح حتى أمام أبنائها المجال للتطوع في الجيش الجديد".
وتقف كافة فصائل السويداء تقريباً الموقف ذاته من الانضمام للجيش الذي تعمل على تشكيله الإدارة السورية الجديدة. ورغم أن الدالاتي قال في مقابلته مع "الشرق"، إن "الجيش السوري سيكون متاحاً لكل مكونات المجتمع السوري باعتبارهم شركاء وتقع على عاتقهم كذلك مسؤولية الدفاع عن الوطن"، إلا أن بعض الرايات والشعارات ذات الطابع الديني التي يرددها المقاتلون التابعون لـ"هيئة تحرير الشام" القوة الأكبر في إدارة العمليات خلال العروض العسكرية تُثير حساسية بعض المكونات السورية، التي تقول إن عقيدة قوات الإدارة الحالية، كما تبدو، "لا تُمثل حالة وطنية بقدر ما تعكس عقيدة الفصيل الذي تنتمي إليه".
حتى أن الدالاتي الذي يتولى منصب نائب القائد العام لحركة "أحرار الشام الإسلامية" وهي فصيل مستقل، أشار في لقاء سابق، إلى أنه لن يتم تفكيك الفصائل أو نزع سلاحها بل ستقوم وزارة الدفاع بإعادة توزيعها على الهيكلية العسكرية كل حسب اختصاصه.
الجدير بالذكر أن حركة "أحرار الشام" لم تحل نفسها حتى الآن، بل فتحت باب الانتساب إلى صفوفها بعد أيام من سقوط النظام، مما يُشير إلى أن مسألة حل الجماعات المسلحة أعقد مما تبدو.
مستقبل "جيش سوريا الحرة"
ورغم حضور قائد "جيش سوريا الحرة" العقيد سالم التركي، مؤتمر دمشق، وإلقائه كلمة أمام الشرع، إلا أن مصير هذا الفصيل المدعوم أميركياً لا يزال غير واضح حتى الآن.
وكان التركي التقى وزير الدفاع مرهف أبو قصرة في 9 يناير الجاري، بشأن عملية الدمج في المؤسسة العسكرية الجديدة، ومع ذلك، يواصل "جيش سوريا الحرة" مهمته الرئيسية المتمثلة في قتال تنظيم "داعش".
وهذا الفصيل تأسس على يد مجموعة من المنشقين عن قوات نظام الأسد في 2015 باسم "جيش سوريا الجديد"، ثم تغير في عام 2016 إلى "جيش مغاوير الثورة"، وفي 2022 أصبح "جيش سوريا الحرة"، ويتلقى دعمه وتسليحه وتدريبه من القوات الأميركية في قاعدة التنف شرقي سوريا قرب الحدود العراقية.
وهكذا، ستبقى سوريا بلا جيش موحد حتى تستطيع الإدارة الجديدة إيجاد تسوية مع عشرات الفصائل المنتشرة في كافة المناطق، في مهمة تبدو بنظر الكثيرين "شبه مستحيلة" في المدى القريب، حيث لكل فصيل جهة داعمة، حيث سيحتاج الشرع توفير ميزانية كافية لوزارة الدفاع تحرر الجماعات المسلحة السورية من تبيعتها لمموليها، تضمن دفع رواتب القادة والعناصر، وتوفر المنشآت العسكرية ومستلزماتها.
وحتى لو نجحت هذه المساعي، سيكون أمام إدارة الشرع تحديات كبيرة أيضاً في تسليح هذا الجيش، إذ دمّرت إسرائيل 90% على الأقل من القدرات العسكرية لسوريا عبر مئات الغارات الجوية التي نفذتها مقاتلاتها بعد فرار الأسد.