عندما اشتدّ الجوع على سكان قطاع غزة، خطرت على بال الشيف الشّهير خوسيه أندريس، وهو صديق الرئيس الأميركي جو بايدن، فكرة إيصال الطعام للفلسطينيين المحاصرين عبر البحر، إذ كان أوّل من اقترح هذه الآلية، مقرراً بذلك تكسير الحواجز الإسرائيلية وإنشاء مئات المطاعم المتنقلة التي أعادت الحياة إلى جزء من سكان القطاع.
نال أندريس الثناء لدوره في إطعام آلاف الفلسطينيين في وقت حاصرت فيه إسرائيل كل المنافذ البرية والبحرية والجوية المؤدية إلى قطاع غزة.
كما تعهّد رئيس منظمة "وورلد سنترال كيتشن"، التي قتل الجيش الإسرائيلي 7 من موظفيها في غزة، بتوفير الغذاء في القطاع، داعياً إلى وقف إطلاق النار والسّماح بدخول المساعدات وتجنب استخدام الجوع كـ"سلاح في قطاع غزة".
واتهم الطاهي الشهير إسرائيل خلال مقابلة مع شبكة CBS، باستهداف ناقلة مساعدات عمداً، و"شن حرب ضد الإنسانية نفسها"، إذ قال: "لا يمكنك أن تحارب الأساس الذي يجب أن تدافع عنه الإنسانية".
ويعد أندريس أحد مشاهير الطهي في العالم، ومالكاً لمجموعة من المطاعم التي تتوزع بين المكسيك والشرق الأوسط والصين وبيرو. وتمكن من استغلال قربه من الدوائر السياسية والحكومية الأميركية ليجعل من نفسه أكثر من مجرد طاهٍ مشهور، إذ تحولت منظمته إلى "أكبر مزود للمساعدات الغذائية الطارئة في العالم"، وفق "وول ستريت جورنال".
واكتسب أندريس شهرة واسعة بعدما استقبل مطعمه في واشنطن، ضيوفاً من العيار الثقيل أمثال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والسيناتور كوري بوكر، ومستشارة الأمن القومي السابقة، سوزان رايس، والممثل وحاكم كاليفورنيا السابق أرنولد شوارزنيجر.
ومنحت حكومة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2014 لقب "أبرز أميركي بالاختيار" لأندريس، وهي جائزة تُمنح لمواطنين من دول أخرى حصلوا على الجنسية الأميركية وحققوا إنجازات استثنائية، ثم منحته الحكومة في عام 2015 القلادة الوطنية للعلوم الإنسانية.
كما رشّحته رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي، واثنين آخرين من الديمقراطيين في مجلس النواب لجائزة نوبل للسلام. وفي عام 2021، رشحه الملياردير الأميركي ومؤسس شركة "أمازون" جيف بيزوس لنيل جائزة للشجاعة و"الكياسة" بقيمة 100 مليون دولار.
وقال بيزوس أمام حشد من الناس تجمعوا في فان هورن بولاية تكساس: "لا توجد بيروقراطية، ولا لجان، إنهم يفعلون ما يريدون فقط"، ليصف بعد ذلك أندريس هذه المنحة بأنها "بداية فصل جديد" لمنظمة "وورلد سنترال كيتشن".
في عام 2022، عُرضت صورته في معرض الصور الوطني التابع لمؤسسة سميثسونيان.
مواجهة ترمب
في عام 2015، فتح أندريس مطعماً بكلفة 7 ملايين دولار، في مبنى "أولد بوست أوفيس"، التابع للملياردير الأميركي آنذاك دونالد ترمب، والذي كان وقتها على أبواب معركته الانتخابية، وكان من المقرر أن يسمي المطعم "توبو آتريو"، وفق "واشنطن بوست".
وبعد الاتفاق على تفاصيل العقد، تفاجأ أنديرس بتصريحات لترمب يقول فيها "ماذا يفعل المكسيكيون على الحدود؟ إنهم يضحكون علينا وعلى غبائنا. المكسيكيون عندما يرسلون لنا أناساً من عندهم لدخول أميركا، لا يرسلون أحسن من لديهم، هم يرسلون أناساً يثيرون مشكلات معنا، يرسلون من يجلب معه المخدرات، ومن يمارس الجريمة، ومن يمارس الاغتصاب".
وأثارت هذه التصريحات غضب أندريس، واعتبرها عنصرية، وقال لموقع DCist إن "تصريحات ترمب تسيء إلى المهاجرين، وتجعل من المستحيل السير قدماً معه، نصف فريقي إسباني، وأنا أيضاً إسباني، وأعتز بأصلي، وأعتقد أن كل إنسان يستحق الحياة، بغض النظر عن وضعه في الهجرة".
ونتيجة لذلك، قرر أندريس الانسحاب من مشروع المطعم، ما دفع ترمب إلى رفع قضية ضده، وطالب بتعويض بـ10 ملايين دولار، ليرد بعدها أندريس بقضية مقابلة يستند فيها إلى "استحالة تنفيذ العقد في ظل تصريحات عنصرية"، ليظل التجاذب بينهما عاماً، حتى تمت تسوية النزاع خارج المحكمة في 2017، وفق "واشنطن بوست".
وبعد الحكم، قال ترمب في بيان: "أنا سعيد لأننا قادرون على ترك هذا الأمر وراءنا والمضي قدماً كأصدقاء"، مضيفاً: "منذ افتتاحه في سبتمبر 2016، حقق فندق ترمب إنترناشيونال، نجاحاً مذهلاً ويحظى فريقنا بأكمله باحترام كبير لإنجازات كل من أندريس وفريقه"، وفق موقع Salon.
كما وصفه صديقه الراحل أنتوني بوردان قائلاً: "الطاهي الوحيد في تاريخ أميركا الذي تمت مقاضاته من قبل رئيس حالي"، في إشارة إلى ترمب الذي وصل إلى السلطة في عام 2017.
"صداقة قوية مع بايدن"
تؤكد "مكالمة التعزية" التي تلقها أندريس من الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد الغارات الإسرائيلية التي قتلت 7 من عمال الإغاثة التابعين له، مدى العلاقة القوية التي تجمع الرجلين، كما تعكس المكانة التي يحظى بها الطاهي الشهير في دواليب السلطة في واشنطن، وفق "أكسيوس".
وتحدث أندريس الثلاثاء مع الرئيس بايدن، الذي يعتبره صديقاً، في محادثة هاتفية خاصة قبل أن يقول لـ"رويترز"، إن سياسة الرئيس المتمثلة في تسليح إسرائيل "معقدة للغاية".
وطالب أندريس، إسرائيل بـ"وقف القتل العشوائي" في تدوينة نشرها لمتابعيه على فيسبوك، البالغ عددهم مليون شخص. وفي مقال افتتاحي نُشر الأربعاء في صحيفة "نيويورك تايمز"، وفي صحيفة "يديعوت أحرونوت"، كتب أنه لا يمكن كسب الحرب "من خلال تجويع شعب بأكمله".
وخلال مسيرته المهنية اشتدت خلافات أندريس مع قادة الكونجرس الأميركي بسبب إحجامهم عن السماح بمزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، كما بات يشكك علناً في سياسات بايدن في الشرق الأوسط، ويدعو إلى إعادة التفكير في عمليات نقل الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل، وفق "أكسيوس".
وقال النائب جيمي راسكين (ديمقراطي من ولاية ميريلاند): "من غير الممكن أن يسمح الشيف أندريس لأي شخص بتجاهل الأمر، إنها لحظة للتأمل العالمي العميق في مسار الحرب"، وفق "أكسيوس".
وقالت إسرائيل إن الغارة الجوية كانت نتيجة "خطأ في التعرف على الهوية"، وأصدر الجيش اعتذاراً نادراً، ووعد بإجراء تحقيق. وقد دعا المطبخ المركزي العالمي، الذي أسسه أندريس عام 2010 استجابة لزلزال هايتي، إلى إجراء تحقيق مستقل.
وتحظى شهرة أندريس بجاذبية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن، حيث أدار إمبراطورية مطاعم موسعة لعقود من الزمن، مما أتاح له الوصول إلى نخبة العاصمة. كما اكتسب الاحترام في إسرائيل، حيث قفزت منظمته إلى العمل بعد هجوم "حماس" المفاجئ في 7 أكتوبر، حيث قدمت مئات الآلاف من الوجبات للإسرائيليين النازحين.
وقد نالت منظمته الثناء في المحادثات داخل مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، الذي يرى أن المجموعة مفيدة في غزة. وقال مسؤول إسرائيلي: "إنها منظمة نقدرها"، وفق "أكسيوس".
"حضور قوي في أوكرانيا"
بعد أقل من يوم من الغزو الروسي لأوكرانيا، كان فريق أندريس يطعم الناس داخل مقاطعة دونيتسك الواقعة على خط المواجهة. وسرعان ما وصل أندريس إلى أوكرانيا بنفسه، مرتدياً خوذة قتالية، ويغرف الحساء للنساء المسنات في بابوشكا قبل وقت طويل من وصول برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إلى هناك، وفق "وول ستريت جورنال".
وقالت يوليا ستيفانيوك، الرئيسة السابقة لبعثته الأوكرانية: "بشكل عام، ظل أندريس يحاول تحسين جودة الطعام، ولم يكن يقدم نفس الوجبة كل يوم".
واتبع أندريس قواعد اللعبة الخاصة به، حيث ذهب مباشرة إلى المدن الأوكرانية، وقام بتعيين طهاة محليين سريعاً لإعداد الأطباق التي يعرفونها بشكل أفضل. وقالت ستيفانيوك إنه تمكن من التواصل مع نحو 500 مطعم في الدولة التي تمزقها الحرب. وعندما أصيب أحدهم بصاروخ بعد شهرين من الغزو الروسي، نقل المتطوعون أدوات المطبخ والمكونات إلى مكان آخر، واستمروا في الطهي، وفق "وول ستريت جورنال".
وفي بولندا، وباستخدام خدمة الترجمة من جوجل، قام بتنظيم مئات المتطوعين لتقديم الأطباق لملايين الأوكرانيين الذين فروا من الحرب، عبر الحدود سيراً على الأقدام، أو في سيارات مكتظة.
وفي خطاب ألقاه في وارسو، شكر بايدن "الطاهي الأميركي العظيم خوسيه أندريس وفريقه الذي ساعد في إطعام أولئك الذين يتوقون إلى الحرية".
خلال الأسابيع القليلة الماضية، جلبت "وورلد سنترال كيتشن" حوالي 600 طن من المواد الغذائية والمساعدات إلى شمال غزة، باستخدام ممر المساعدات البحرية الذي تم افتتاحه الشهر الماضي. وتقول المؤسسة الخيرية إنها قدمت حتى الآن للفلسطينيين الذين يواجهون المجاعة أكثر من 43 مليون وجبة، تم تسليمها عن طريق البر والجو والبحر.
كما قامت بتعبئة وإنشاء مطابخ ميدانية جاهزة وشاحنات طعام وأنظمة توزيع، للحصول على وجبات مغذية في أسرع وقت ممكن.
وفي نهاية فبراير، قالت الأمم المتحدة، إن ما لا يقل عن 576 ألف شخص في غزة -أي ربع سكانها- "على بعد خطوة واحدة من المجاعة". وفي منتصف مارس، قال التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إن 1.1 مليون شخص، أي نصف سكان غزة، يواجهون المجاعة، وفق صحيفة "الجارديان" البريطانية.
ورغم القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، تمكنت المنظمة من إنشاء مطبخ ميداني في رفح، كما عملت على إقامة شبكة من المطابخ المتنقلة في جميع أنحاء غزة، وإرسال مئات من شاحنات المساعدات الغذائية إلى المحتاجين"، وفق المنظمة.
وتقدم المنظمة مواداً أساسية، من قبيل الأرز والمعكرونة والدقيق والبقوليات والخضروات المعلبة والبروتينات والفاصوليا والجزر والتونة المعلبة والحمص والذرة المعلبة والزيت والملح والتمر.
ويملك أندريس ما يقرب من 40 مطعماً حتى الآن موزعين في العالم، بما في ذلك The Bazaar، وZaytinya، والميني بار المتطور الذي يتسع لـ 12 مقعداً.
وبالإضافة إلى كونه طاهياً عالمياً، يعمل أندريس في مجال التأليف، كما أنه مقدم برامج تلفزيونية، ومنتج بودكاست، ومعلم، ومرشح لجائزة نوبل للسلام.
وولد أندريس في أستورياس بإسبانيا، ونشأ في برشلونة، وقد تأثر بثقافة تذوق الطعام في بلاده. "لم نكن أثرياء عندما كنت طفلاً، وكان لدى أمي وأبي أربعة أولاد لإطعامهم، لذلك كان الأمر عادة يتعلق بالطعام الطازج المطبوخ ببساطة" يقول أندريس.
ومع ذلك، بدأ الشيف العمل ببطء، ولكن بثبات في مطابخ برشلونة وكوستا برافا الإسبانية، حيث التقى بالشيف فيران أدريا، رئيسه ومعلمه المستقبلي. كان ذلك في عام 1988، بعد أربع سنوات من تولي أدريا إدارة مطعم elBulli، وهو مطعم متواضع على شاطئ البحر في بلدة روزيز الكتالونية.
وغادر أندريس إسبانيا إلى الولايات المتحدة، حيث قضى فترات في نيويورك وكاليفورنيا قبل أن يتولى إدارة مطعم جديد في واشنطن العاصمة يسمى جاليو. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن يجذب العملاء واهتمام وسائل الإعلام واحترام أقرانه.