عاد مصطلح "بروتوكول هانيبال" المثير للجدل إلى الظهور مجدداً في إسرائيل، بعد احتجاز فصائل فلسطينية عشرات الأسرى في الهجوم الذي شنته على بلدات ومستوطنات إسرائيلية متاخمة للقطاع السبت الماضي.
وتنص الوثيقة التي تضم نصوصاً سريّة على إلزام أفراد الجيش الإسرائيلي بإحباط أي "عملية اختطاف للجنود، حتى لو كانوا مضطرين لإيذاء، أو جرح أحد جنودنا"، وهي الصيغة التي جرى تعديلها في بروتوكول ثلاثي جديد إلى أنه "يتعين على الجنود إطلاق النار على الخاطفين مع الحرص على تجنب إصابة الجنود المخطوفين".
وظل تطبيق "بروتوكول هانيبال" يكتنفه الكثير من الغموض، فكثيراً ما يُفهم- سواء كان ذلك صحيحاً أم لا - وكأنه يوجّه جنود الجيش الإسرائيلي بقتل زميلهم المختطف بوصف ذلك "أفضل من وقوعه في الأسر".
وكانت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة "حماس" أعلنت الجمعة، أن الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة تسببت في سقوط 13 أسيراً بينهم أجانب، إضافة إلى سقوط 4 إسرائيليين كانوا بين الأسرى في هجوم مماثل الاثنين.
ومع استمرار غموض مصير موقف أسرى إسرائيل في غزة، زاد الحديث بشأن "بروتوكول هانيبال" وما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل في تلك الحالة.
ما هو "بروتوكول هانيبال"؟
هذا المبدأ الذي أرسته ممارسات سابقة في صفوف الجيش الإسرائيلي، يعود تاريخ صياغته إلى صيف عام 1986، بعد عام واحد من اتفاق "جبريل" لتبادل الأسرى، الذي أبرمته تل أبيب مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، حينذاك، وسلمت إسرائيل بموجبه 1150 سجيناً مقابل 3 جنود إسرائيليين، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".
كان الهدف من البروتوكول هو وضع إجراءات محددة لعناصر الجيش الإسرائيلي، لمنع وقوعهم في عمليات أسر من جانب التنظيمات الفلسطينية.
وخضع البروتوكول لتغييرات عدة على مدار السنوات الماضية، بل إن بعض نصوصه صُنفت باعتبارها سرية، وحظرت الرقابة العسكرية الإسرائيلية مناقشتها في الصحافة.
قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط يعقوب عميدرور، وهو أحد 3 ضباط صاغوا البروتوكول، إن ما كان ينقصهم عند صياغة الوثيقة هو الوضوح.
ووفق الصحيفة نفسها، تنص الوثيقة على إلزام أفراد الجيش بإحباط أي عملية اختطاف للجنود "حتى لو كانوا مضطرين لإيذاء، أو جرح أحد جنودنا، لكن دون قتلهم مباشرة".
وبحسب عميدرور، فإن النص كان يوصي بأنه في حال تعرض بعض الجنود للاختطاف باستخدام شاحنة مثلاً، فإنه يتعين على بقية الجنود إطلاق النار عليها، حتى وإن أدى ذلك إلى تعريض زملائهم المخطوفين للخطر، لكن دون الإقدام على ما يفضي إلى مقتلهم بشكل محتوم، كاستخدام صاروخ موجّه لتفجير المركبة وقتل من فيها.
لماذا "هانيبال"؟
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، ذكرت أن إسرائيل تسعى، منذ سنوات، لوضع حد لعمليات اختطاف الجنود والتي تجبرها على تقديم تنازلات "كبيرة وغير متوازنة"، ففي عام 2011، على سبيل المثال، اضطرت إسرائيل إلى الإفراج عن أكثر من 1000 أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي أسرته حركة حماس عام 2006، وبرر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وقتها، إبرام الصفقة "غير المتوازنة" بالقول إن شعب إسرائيل "فريد من نوعه"
وأشارت الصحيفة إلى أن المفهوم الغامض "قتل أفضل من أسر" ظل قائماً، بشكل سري لسنوات، ويخضع لتفسيرات مختلفة، وحتى اسم البروتوكول نفسه كان تفسيره محل خلاف، فهناك من رأى أن اختيار الاسم جاء "بشكل عشوائي"، بينما رأى البعض الآخر أن الاسم مستوحى من اسم القائد العسكري القرطاجي هانيبال بن هاميلكار برقة، الذي فضّل قتل نفسه بالسم على أن يسقط أسيراً في قبضة الرومان.
قتل جماعي؟
طبقت إسرائيل "بروتوكول هانيبال"، لأول مرة عام 1986 بعد أن أسر "حزب الله" اللبناني جنديين إسرائيليين في العام نفسه، لكن لم يتم الاعتراف بتطبيق البروتوكول علناً إلا عام 2003، عن طريق خطاب أرسله أحد الأطباء لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، وسمحت الرقابة العسكرية بنشره لاحقاً.
وأوضحت صحيفة "واشنطن بوست"، أن الإجراء الذي اتبعه الإسرائيليون في ذلك الوقت كان كما يلي: "أثناء عملية الاختطاف، تكون المهمة الرئيسية هي إنقاذ جنودنا، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى إيذاء جنودنا، أو جرحهم، ويجب استخدام الأسلحة الخفيفة لإيقاف الخاطفين، وإذا لم يتوقف الخاطفون، فيجب إطلاق النار عليهم باستخدام أسلحة قنص لإصابتهم، حتى لو كان ذلك يعني إصابة جنودنا. وفي كل الأحوال، يجب القيام بأي شيء لإيقاف مركبة الخاطفين وعدم السماح لهم بالهروب".
وبحسب الصحيفة، فإن إسرائيل استعادت، عام 1991، جثتي الجنديين اللذين اختطفهما "حزب الله"، وليس من الواضح ما إذا كان الجنديان قُتلا خلال تطبيق "بروتوكول هانيبال" أم لا.
وعلى الرغم من تصريحات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، يعقوب عميدرور، بشأن نص البروتوكول على عدم التسبب في قتل الجنود الإسرائيليين بشكل مباشر، فإن ما حدث في أغسطس 2014، يوحي بعكس ذلك؛ فخلال الحرب الإسرائيلية على غزة في العام نفسه، وأثناء سريان اتفاق لوقف إطلاق النار، وقع 3 ضباط إسرائيليين في كمين لحركة حماس، خلال توجههم نحو موقعٍ على مشارف مدينة رفح. وأسفر الحادث عن مقتل 2 منهم، واختطاف الثالث، وكان الضابط المختطف هو الملازم هدار جولدين.
وعندما عثر أفراد الجيش الإسرائيلي على جثة الضابطين، وتيقنوا من فقدان جولدين، كان كل ما فعلوه هو ترديد كلمة واحدة عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، هي "هانيبال"، وما كان من الجيش الإسرائيلي إلا أن اقتحم بدباباته الأحياء المأهولة في رفح، وهدم المنازل، وقصفها بالدبابات والمدفعية، بما في ذلك جميع المركبات التي كانت تغادر المنطقة. وذكرت تقارير فلسطينية، آنذاك، أن عدد القتلى جراء القصف بلغ 150 شخصاً. وفي اليوم التالي مباشرة، أعلن الجيش الإسرائيلي مقتل جولدين خلال الهجوم.
ويؤكد سقوط جولدين بنيران الجيش الإسرائيلي، إعلان "كتائب القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، أنها "ليست لديها أي فكرة عن اختفاء الضابط الإسرائيلي".
وقالت، وقتذاك، إنها "فقدت الاتصال بالقوات المنتشرة في الكمين، وربما قُتل الضابط الإسرائيلي مع مقاتلي الحركة"، حسب ما أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، واعتبرت جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل، آنذاك، منح الجنود الإذن بإلحاق الأذى بجندي آخر لمنع اختطافه "أمراً غير قانوني".
تناقضات عميقة
ظل "بروتوكول هانيبال" محل جدل محتدم بين أفراد الجيش الإسرائيلي لسنوات، وهناك قائد كتيبة واحد، على الأقل، رفض توجيه أوامر لجنوده من واقع تعليمات البروتوكول. ودافع عن موقفه بالقول إن البروتوكول ينطوي على "مخالفة صارخة للقانون". وفي حالة أخرى، توجه جندي بسؤال إلى حاخام يهودي عن موقف الدين من الأمر، فنصحه بعصيان البروتوكول.
وسلطت مجلة "ذا نيويوركر" الأميركية الضوء على بعض التعقيدات المحيطة ببروتوكول هانيبال، فمن الأمور اللافتة أنه في عام 2011، وفي إطار تحقيقات الجيش الإسرائيلي بشأن ملابسات اختطاف الجندي جلعاد شاليط، أدخل رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، بيني جانتس، تعديلًا على البروتوكول، بحيث يسمح للقادة الميدانيين بالتصرف مباشرة دون انتظار توجيه، أو إذن من قادتهم بتفعيل البروتوكول، لكنه في الوقت نفسه خفف صياغته المباشرة، بحيث يُفهم بجلاء أن البروتوكول "لا يوجه بقتل الجنود المختطفين عمداً".
وأرسى جانتس، بهذا التعديل، قاعدة تُعرف باسم "مبدأ التأثير المزدوج"، ويقصد به أن الأثر السيئ (مقتل جندي أسير بالخطأ نتيجة تفعيل بروتوكول هانيبال) أمر "مقبول أخلاقياً" "فقط كأثرٍ جانبي لمحاولة الإقدام على عمل صائب" (إيقاف الخاطفين).
وفي عام 2014، في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة (عملية الجرف الصامد)، كتب الصحافي الإسرائيلي أنشيل فيفر في صحيفة "هآرتس" محاولاً تسويغ "بروتوكول هانيبال": "لعل السبب الأكثر رسوخاً وراء فهم الإسرائيليين، بالفطرة، مدى الحاجة إلى بروتوكول هانيبال هو الروح العسكرية التي تقتضي عدم التخلي عن الجرحى وتركهم في ميدان المعركة.
وشرح الكاتب والصحافي الإسرائيلي رونين بيرجمان، مؤلف كتاب "بأي وسيلة ضرورية" الذي يعرض تاريخ إسرائيل في التعاطي مع حالات الجنود الأسرى، أن "هناك حساسية مبالغاً فيها لدى الإسرائيليين حيال قضية الجنود الأسرى، ويصعب شرح ذلك لغير الإسرائيليين".
وردّ بيرجمان هذه الحساسية إلى تعاليم الطبيب والفيلسوف اليهودي في العصور الوسطى، موسى بن ميمون، الذي كتب أنه "ما من وصية أعظم من فداء الأسرى".
وعلقت "ذا نيويوركر" بأن مثل هذه الحجج "تنطوي على تناقض أخلاقي"، فمن حيث الجوهر تعني "الروح العسكرية" أن إسرائيل تقدس أرواح جنودها، ومستعدة لدفع ثمن باهظ لتحريرهم من الأسر، وأنها ستفعل كل ما بوسعها لمنع وقوعهم في الأسر (بما في ذلك تعريض حياة هؤلاء الجنود أنفسهم للخطر)، وهذا بالضبط هو الموقف الملتبس الذي تجد إسرائيل نفسها فيه، أي إفهام الجيش أن "جندياً قتيلاً أفضل من جندي أسير"، وفي الوقت ذاته إفهام الجمهور الإسرائيلي أن الدولة "لن تدخر وسعاً لتأمين إطلاق سراح جندي أسير".
بروتوكولات بديلة
في يونيو 2016، أصدر رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، جادي آيزنكوت، قراراً بإلغاء "بروتوكول هانيبال"، حسبما أفادت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، وصياغة توجيه جديد للتعاطي مع حالات وقوع الجنود الإسرائيليين في الأسر، وإن لم يكن ذلك يعني تغييراً جذرياً كاملاً في سياسة التعامل مع هذه الحالات، وإنما بالأحرى توضيح ما يرمي إليه "بروتوكول هانيبال" تحديداً.
وأوضحت الصحيفة أن آخر مرة جرى تفعيل البروتوكول بصيغته القديمة كانت في مارس 2016، عندما أُصيب جنديان إسرائيليان في مخيم قلنديا، واضطرا لترك سيارتهما، وعمد القادة الميدانيون إلى تفعيل "بروتوكول هانيبال"، لمدة نصف ساعة، قبل العثور على الجنديين، وخوض اشتباك لإعادتهما. وأسفر الاشتباك عن مقتل شاب فلسطيني، وإصابة عشرات آخرين، بينهم 10 من أفراد الشرطة الإسرائيلية.
ولا يُعرف الكثير عن تفاصيل التعديلات التي أُدخلت على "بروتوكول هانيبال"، ولكن يُعتقد، بحسب تقارير، أن صيغته القديمة القابلة للتطبيق في أي مكان حلت محلها 3 بروتوكولات مختلفة، اعتماداً على ظروف ومكان الاختطاف، الأول في الضفة الغربية خلال وقت السلم، والثاني في أي مكان خارج حدود إسرائيل في وقت السلم، والثالث في أي مكان داخل أو خارج إسرائيل خلال حالة الحرب، أو أي حالة طوارئ أخرى، مع ملاحظة أنه ليس هناك بروتوكول خاص بحالة اختطاف جندي داخل إسرائيل في وقت السلم.
ويُعتقد أن البروتوكول الثلاثي الجديد ليس بعيداً عن "بروتوكول هانيبال"، ولكنه ينص تحديداً على أنه يتعين على الجنود إطلاق النار على الخاطفين "مع الحرص على تجنب إصابة الجنود المخطوفين". وهذا التوضيح مضاف خصيصاً لضمان إزالة أي سوء فهم لدى الجنود، كما ينبّه البروتوكول الجديد إلى ضرورة تجنب الجنود وقوعهم في الأسر عند محاولتهم منع خطف زملائهم.
ويُعرف البروتوكول الخاص بعملية الاختطاف في الضفة الغربية وقت السلم باسم "الاختبار الحقيقي"، أما البروتوكول الخاص بالاختطاف في أي مكان خارج حدود إسرائيل في وقت السلم، فيحمل اسم "العاصبة" (ضمادة لوقف النزيف)، فيما يُطلق على البروتوكول الخاص بالاختطاف في أي مكان داخل أو خارج إسرائيل خلال حالة الحرب اسم "حارس نفسه"، وهي عبارة مستوحاة من مَثَلٍ في التراث اليهودي يقول: "حارس نفسه يبقى بعيداً"، ويجرى ذكره لتحذير المرء من دفع نفسه إلى التهلكة.