أدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة دوراً بارزاً الفترة الماضية، إذ أصدرت أحكاماً اعتُبرت من بين "الأكثر أهمية" منذ عقود، وطالت ملفات شائكة، بما في ذلك حق الإجهاض وتداول الأسلحة والدين والاحتباس الحراري، كما أثارت جدلاً وردود فعل متباينة.
ويتمتع المحافظون بالأغلبية في المحكمة (6 مقابل 3 قضاة)، مستعدون لاتخاذ قرارات تحظى بتأثيرات بعيدة المدى في المجتمع الأميركي.
لذلك يراود الكثيرون أسئلة عدة بشأن كيفية تأسيس المحكمة، وصلاحياتها، ومهام عملها، وما هي أبرز قراراتها، وكيف تمسّ حياة الأميركيين، وما هو طابع علاقتها بالرئيس والكونجرس؟
تنصّ المادة الثالثة من الدستور الأميركي، على أن "السلطة القضائية للولايات المتحدة، يجب أن تُناط بمحكمة عليا واحدة، وفي محاكم أدنى درجة كما قد يقررها الكونجرس وينشئها من وقت لآخر".
فالمحكمة العليا هي أعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة، وتفصل في كل القضايا والخلافات التي تنشأ بموجب الدستور نسبة إلى قوانين أخرى في البلاد. وقضاتها التسعة مكلّفون بضمان حصول المواطنين على "عدالة بموجب القانون"، كما أنها تؤدي دورها "بوصفها حامية للدستور ومفسّرة له".
وتؤدي المحكمة دوراً حاسماً في النظام الدستوري في الولايات المتحدة، لا سيّما في ضمان أن كلاً من فروع الحكومة يدرك حدود قوته، كما تضع حدوداً مناسبة للحكومة المُنتخبة ديمقراطياً، وتعمل لضمان أن الآراء المتغيّرة للأغلبية لا تقوّض القيم الأساسية المشتركة بين الأميركيين، أي حرية التعبير والدين، إضافة إلى الإجراءات القانونية الواجبة.
تأسيس المحكمة
أُسّست المحكمة العليا في عام 1789، وسمح الدستور للكونجرس بالبتّ في تنظيمها، فمارس هذه السلطة للمرة الأولى، بتمريره "قانون القضاء" لعام 1789، الذي وقّعه الرئيس جورج واشنطن، وينصّ على أن تضمّ المحكمة 6 قضاة، يؤدون عملهم حتى وفاتهم أو تقاعدهم. ولا يمكن إقصاء القاضي من منصبه، إلا من خلال عزله.
ومن أجل ضمان استقلالية القضاة بشكل أكبر، ينصّ الدستور على وجوب الامتناع عن خفض رواتبهم، أثناء تولّيهم مناصبهم. تبدّل عدد قضاة المحكمة 6 مرات، قبل أن يستقرّ على 9، في عام 1869.
والتأمت المحكمة للمرة الأولى، في 1 فبراير 1790، في مبنى Merchants Exchange Building في نيويورك. ولكن بسبب مشكلة في النقل واجهها قضاة، أرجئ الاجتماع حتى اليوم التالي. وانتقلت إلى مقرها الحالي في واشنطن، في عام 1935.
المحكمة لم تنظر في أيّ قضايا خلال ولايتها الأولى، وركّزت اجتماعاتها الأولى على وضع إجراءات تنظيمية.
أصدر القضاة الستة قرارهم الأول في 3 أغسطس 1791، بعد يوم على سماع المحكمة الحجج، في قضية "ويست ضد بارنز" التي تتعلّق بنزاع مالي بين مزارع وأسرة كان مديناً لها.
منذ تشكيل المحكمة، لم تشهد سوى 17 رئيساً للقضاة، و104 قضاة مساعدين، فيما عمِل قضاتها لمدة 16 عاماً في المتوسّط. تُناط سلطة ترشيح القضاة برئيس الولايات المتحدة، ويُثبّت تعيينهم، أو يُرفض، في مجلس الشيوخ.
الرئيس الحالي للمحكمة هو جون روبرتس جونيور، وتضمّ القضاة المساعدين إيمي كوني باريت، وكلارنس توماس، وبريت كافانو، وكيتانجي براون جاكسون، وصامويل أليتو، وسونيا سوتومايور، وإيلينا كاجان ونيل جورسوش.
قضاة المحكمة
رئيس المحكمة جون روبرتس جونيور ولد في نيويورك عام 1955، وتخرج في جامعة هارفارد ثم عمل مساعداً للنائب العام وضمن الهيئة الاستشارية للرئيس السابق رونالد ريجان، ووزارة العدل الأميركية. وقد تولى منصب رئيس المحكمة العليا في 29 سبتمبر 2005 بترشيح من الرئيس الجمهوري السابق جورج دبليو بوش.
وعلى الرغم من ميوله الجمهورية، إلا أن رئيس المحكمة قام بالانحياز للجناح الليبرالي داخل المحكمة محاولاً تحقيق التوازن، مثل انضمامه لأربعة قضاة عينهم رؤساء ديمقراطيون في عام 2018 لرفض طلب من إدارة الرئيس دونالد ترمب بشأن سياسة اللجوء. ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عنه قوله عام 2016 "نحن لا نعمل كديمقراطيين أو جمهوريين".
ويعد كلارينس توماس أكبر أعضاء هيئة المحكمة وكذلك أقدمهم في المنصب، فالقاضي المولود عام 1948 جلس على مقعد المحكمة في 23 أكتوبر 1991 بترشيح من الرئيس الجمهوري جورج بوش. وتوماس صاحب توجهات محافظة بحسب موقع "يو إس إيه توداي".
أما القاضي صامويل أليتو فقد بدأ مهامه في 31 يناير 2006 بترشيح من الرئيس جورج دبليو بوش، وقد ولد عام 1950 وقبل المحكمة العليا عمل في عدة مناصب بسلك المحاماة والنيابة العامة ووزارة العدل. وكان أليتو وراء صياغة مشروع قرار إلغاء حق الإجهاض الذي كشفت عنه مجلة "بوليتيكو" الأميركية في مايو، قبل أن تقره المحكمة العليا رسمياً الشهر الماضي.
سونيا سوتومايور، هي أول قاضية بالمحكمة العليا من أصول لاتينية، وقد تولت المنصب في 8 أغسطس 2009 بترشيح من الرئيس السابق باراك أوباما، المنتمي للحزب الديمقراطي، كما حظيت بترشيح من الرئيس الجمهوري جورج بوش لمحكمة الاستئناف في نيويورك عام 1991.
وبرزت سوتومايور كصوت ليبرالي في المحكمة، بحسب موقع "يو إس إيه توداي" إذ صوتت مع الأغلبية عام 2015 لصالح القرار الذي ألغى حظر زواج المثليين.
بخلفية أكاديمية، أتت إلينا كاجان لمقعد المحكمة العليا عام 2010 بترشيح من الرئيس باراك أوباما، بعد سنوات من التدريس في كلية الحقوق بجامعتي شيكاغو وهارفارد، وعمادة كلية الحقوق بجامعة هارفارد بين عامي 2003 و2009، وتعد أحد الأصوات الليبرالية داخل تشكيل المحكمة العليا، بحسب شبكة "سي إن إن".
وتم تعيين القاضي نيل جورسوش ضمن هيئة المحكمة عام 2017 بترشيح من الرئيس السابق دونالد ترمب، بعدما عمل في مكتب المدعي العام ووزارة العدل. لقبت صحيفة "الجارديان" البريطانية جورسورش بـ"المحافظ القوي"، عند تعيينه، مذكرةً بمقال كتبه عام 2005، قال فيه إن الليبراليين يستخدمون أحكام المحكمة العليا في تمرير أجندتهم الاجتماعية.
ثاني القضاة الذين رشحهم ترمب هو بريت كافانو الذي بدأ العمل في المحكمة العليا في 6 أكتوبر 2018، والذي عمل سابقاً في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بين 2003 و2006. وعلى الرغم من خلفيته الجمهورية المحافظة، إلا أنه رجح كفة الليبراليين في عدة أحكام مهمة، وفق تقرير لمجلة "تايم" الأميركية.
وشهدت نهاية ولاية ترمب ترشيح القاضية إيمي كوني باريت، التي تولت مهامها في 27 أكتوبر 2020، وقد عملت لعقود في المحاماة والعمل الأكاديمي والقضاء. أصغر أعضاء المحكمة سناً كانت تبدو غير منحازة قبل تعيينها، إلا أن خلفيتها المحافظة شجعت المحافظون على دعم ترشيحها عام 2020 وفق مجلة "نيوريوركر".
أحدث أعضاء الهيئة هي كيتانجي براون جاكسون، التي أدت اليمين الدستورية، الخميس الماضي، كأول قاضية من أصل إفريقي في المحكمة العليا الأميركية كبديل للقاضي الليبرالي المتقاعد ستيفن براير.
وستصبح جاكسون البالغة من العمر 51 عاماً، جزءاً من الكتلة الليبرالية للمحكمة بأغلبية 6-3 من المحافظين. ونالت جاكسون 53 صوتاً مقابل 47 صوتاً في مجلس الشيوخ في أبريل الماضي، مع انضمام ثلاثة جمهوريين إلى الديمقراطيين لدعمها، إلا أن تعيينها لن يغير التوازن الأيديولوجي للمحكمة.
8 آلاف قضية
يتخذ القضاة القرار النهائي في المحكمة، ولكن يساعدهم كتّاب عدل في إرساء الأساس للقرار. وهؤلاء مسؤولون عن البحث في السوابق القضائية، وإعداد القاضي لسماع المرافعة الشفوية، وربما صوغ أجزاء كبيرة من رأي الأغلبية في المحكمة، أو الرأي المخالف.
كاتب المحكمة العليا هو موظف مسؤول عن الإشراف على الدعاوى المقدّمة إليها، والاحتفاظ بسجلاتها. ويشغل منصبه بتفويض من الكونجرس، منذ عام 1789، ويمكن إقالته بأمر من المحكمة العليا.
خلال كل فترة، تُرفع من 7 آلاف إلى 8 آلاف قضية جديدة أمام المحكمة، تأتي عادة من محاكم استئناف أدنى. لكن المراجعة العامة، مع المرافعات الشفوية للمحامين، تطال الآن نحو 80 من تلك القضايا في كل فترة، وتفصل المحكمة عادةً في نحو 100 قضية أو أكثر، دون مراجعة عامة.
إضافة إلى أن الفصل في هذه القضايا، يكون كل قاض مسؤولاً عن طلبات الطوارئ ومسائل أخرى، من دائرة واحدة أو أكثر من الدوائر الفيدرالية الـ13 في الولايات المتحدة.
آراء المحكمة نهائية، والاستثناء الوحيد هو المحكمة نفسها، التي يمكنها بمرور الوقت إلغاء سابقة أقرّتها، كما فعلت مع الفصل العنصري. لكن معظم القضاة يعتمدون على مبدأ، يُلزم المحكمة بأحكامها السابقة.
عُزِل قاض واحد في المحكمة، هو القاضي المساعد صامويل تشيس في عام 1805. أقرّ مجلس النواب مواد الإقالة ضده، لكن مجلس الشيوخ برّأه.
الرئيس والكونجرس
للمحكمة العليا الولاية القضائية النهائية على كل القوانين في الولايات المتحدة، وهي مسؤولة عن تقييم دستورية تلك القوانين. وإذا لزم الأمر، لديها سلطة التحقّق من تصرّفات الفرعين الآخرين للحكومة، الفرع التنفيذي ممثلاً برئيس الجمهورية، والفرع التشريعي ممثلاً بالكونجرس.
الكونجرس يسنّ القوانين، التي تفسّرها المحكمة العليا في سياق النزاعات القانونية والقواعد المتعلّقة بدستوريتها. اختلف الكونجرس والمحكمة العليا أحياناً بشأن قضايا، إذ شكّك كلّ منهما بتصرّفات الآخر، لكنهما توصّلا أيضاً إلى قاعدة مشتركة، بالبناء على عمل كل منهما وتعزيزه، في أمر أساسي بالنسبة إلى "نظام الضوابط والتوازنات" المعتمد في الولايات المتحدة.
يمكن للكونجرس معارضة قرارات المحكمة العليا، من خلال اقتراح تعديلات دستورية، تحدّ من اختصاص المحاكم الفيدرالية. في عام 1795، اقترح الكونجرس التعديل الحادي عشر للدستور، رداً على حكم أصدرته المحكمة العليا بشأن دعاوى قضائية مرفوعة ضد الولايات. كذلك يمكن للكونجرس التحكّم في عدد قضاة المحكمة العليا، وعزل قضاتها بتهمة الخيانة أو الرشوة أو جرائم كبرى وجنح.
ويمكن للمحكمة العليا التدقيق في عمل الرئيس، من خلال إعلان أن أوامره التنفيذية غير دستورية. في المقابل، إذا لم يوافق الرؤساء على قرار للمحكمة، فقد يفعلون أقلّ شيء ممكن لتنفيذه، أو في حالات نادرة يتجاهلون القرار تماماً. وعلى سبيل المثال، ألغت المحكمة العليا قرار الرئيس أبراهام لنكولن بتجميد أمر لاتهام شخص بارتكاب جريمة وإحضاره أمام قاض لسجنه، أثناء الحرب الأهلية، لكنه واصل هذه السياسة بموافقة من الكونجرس.
كذلك يمكن للرئيس "كبح نظام قضائي مارق"، أو الحدّ من نطاق بعض قرارات المحكمة على الأقلّ، لا سيّما من خلال زيادة عدد أعضائها، في خطوة قد تبدّل ميزان القوة وتحدث تغييراً في النزعة الأيديولوجية لقضاتها، علماً أن الرئيس الحالي، جون بايدن، لم يستبعد اتخاذ قرار مشابه.
قرارات مفصلية للمحكمة
أصدرت المحكمة العليا قرارات كثيرة منذ تأسيسها، بعضها أحدث تأثيراً دائماً في الولايات المتحدة، سلباً أم إيجاباً. فعلى سبيل المثال، رفضت المحكمة منح الجنسية للأميركيين من أصل إفريقي في عام 1857 (قضية دريد سكوت ضد ساندفورد)، وأيّدت قوانين الفصل العنصري في عام 1896 (قضية بليسي ضد فيرجسون)، طالما كانت التسهيلات الخاصة بكل عرق متساوية في الجودة، وهذا مبدأ عُرف باسم "منفصل ولكن متساوٍ". لكن المحكمة ستلغي هذا القرار في عام 1954، في إطار قضية "براون ضد مجلس التعليم".
كذلك أيّدت المحكمة احتجاز الأميركيين من أصل ياباني في معسكرات اعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، في عام 1944 (قضية كوريماتسو ضد الولايات المتحدة).
في عام 1962، قضت المحكمة بأن الصلاة في المدارس العامة تنتهك التعديل الأول للدستور (قضية إنجل ضد فيتالي). وفي عام 1963، قضت بأن المتهمين الذين لا يستطيعون تحمّل نفقات محامٍ، يجب أن يحصلوا على ذلك من دون بدل مالي (قضية جدعون ضد وينرايت).
وفي "قضية رو ضد ويد"، عام 1973، منحت المحكمة النساء حق الإجهاض، لكنها ألغت ذلك في يونيو الماضي، في قرار لا يزل يثير جدلاً، في الولايات المتحدة وخارجها.
في "قضية الولايات المتحدة ضد نيكسون"، عام 1974، اعتبرت المحكمة أن الرئيس لا يمكنه استخدام سلطته لحجب الأدلة في المحاكمات الجنائية.
كذلك شرّعت زواج المثليين في كل الولايات الخمسين، في إطار "قضية أوبرجيفل ضد هودجز"، عام 2015.
اقرأ أيضاً: