صنعت التاريخ وتوقعت المستقبل.. كيف نشأت فكرة "إكسبو"؟

time reading iconدقائق القراءة - 13
جانب من الحضور في معرض "إكسبو شيكاغو" بالولايات المتحدة الأميركية عام 1933 - bie-paris.org
جانب من الحضور في معرض "إكسبو شيكاغو" بالولايات المتحدة الأميركية عام 1933 - bie-paris.org
دبي-محمد البحيري

قبل 172 عاماً انطلق أول معرض "إكسبو" في العاصمة البريطانية لندن، لتبدأ قصة تعاون عالمي عبر 35 حدثاً مثلت فرصة يستعرض الإنسان خلالها قوته في مواجهة التحديات، واستعداده لمسابقة الزمن، عبر عرض أحدث ما وصل إليه العقل البشري من اختراعات صنعها بالفعل لتغيير حاضره، أو ابتكارات يطمح إليها لتغيير مستقبله.

كان ذلك واضحاً منذ اللحظة الأولى مع تنظيم أول معرض إكسبو عام 1851، والذي عرف باسم "المعرض العظيم"، في لندن، حيث تم استعراض أحدث إنجازات الثورة الصناعية، التي كانت بمثابة نقطة تحول في التاريخ، وتركت آثارها على مختلف جوانب الحياة في العالم كله.

الأمير ألبرت وأول إكسبو

كان وراء تنفيذ أول معرض في التاريخ الأمير ألبرت، زوج ملكة بريطانيا الملكة فيكتوريا، بالإضافة إلى موظف حكومي شاب كان لديه شغف بالفنون والصناعات يدعى السير هنري كول.

كانت الفكرة في الأساس مستوحاة من "المعرض الصناعي"، الذي نظمته فرنسا على نطاق محلي عام 1844، بحسب الموقع الرسمي للمكتب الدولي لمعارض إكسبو، لكن الأمير ألبرت والسير هنري كول سعيا إلى تنظيم الحدث على نطاق أوسع، فشاركت فيه 25 دولة.

وبعد رفض أكثر من 200 تصميم مقترح، وافقت اللجنة المنظمة على تصميم اقترحه مهندس متخصص في تنسيق الحدائق وعلوم البستنة ويملك خبرة في بناء الصوبات الزراعية يدعى جوزيف باكستون.

 وكان التصميم، الذي عرفا لاحقاً باسم "كريستال بالاس"، عبارة عن هيكل ضخم من الحديد والزجاج، تم بناؤه خصيصاً لهذا الحدث في "هايد بارك"، بعد أن استوفى شروط اللجنة المنظمة، التي طلبت مبنى غير مكلف، كبيراً بما يكفي لاستيعاب أجنحة الدول المشاركة فضلاً عن آلاف الزوار، وبسيطاً بما يكفي لتفكيكه بعد المعرض.

وتم بناء هيكل "قصر الكريستال"، الذي بلغ طوله 563 متراً وعرضه 124 متراً، في غضون بضعة أشهر فقط، واكتسى بأكثر من 300 ألف لوح زجاجي، ليقدم مساحة بلغت 92 ألف متر مربع مضاءة بشكل طبيعي.

أيقونات الثورة الصناعية

ومع الإقبال الجماهيري الضخم، كلفت اللجنة المنظمة مهندساً صحياً وسباكاً إنجليزياً يدعى جورج جينينجز بتدبير أماكن يمكن للزوار والمشاركين أن يقضوا حاجتهم فيها، فقام بتركيب أول مراحيض عامة بالعالم في "كريستال بالاس"، ليسجل التاريخ اسمه باعتباره من اخترع أول مراحيض عامة.

وفي "إكسبو لندن" أو "المعرض العظيم"، شارك 17 ألف عارض، عرضوا 100 ألف قطعة داخل "قصر الكريستال". وكان نصف العارضين تقريباً من المملكة المتحدة وتوابعها، وجاء النصف الآخر من 24 دولة.

وتم تجميع المعروضات في 4 أقسام هي المواد الخام، الآلات، المصنوعات، والفنون الجميلة التي كانت تضم أعمال الهندسة المعمارية والنحت، وليس اللوحات.

وكانت العديد من الابتكارات المعروضة عبارة عن أيقونات الثورة الصناعية، مثل أحدث القطارات والآلات التي حولت القطن الخام إلى قماش، والمكبس الهيدروليكي، وآلة الطباعة التي يمكنها إنتاج 5 آلاف نسخة في الساعة.

 وكان من بين المعروضات الأميركية في هذا المعرض الأسنان الصناعية والأقدام الصناعية البديلة لذوي الاحتياجات، فيما عرض البريطانيون المحركات البخارية والمضخات، بحسب الموسوعة البريطانية.

حصاد أول "إكسبو"

تقول الأرقام الرسمية إن المعرض اجتذب 6 ملايين و39 ألفاً و195 زائراً، وحقق أرباحاً بلغت 186 ألف جنيه إسترليني، أي ما يعادل أكثر من 18 مليون جنيه إسترليني اليوم، بحسب الموقع الرسمي لمعارض إكسبو، والذي يقول إن الهيئة الملكية المنظمة للمعرض استثمرت هذه الأموال في إنشاء منطقة جديدة للعلوم والتعليم في جنوب كنسينجتون، وتعرف اليوم باسم "ألبرتوبوليس"، في إشارة إلى الأمير ألبرت الذي كان وراء الفكرة.

وتجسيداً للأثر الدائم لمعرض "إكسبو لندن"، باتت المنطقة اليوم مركزاً للتعليم والثقافة، وتشمل مؤسسات مثل متحف فيكتوريا وألبرت، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف العلوم، والكليات الملكية للفنون والموسيقى، وكلية إمبريال، وقاعة ألبرت الملكية.

 وكما هو مخطط، تم تفكيك قصر الكريستال وإعادة بنائه في منطقة "سيدنهام هيل" جنوبي لندن، حيث تم استخدامه في العقود التالية في أغراض متعددة، بما في ذلك قاعة للحفلات الموسيقية ومتحف وحديقة نباتية، قبل أن يدمره حريق في عام 1936.

جوهر إكسبو

من هنا تبلورت أغلب ملامح معارض "إكسبو"، باعتبارها فكرة تجمع العالم معاً في مشروع كبير ومشترك لإيجاد حلول لتحد أساسي يواجه البشرية، وتشجع الاهتمام المشترك القائم على تبادل الأفكار وأفضل الممارسات والتجارب من اجل التوصل إلى حلول وتطوير أشكال جديدة من التعاون.

وكما ظهر في لندن 1851، من خلال الجمع بين مجموعة متنوعة من التجارب المرئية والحسية، باتت معارض "إكسبو" نموذجاً مصغراً يقدم تجارب لا تُنسى للمشاركين والزوار على حدٍ سواء، فالهندسة المعمارية المبتكرة لموقع "إكسبو"، وأجنحة الدول المشاركة، والتكنولوجيا الرائدة والبرنامج الثقافي المزدحم كلها عوامل تجعل من "إكسبو" تجربة مبهجة وجذابة للزوار. 

ومن خلال جمع الدول من مختلف أنحاء العالم، يوفر "إكسبو" فرصة نادرة لتعزيز الدبلوماسية العامة متعددة الأطراف وتعزيز التفاهم في العلاقات الدولية.

وتتيح المشاركة في معرض "إكسبو" إنشاء عالم مصغر عابر تبرز فيه قيم التقدم والحوار العالمي، فتوفر فرصة فريدة للانخراط في الدبلوماسية الثقافية والتفاعل مع البلد المضيف والمشاركين الآخرين والسياح المحتملين والشركاء التجاريين والمستثمرين.

الأثر الدائم

وحتى على مستوى الفرد، تعزز معارض "إكسبو" مشاعر الانتماء للوطن المضيف، فضلاً عن دورها في تشكيل سلوكيات جديدة، وزيادة الوعي بالتحديات التي تواجه البشرية في جميع أنحاء العالم.

ولكن الأثر الدائم لا يكون على الإنسان فقط، وإنما على المكان والزمان أيضاً، فالتنمية الاقتصادية والثقافية التي تنبع من استضافة معرض "إكسبو" تعد دافعاً للتحول الحضري الدائم في موقع "إكسبو" وما بعده. 

وتعد مشروعات "إكسبو" جزءاً أساسياً من خطط التنمية الحضرية، إذ تعمل كمحفز لتسريع تحول المدن ولها تأثير طويل الأجل على المجتمع من خلال مظاهر مادية ملموسة مثل الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري، بما يتضمنه ذلك من شق الطرق وبناء المنشآت وخلق فرص العمل والاستثمار، أو عبر مظاهر غير مادية كالثقافة والتعليم.

سباق دولي

تحول الأمر من سباق مع الزمن إلى سباق بين الدول، حتى أضحت معارض "إكسبو" تعبيراً عن القوة التي وصلت إليها الدولة، التي تستضيف فعالياتها.

فتنظيم معرض "إكسبو" بحد ذاته يحتاج إلى قدرات اقتصادية لتوفير ما يحتاجه الحدث من نفقات، ويحتاج إلى قوة في العلاقات الدبلوماسية لضمان مشاركة أكبر عدد ممكن من الدول والجهات.

 ويحتاج الأمر إلى قوة أمنية لضمان تأمين الحدث والمشاركين فيه والزوار، كما يحتاج إلى قوة سياحية، بكل ما يعنيه ذلك من قدرة على التعامل بشكل احترافي مع كافة العناصر من توافر الفنادق وتكامل الخدمات والقوة البشرية التي تجيد التعامل مع السائح، فضلاً عن توافر المظاهر والمعالم السياحية القادرة على اجتذاب انتباه الآخرين ودفعهم إلى السعي لزيارتها وتجربتها.

كل هذه العوامل ألقت بمعارض "إكسبو" في ساحة التنافس الدولي، كتعبير عن تنافس بين القوى العالمية في مختلف المجالات، وهذا ما بدا واضحاً في المعرض الثاني "إكسبو باريس" عام 1855.

إكسبو باريس 1855

مع نجاح "إكسبو لندن 1851"، أصدر الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث مرسوماً في 8 مارس 1853 بعقد معرض عالمي في باريس، لكنه أراد التأكد من أن النسخة الفرنسية تفوق النسخة البريطانية من حيث الحجم والدول المشاركة ومجالات العرض. لذلك ركز "إكسبو 1855" ليس فقط على الزراعة والصناعة، لكن أيضاً على الفنون الجميلة.

وتأخر افتتاح "إكسبو باريس" بسبب اندلاع حرب القرم بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853.

ورغم استمرار الحرب حتى عام 1856، تم تدشين "إكسبو باريس" في 15 مايو 1855، بمشاركة 28 دولة، من إمبراطوريات وممالك، كان من بينها مصر والصين والدولة العثمانية والولايات المتحدة والمكسيك، ولم تشارك روسيا بطبيعة الحال لأنها كانت العدو لأغلب المشاركين.

ولأهمية الحدث، أشرفت على "إكسبو باريس" لجنة برئاسة الأمير لويس نابليون، ابن عم الإمبراطور. وشمل المعرض بناء قصور متخصصة من بينها قصر الصناعة بطول 252 متراً وعرض 108 أمتار، بسقف زجاجي ضخم مدعوم بعوارض وأعمدة من الحديد، وضم العديد من المباني الملحقة لاستيعاب 24 ألف عارض بمختلف المجالات، وكان من بينها أرقى الحرف اليدوية، بما في ذلك المجوهرات، والأعمال الزجاجية، وأعمال الكريستال والذهب والبرونز، وخزف سيفر.

 وشهد "إكسبو باريس" الكشف عن مجموعة من الاختراعات، مثل أول آلة لجز العشب في العالم، وأول غسالة، وأول ماكينة خياطة من "سينجر"، وأول دمية ناطقة، ومسدس سامويل كولت.

وتوافدت الحشود لتجربة آلة صنع القهوة التي كانت قادرة على إنتاج 50 ألف فنجان يومياً.

وشمل "إكسبو باريس" كذلك معرضاً فنياً داخل قصر الفنون الجميلة، وضم معرضاً كاملاً لجان أوجست دومينيك إنجرس، بالإضافة إلى 35 لوحة لأوجين ديلاكروا، وأعمال فرانسوا رود، ومنحوتات بارثولدي وباري، وأعمال الواقعية الفرنسية من خلال أعمال جان بابتيست كميل كورو، وتيودور روسو، وجان فرانسوا ميليت، وتشارلز فرانسوا دوبيني، وجوستاف كوربيه.

وفي 15 نوفمبر 1855، أقيم حفل الختام في قصر الصناعة بحضور الإمبراطور نابليون الثالث وزوجته أوجيني لتوزيع الجوائز، وتم منح ما يقرب من 11 ألف ميدالية، بما في ذلك 112 ميدالية شرف كبيرة، بما في ذلك واحدة لأدولف ساكس، المخترع البلجيكي لآلة الساكسفون الموسيقية. 

ومع بلوغ عدد الزوار 5 ملايين و162 ألفاً و330 زائراً، بات الحدث بمثابة تدشين التنافس بين بريطانيا وفرنسا، القوتين العظميين آنذاك، في تنظيم معارض "إكسبو" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فنظمت لندن المعرض التالي عام 1862 بينما استمرت العاصمة الفرنسية في تنظيم 4 معارض أخرى في 1867 و1878 و1889 و1900.

إكسبو عبر الزمن

ومنذ ذلك الحين، زادت حدة المنافسة الدولية حتى توالت معارض "إكسبو" خلال 3 قرون، وبعيداً عن المعارض التي تنافست فيها فرنسا وبريطانيا، دخلت المنافسة دول أخرى مثل النمسا التي نظمت "إكسبو فيينا 1873"، ثم الولايات المتحدة الأميركية عبر "إكسبو فيلادلفيا 1876" ثم "إكسبو شيكاغو 1893"، و"إكسبو سانت لويس 1904" و"إكسبو سان فرانسيسكو 1915" و"إكسبو شيكاغو 1933" و"إكسبو نيويورك 1939"، و"إكسبو سياتل 1962".

 ثم ظهرت أستراليا عبر "إكسبو ملبورن 1880"، تلتها إسبانيا عبر "إكسبو برشلونة" مرتين عامي 1888 و1929 و"إكسبو إشبيلية 1992".

وانضمت بلجيكا إلى السباق عبر "إكسبو بروكسل" في أعوام 1897 و1910 و1935 و1958، و"إكسبو لييج 1905"، و"إكسبو جينت 1913".

وبعد ذلك دخلت إيطاليا على الخط عبر "إكسبو ميلانو" مرتين عامي 1906 و2015، ثم هاييتي عبر "إكسبو بورت أو برينس 1949"، تلتها كندا عبر "إكسبو مونتريال 1967" واليابان عبر "إكسبو أوساكا 1970" و"إكسبو آيشي 2005" فضلاً عن "إكسبو أوساكا كانساي 2025" المنتظر بعد عامين.

وشاركت ألمانيا في الحدث الدولي عبر "إكسبو هانوفر 2000"، ثم الصين عبر "إكسبو شنغهاي 2010"، وأخيراً جاء الظهور العربي الأول للإمارات عبر إكسبو دبي 2020.

والآن، تسعى السعودية إلى خوض تجربتها الخاصة فقدمت ملفاً للفوز بتنظيم "إكسبو 2030 الرياض".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات